إلى أين يقود قيس سعيّد تونس؟

إلى أين يقود قيس سعيّد تونس؟
إلى أين يقود قيس سعيّد تونس؟

رفيق عبد السلام

أفريقيا برس – تونس. حرك الإضراب عن الطعام الذي دشّنه السجين السياسي والقيادي في جبهة الخلاص الوطني في تونس جوهر بن مبارك، وما تلاه من أحداث وتطورات، الكثير من المياه الراكدة التي عمل نظام قيس سعيّد على تجميدها بمزيج مركب من القمع والتخدير والتدجين. بدأ جوهر من محبسه إضراباً قاسياً عن الطعام، احتجاجاً على اعتقاله التعسّفي منذ نحو ثلاث سنوات، ثم حرمانه من أبسط مقومات المحاكمة العلنية والعادلة التي تتيح للمتهم حق الدفاع عن النفس، وتسمح للسان الدفاع بالمرافعة عن موكله، وهذه بديهيات معلومة، ومن المفترض عدم الجدل بشأنها أصلاً. ولكن يبدو في عهد (رجل القانون الدستوري)، سعيّد، أن البديهيات القانونية فقدت بديهيّتها، ففي خطوة مفاجئة، قرّرت السلطات القضائية نصب محاكمات عن بعد، ومن دون حضور المتّهمين، لتثير بذلك شكوكاً كثيرة حول الحد الأدنى من ضمانات المحاكمة العادلة، بل حول جدّية الملف والتهم الموجهة إلى المعتقلين، ولا سيما في ظل إصرار السلطات التونسية على فرض التعتيم على القضية، وعدم تمكين الرأي العام التونسي من الوقوف على جميع حيثياتها.

وما زاد الطين بلة أن نظام سعيّد لم يكتف باعتقال مبارك وغيره من القيادات السياسية، بل زاد على ذلك إطلاق أيدي بعض الأعوان ومساجين الحق العام للاعتداء على الرجل، ضرباً وركلاً، ومن ثم المزيد من إنهاك جسده الذابل على طريقة العصابات المنفلتة من عقالها.

ردّت وزيرة العدل ليلى جفال على طلب علنية المحاكمة الذي انبعث من داخل السجن وخارجه، بطريقة ساخرة وضحكة صفراء تنم عن الاستخفاف بالكرامة البشرية، وقالت إن هذا الإجراء تنفيذ لقرار اتخذته الحكومات السابقة (تقصد السابقة للانقلاب). وبالتالي، هي مجرّد منفذ أمين لقرارات سابقة لا دخل لها فيها. وما لم تقله الوزيرة أن هذا القرار اتخذ في ظل جائحة كورونا حتى لا يتعطّل المرفق القضائي، ولم يكن غطاء لمحاكمات شبه سرّية للسياسيين والشخصيات العامة على نحو ما يفعل نظام سعيّد اليوم، ونفت أن يكون جوهر بن مبارك قد كسر ضلعه أو ضلوعه، ولكنها لم تنف تعرّضه للعنف الجسدي من أعوان السجن، وكأن لسان حالها يقول: نعم لقد مارسنا الاعتداء الجسدي على بن مبارك، ولكننا لم نكسر ضلوعه وعظامه…. وهذا في حد ذاته دليل كاف على تسامح نظام الحكم والإدارة السجنية.

يقبع جوهر بن مبارك في السجون التونسية منذ نحو ثلاث سنوات، بعدما جرى تلبيسه تهمة التآمر على أمن الدولة والعمل على تغيير هيئة النظام، في إطار ما بات يعرف بملف المؤامرة رقم واحد (هناك سلسلة من المؤامرات لا تنتهي)، وهو الملف الذي شمل 40 شخصية عامة تقريباً، مصنّفة في خانة التآمر، قبل أن تعرض قضاياها على أنظار القضاء أصلاً، وكان ذلك بعدما صرح سعيّد على الهواء مباشرة “من غير المعقول أن يبقى خارج دائرة المحاسبة من له ملفّ ينطق بإدانته قبل نطق المحاكم”، وزاد على ذلك “أثبت التاريخ قبل أن تثبت المحاكم أنهم مجرمون”.

الجريمة الكبرى هنا أنه سبق لهذه الشخصيات أن التقت في أماكن عامة وعلنية لتدارس الشأن السياسي العام والبحث في إمكانيات العمل المشترك. لقد جرّد نظام سعيد المواطن التونسي من كل مقومات الحصانة في مواجهة الجوْر والتعدّي على كرامته المادية والمعنوية وفق مقتضيات دستور 2014 المغدور به، بعدما جمع كل السلطات بين يديه، واستحوذ على جهاز القضاء، وكان من أولى الخطوات التي قطعها بعد انقلاب 25 جويلية (يونيو/ حزيران 2021)، حل المجلس الأعلى للقضاء وعزل عشرات القضاة بجرّة قلم، وتنصيب نفسه ممثّلاً حصرياً للنيابة العمومية.

التحق زعيم الحزب الجمهوري عصام الشابي، ثم رئيس مجلس نواب الشعب المطاح وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، بإضراب الجوع، ومن بعدهما قيادات أخرى من المعارضة السجنية، مثل رضا بلحاج وعبد الحميد جلاصي وسيد الفرجاني، احتجاجاً على الاعتقال التعسّفي وتوظيف قيس سعيّد القضاء للتنكيل بخصومه السياسيين، واليوم يقبع عشرات الشخصيات ومن كل التوجهات والفئات من السياسيين والنقابيين والقضاة والصحافيين والمدونين ورجال الأعمال وغيرهم في السجون، بتهمة التآمر على أمن الدولة، والعمل على تغيير هيئة النظام، وهي التهمة نفسها التي أدمنت أنظمة ما قبل الثورة على استخدامها، وربما المجال الوحيد الذي تتحد فيه المعارضة هو داخل السجون. وبالنظر إلى فائض ظلم النظام وإمعانه في التنكيل بالخصوم من كل الاتجاهات والقطاعات، بدأت الساحة السياسية تشهد صحواً متزايداً ووعياً متنامياً بأهمية العمل المشترك والالتقاء الموضوعي بين مختلف الفرقاء على مطلبي إطلاق سراح المساجين السياسيين وتغيير الوضع الراهن المتأبي على الإصلاح، فمن لم يقتنع بأهمية تنسيق الجهود بدوافع الأيديولوجيا أو جراحات الماضي السياسي، القريب أو البعيد، بدأ يقتنع قسراً تحت مرارة السجون والملاحقات القضائية التي شملت الجميع، ولم تميز بين ليبراليين ويساريين، ولا إسلاميين وعلمانيين، حتى أن مقولة بات يردّدها المعارضون “من لم يكن سجينَ اليوم فهو سجين الغد”.

الواضح أن هناك خيوط أزمة كبيرة ومركّبة يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي والاقتصادي باتت تتجمّع في سماء تونس، خصوصاً مع إصرار قيس سعيّد على توجيه سهامه في كل الاتجاهات والفئات. وقد سبق له أن قال إن صواريخه منصوبة على منصّاتها، فضلاً عن ذلك كله بات المرسوم 54 الحاجب لحرية التعبير يستخدم سلاحاً فتّاكاً يُشهر في وجه أي مواطن بمجرّد التعبير عن رأي مخالف في مواقع التواصل الاجتماعي، فمن لم يُدرج في خانة التآمر على أمن الدولة، ومن لم يتآمر على الدولة دخل تحت باب كبير اسمه الإتيان بأمر موحش ضد رئيس الجمهورية، علماً أنه لو فتح هذا الباب إلى نهايته لسيق نصف التونسيين إلى سجون قيس سعيّد، لأن غالبيتهم العظمى باتت تنتقد النظام سراً وعلناً، وتعتبره فاشلاً. وهي بهذا المعنى تأتي أمراً موحشاً ضد رئيس الدولة ونظامه. كما لم يعد بمقدور خطاب “التحرير الشامل” والثورات المتتالية التي يبشر بها الرئيس أن تحجب هذا الواقع المظلم والمرير، حيث تتداخل عناصر الأزمة السياسية بالأزمة الاقتصادية والمالية بالاجتماعية، فكل ما في البلد يذكّرك بحالة التراجع والانهيار المريعيْن. والغريب هنا أن قيس سعيّد يتحدث ويتصرّف كزعيم تمرّد أو قائد معارضة جذرية تحتج وتتذمر، وليس رئيس دولة متسلطاً، يمسك كل السلط والصلاحيات بين يديه، وهو يحمل حملاً شديداً على السياسيين، بينما هو في الموقع السياسي رقم واحد وفي قلب السياسة بكل حساباتها وحتى مناوراتها وهو يدّعي الطهر والزهد. نحن هنا إزاء دكتاتورية شعبوية فاشلة ومخادعة، بات منسوب شرعيتها ومشروعيتها يتآكل يوماً بعد آخر، وليس لها ما تتكئ عليه غير صمت الأجهزة التي أضحت هي نفسها تتململ خشية استفحال الأزمة وانفجار الوضع في وجهها، وأنصار تقلص حجمهم إلى حد كبير، ومن علامات ذلك ارتفاع الأصوات الناقدة للوضع الراهن، حتى من داخل البرلمان الذي هندسه سعيّد على مقاسه وبين وسائل الإعلام والمعلقين السياسيين ممن كانوا يدينون بالولاء والطاعة للحكم.

تمكّن قيس سعيّد من التسلل إلى المشهد السياسي في غفلةٍ من أمر التونسيين، وعبر بوابة “الصدق والنزاهة”، والحمل على الطبقة السياسية بالجملة والتفصيل، ونصّب نفسه ضمير الشعب بلا منازع، ودخل قصر قرطاج عبر سلم ديمقراطي، عمل على كسره مباشرة بمجرّد أن جلس على كرسي الحكم، وتسلم مقاليد الحكم عبر دستورٍ أقسم على احترامه ثم مزّقه تحت شعار “أن الدستور قد أكله الحمار”، وبثورة مجدها ورفع شعاراتها، ثم عمل على الإجهاز عليها حلقةً بعد أخرى.

بيد أن ما عسّر مهمّة قيس سعيّد في تحويل تونس إلى حالة عربية أن بذرة الحرية التي زرعتها الثورة وعشريّتها اللاحقة ما زالت تفعل فعلها في نفوس التونسيين والتونسيات وواقعهم، فقد كسرت الثورة قدسية الحاكم ورسخت ثقافة الرقابة بل محاسبته باعتباره مجرّد وكيل عن الشعب وليس أكثر من ذلك، وهذه الروح هي التي قاومت وما زالت تقاوم منظومة القمع بأشكال وصيغ مختلفة، من مقاطعة الاستفتاءات والانتخابات إلى التعبير والتدوين، إلى الاحتجاج والتظاهر، وهذا ما يسمح بالقول إن ما حصل مع قيس سعيّد سنة 2021 هو نصف انقلاب، ليس لأن سعيّد توقف في منتصف الطريق ولم يرغب بالذهاب نحو القمع إلى حدوده القصوى، ولكن لأن ميراث الثورة والديمقراطية الوليدة ومؤسّساتها التي عمّرت لما يزيد عن عشر سنوات، ورغم هشاشتها ما زالت تقاوم المنظومة القمعية التي أراد تركيزها قيس سعيّد تحت غطاء خطاب شعبوي.

هناك ما يشبه الإجماع اليوم بين مختلف مكونات الساحة السياسية الاجتماعية أن هذا الوضع المشوّه لا يجب أن يستمر، ولا بد من الالتقاء عند مهمّة استكمال بناء الديمقراطية التونسية المغدور بها، وتدارك عثراتها وأخلالها وتثبيت مكتسباتها، فالعشرية الماضية لم تكن سوداوية ولا كارثية، كما روّجت السردية الانقلابية، وإنما كانت عشرية درب على الحرية، كما أن حقبة سعيّد ليست وردية، وإن ادعت الطهر والنزاهة، وليس هناك ما هو أدلّ على قتامتها وعبثيتها أن الثمانيني ورئيس البرلمان وزعيم الحزب الأكبر في البلاد راشد الغنوشي يحاكم بسنتين سجناً، لأنه تبرّع بهدية مالية نالها من مؤسّسة غاندي الدولية للهلال الأحمر التونسي لإنفاقها على فقراء تونس.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here