رغم حدّة ما كشفه من إخلالات وتجاوزات على صعيد التصرّف في المال العام، لم يحظ التقرير الثلاثون لدائرة المحاسبات بما يستحقّ من اهتمام وتحليل. تقرير على غاية من الأهميّة جاء في خضمّ إعلان حكومة يوسف الشاهد مواصلة خوض حرب بلا هوادة ضدّ الفساد. ومع ذلك يُجابهُ، كسائر التقارير السابقة، بإلقاء مضامينه في رفوف النسيان، ودون استتباعها بما ينبغي من إجراءات جدّيّة لمحاسبة المتسبّبين في خسائر جمّة للماليّة العموميّة. تقرير جدير بالتشخيص…
جاء تقرير دائرة الحسابات ليكشف عمق التهاون الذي أضحت عليه مؤسّسات الدولة. فقد أكّد أحد المتحدّثين باسم هذهالمؤسّسة العريقة أنّها رصدت إخلالات تصبُّ جميعها في خانة واحدة وهي: نقص أو شبه غياب حوكمة التصرّف في المالالعام، ممّا أفضى إلى ارتكاب أخطاء في التصرّف وأفعال ارتقت إلى مستوى أخطاء جزائيّة.
ومع أنّ دائرة المحاسبات أفادت أنّ النيابة العموميّة لديها بصدد إنجاز الإجراءات الكفيلة بإحالة تلك الممارسات إلى الجهاتالقضائيّة المختصّة، فإنّ لا شيء يضمن محاسبة المخالفين وردعهم، ناهيك وأنّ الدائرة سبق لها في الماضي القريب أن أصدرتتقارير كشفت ضلوع هيئات وأحزاب وشخصيّات سياسيّة في تجاوزات جسيمة، دون أن تُستتبع بإجراءات قضائيّة رادعة.
تجاوزات خطيرة ووزارات محلّ اتّهام…
يتّضح أنّ المحسوبيّة والمحاباة وغياب الحوكمة الرشيدة بمؤسّسات الدولة قد فعلت فعلها لتحُول دون مساءلة الضالعين سابقافي سوء التصرّف والمخالفين للقوانين الجاري بها العمل. تقرير دائرة المحاسبات يأتي إذن لرصد سوء التصرّف بالإدارة التونسيّةأو المؤسّسات العموميّة أو حتى الهيئات العامّة أو المستقلّة المستفيدة من المال العام. وقد توقّف التقرير رأسا عند سوءالتصرّف في مؤسّسات كبرى عدّة على غرار وزارتي التربية والشباب والرياضة…
ومن أبرز التجاوزات التي كشفتها دائرة المحاسبات أنّ المنتفعين بالعفو التشريعي العام وذوي شهداء الثورة وجرحاهاالمنتدبين للعمل بكلّ من وزارة التربية (8575 عونا) ووزارة الشباب والرياضة (451 عونا) لم يستوفوا دائما الشروط المطلوبة فيالمناظرات. ومن المضحكات المبكيات أنّ القائمات الرسمية المعتمدة لشهداء الثورة وجرحاها قد شابها عدد من النقائص إلىدرجة أنّها تضمّنت 109 شخصا لا تنطبق عليهم صفة الشهيد، بل وأنّ 90 شخصا من ذوي هؤلاء “الشهداء المزيّفين” قُبلترشحهم وعُيّن 13 شخصا منهم بوزارة التربية بكتلة أجور تجاوزت 340 ألف دينار إلى موفى.
أمّا الأخطر من الكلفة الماليّة لتعيين حوالي 9 آلاف عون بالوزارتين بما فاق 350 مليون دينار، فإنّها تبدو هيّنة أمام تشغيلمدرّسين محدوديّ الكفاءة بشهادة متفقّدي التعليم، خاصّة أنّه مرّ زمن طويل على عهدهم بالدراسة أو التدريس. ومع ذلكيبدو أنّ الحكومة مضطرّة لغضّ الطرف عن هؤلاء باعتبار أنّ نصيبا وافرا من جماعة العفو التشريعي العام انتُدِب خلال فترة حكمالترويكا واستفاد منه أساسا أنصار حركة النهضة والشريك الرئيس في الائتلاف الحاكم.
ومن التجاوزات الأخرى المكشوفة في تقرير دائرة المحاسبات، أنّ هناك “إخلالات جوهرية” في عمليّة التصرّف في الأملاكالمصادرة أو التفويت فيها أو في عمليّة مصادرة بعض تلك الممتلكات في حدّ ذاتها. وقد خلصت إلى أنّ أغلب الشركاتالمصادرة البالغ عددها 546 شركة تشكو سوء التصرّف. وهو ما أدّى إلى تراجع نتائجها وتدهور الوضعية المالية لمعظمها،ولاسيما منها الموضوعة تحت التصرّف القضائي. كما أثبت التقرير أنّ لجنة المصادرة لم تتمكّن من مصادرة 27 عقارًا و4 سياراتومساهمات في رأسمال 11 شركة وأرصدة بنكيّة بما قيمته 2655 مليون دينار. وهو مبلغ ضخم يناهز نسبيّا قيمة القرض الذيقدّمت البلاد كلّ التنازلات الممكنة للحصول عليه من صندوق النقد الدولي!.
ومن المفارقات العجيبة الأخرى، يُفيد تقرير دائرة المحاسبات، في صفحته رقم 103، أنّ “شركة الكرامة القابضة” التي تُعنىبتسيير الأملاك المصادرة عجزت أصلا عن التصرّف في بعض ممتلكات الدولة تلك، حتّى باتت قراراتها بمثابة حبرٍ على ورق، ومثالذلك أنّ صهر بن علي المدعو محمد مروان المبروك لا يزال يتحدّى مؤسّسات الدولة وأحكام القضاء، متحكّمًا بذلك إلى حدّ اليومفي أملاكٍ صودرت منذ أيّام الثورة. والواضح أنّ عمليّة استقواء الصهر المذكور لم تأت من فراغ، إذ لا يُمكنه أن يُبدي مثل تلكالجرأة والقدرة على استضعاف الدولة ومؤسّساتها إذا لم يكن مسنودًا فعلا من مسؤولين أو سياسيين يدعمونه من وراءالستارة. يُذكّرنا ذلك بعدد من السياسيين والإعلاميين الذين كانوا يدعمون رجل الأعمال الموقوف شفيق الجراية ويُغطّونتجاوزاته ويُلمّعون صورته مقابل ما يغمرهم به من مكاسب معيّنة كالسيّارات والعقارات والخدمات والمنافع غير المستحقّة…
سوابق هل يطويها النسيان!؟
يتعلّق المثال الأبرز بتقرير دائرة المحاسبات، الصادر في شهر ماي 2017، حول الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات. فقد رصدالتقرير إخلالات كثيرة تتعلّق بإدارة هيئة الانتخابات لشؤونها الإدارية والمالية، وتتّصل بسوء تصرّف الهيئة في الموارد البشريةوالانتدابات وفي نفقات التسيير والشراءات وآليات المحافظة على الممتلكات… ومن بين تلك الإخلالات أنّ الهيئة اعتمدت علىتنظير المساهمات الاجتماعية لأعضاء مجلسها، بأعضاء الحكومة على مستوى نظام التأجير والمنح والامتيازات، في ظل غيابسندٍ قانوني يُتيح لها ذلك.
وسجّل التقرير ذاته أنّ سوء التصرف طال الشراءات، كاشفا بالخصوص اقتناء الهيئة لسيارات وظيفية زائدة عن الحاجة وتوجيهالشراء نحو نوعيّة معيّنة من السيارات لرئيس الهيئة وأعضاء مجلسها، وذلك عبر شراء 10 سيارات بقيمة تفوق 750 ألف دينار.وطبعا فقد كان بالإمكان توفير نصف هذا المبلغ دون المساس بمواصفات السلامة والرفاهيّة المناسبة، إذ بحساب مبلغ فردييفوق 37 ألف دينار يمكن اقتناء سيارة تتوفّر على كلّ الكماليّات المطلوبة، فما بالك إذا تعلّق الأمر بعشر سيّارات. وهذابالإضافة إلى استغلال الهيئة أربع سيّارات أخرى زائدة عن حاجتها بقيمة 223 ألف دينار، وفق ما جاء في التقرير المذكور.
كما كشف أنّ رئيس الهيئة الفرعيّة للانتخابات بإيطاليا تولّى تحويل حوالي 461 ألف دينار من الحساب البنكي للهيئة الفرعيّةإلى حسابه الشخصي وإلى الحسابات البنكية الشخصية لأعضاء الهيئة الفرعيّة، وهو ما جعل هذه الأموال فاقدة لأيّ ضماناتللشفافية وخارج الرقابة أصلا. الكشف عن هذه الحادثة أثار آنذاك ضجّة كبرى في وسائل إعلامنا، لكن بمرور الوقت تناسىالجميع سوء التصرّف المذكور الذي يرقى إلى درجة الفساد، باعتبار أنّ أبسط شخص راشد يُدرك بالضرورة أنّ تحويل المال العامإلى حسابه البنكي الشخصي يُعدّ عمليّة سطو واحتيال بل وسرقة موصوفة سواء عن قصد أو عن غير قصد. والحال أنّ الأمريتعلّق بأعضاء هيئة فرعيّة للانتخابات اختارتهم الهيئة الأمّ بالنظر إلى كفاءتهم ومعرفتهم الدنيا بالقانون.
مع ذلك قد تكون الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات أفضل من غيرها لأنّها أوّلا اعترفت صراحة، على خلاف غيرها، بارتكاب تلك الأخطاء وأرجعتها إلى قلّة التجربة والتزمت بتجنّبها مستقبلا. فقد تعهّد عضو هيئة الانتخابات نبيل بافون بتلافي كلّ الإخلالات المسجلة سابقا خلال الانتخابات القادمة، معتبرًا أنّ الهيئة استفادت من أخطائها وتحوّزت على الخبرة الكافية في عمليّة إجراء الانتخابات. والحقيقة أنّ المسؤوليّة لا يتحمّلها مجلس هيئة الانتخابات بمفرده، باعتبار عدم تمكين الهيئة من السند التشريعي الواضح والدقيق لأداء مهامها المختلفة. وفي هذا الصدد أوصى تقرير دائرة المحاسبات بتحديث أساليب التصرّف الإداري والمالي لهيئة الانتخابات ودعم نظم سلامة المعلومات والوثائق بها. ومع ذلك فإنّه رغم كلّ هذه الهنات أو حتّى التجاوزات فإنّ وجود هيئة مستقلّة يبقى في كلّ الأحوال أفضل بكثير ديمقراطيًّا من إسناد العمليّة الانتخابيّة إلى وزارة الداخليّة أو إلى أيّ مؤسّسة حكوميّة أخرى. وفي الآن ذاته، ينبغي التزام الحزم مستقبلا وعدم تبرير تجاوز بعض الأشخاص للقانون بغياب الخبرة، وإلاّ فإنّه لا معنى لتقرير دائرة المحاسبات ولا فائدة منه تُرتجى…!
يبقى أن نشير هنا، على سبيل الذكر، إلى قضيّة شركة “كاكتوس” المصادرة والمملوكة سابقة بالتناصف لسامي الفهريوبلحسن الطرابلسي صهر رئيس النظام السابق. فقد استحوذت هذه الشركة، خلال سنوات، على مقدّرات مؤسّسة التلفزةالتونسيّة من خلال توظيفها أوقات الذروة في بثّ القناة الوطنية الأولى لحسابها الخاص واستغلالها غير المشروع لتجهيزاتالمؤسّسة ومواردها البشريّة والفنيّة. ومن ثمّة دفع أربعة مديرين عامّين للتلفزة التونسيّة الثمن باهظا فسُجنوا ومنعوا عنالسفر بسبب عدم تقيّدهم بالإجراءات المتّصلة بالصفقات العموميّة، بسبب عدم قدرتهم على رفض الالتزام بتعليمات القصرالرئاسي ومن يتحكّم فيه من آل الطرابلسي آنذاك، وقد عُدّ ذلك عين الفساد لا مجرّد سوء تصرّف. ومع أنّ مثل هذه الممارساتتكرّرت بعد الثورة مرارًا فإنّ المسؤولين عنها لم يُحاسبوا، وهنا تكمن المفارقة الغريبة بين الأمس واليوم دون الأخذ بما كشفتهالتقارير المتواترة لدائرة المحاسبات…
أمّا التقرير الثلاثون فيُلاحظ أنّه جاء متزامنا لا فقط مع “الحملة على الفساد” وإنّما صدر أيضا زمن استئناف مناقشة مشروعقانون المصالحة الماليّة والاقتصاديّة الساعي إلى الصفح عن مسؤولين مورّطين في سوء تصرّفٍ وفسادٍ وتجاوزاتٍ جزائيّة. وهوما يطرح تساؤلات عدّة حول مدى جديّة أعلى هرم السلطة في محاسبة المُخطئين والفاسدين والمتسبّبين في نزيف الماليّةالعموميّة. كما يعني أنّ تقارير دائرة المحاسبات المنزوعة الصلاحيّات والمحدودة الإمكانيّات تبدو، رغم جدّيتها ومصداقيّتها،مجرّد مسكّنات للاستهلاك المؤقّت قد تعجز عن إيقاف النزيف، بل قد تكون مدعاةً لتكرار التجاوزات بأوجه مختلفة وفيمؤسّسات وهيئات عدّة.
الشارع المغاربي