أزمة المياه في تونس تلامس أسوأ السيناريوهات

28
أزمة المياه في تونس تلامس أسوأ السيناريوهات
أزمة المياه في تونس تلامس أسوأ السيناريوهات

أفريقيا برس – تونس. تلامس أزمة المياه في تونس أسوأ السيناريوهات ضمن سياق يزداد تعقيدا في ظل غياب وعي مجتمعي بثقافة ترشيد المياه وبأن البلاد على مشارف العطش.

يأتي التحذير الذي أطلقته جمعية المنصة التونسية للبدائل وشركائها من الجمعيات والمنظمات، يوم الأربعاء الماضي، ليرفع من مؤشر التحذيرات بخطورة هذا الوضع ويؤكّد بضرورة وضع الحكومة لملف الأمن المائي للبلاد على سلم أولوياتها.

ولتفادي هذه السيناريوهات يجب تضافر كل الجهود فـ “الحق في الماء: معركة الجميع من أجل الجميع”، وهو الشعار الذي اتخذته المنصة التونسية للبدائل والمرصد الوطني للمياه عنوانا للندوة التي انعقدت يوم الأربعاء 21 فبراير 2023 بمقر جمعية الصحفيين التونسيين، والتي قدّمت قراءة نقدية لواقع أزمة المياه في تونس وطرحت البدائل الممكنة لتجاوزها والتقليص من حدّتها.

وتوجد تونس تحت مستوى الشحّ المائي وهو ما يمثل معضلة حقيقية إذ لا تتجاوز حصة التونسي من المياه المتاحة 450 مترا مكعبا سنويا وستصل هذه الحصة إلى 350 مترا مكعبا سنة 2030.

وكان المرصد التونسي للمياه أشار في بيان صحفي إلى أن صائفة 2022، التي سجّلت نسبا قياسية في انقطاع المياه والجفاف، تقدّم نموذجا لما يمكن أن يتطور إلى وضع أسوأ. ولفت المتحدثون خلال الندوة إلى أن ارتفاع أسعار المواد الفلاحية والغذائية مردّه بشكل أساسي هذا الجفاف وندرة المياه التي دفعت العديد من الفلاحين، خاصة الصغار منهم، إلى مغادرة أراضيهم وتغيير نشاطهم وهو ما انعكس سلبا وبصفة واضحة وجلية في نسب الإنتاج وبالتالي نسب نمو الاقتصاد الوطني.

ولفت المتدخلون في الندوة إلى أن منظومة التصرف في الثروة المائية بتونس لم تواكب تغيرات الواقع ومستجداته حيث لا تزال الأطر القانونية غير مجدية لحمايتها. وكان البيان الذي وزّع خلال الندوة شديد اللهجة من حيث إعلان حالة الطوارئ المائية وتحميل الدولة مسؤولية حماية مستقبل الأجيال القادمة.

خوصصة المياه

تروي الحكاية أنه في سنة 128 ميلادي عرفت قرطاج جفافا مدمرا وقد استنفذ أهاليها كل المياه التي كانوا يجمعونها في الخزانات الحجرية. وهنا قرر الإمبراطور الروماني أدريانوس بناء الحنايا لجلب الماء إلى قرطاج والتي تقف اليوم شاهدة على تاريخ تونس العريق في مجال السياسات المائية، شأنها في ذلك شأن قنوات الريّ وتقسيم المياه في مدينة توزر، جنوب البلاد، التي تشهد بعبقرية العلاّمة ابن شبّاط التوزري (1221 – 1282)1 في هندسة نظام ري عادل يقسم المياه بين واحات البلاد التي بدأ نخيلها يفقد شموخه نتيجة ندرة المياه. ولا يختلف الوضع في القيران (الوسط) التي تعرف بفسقيتها التي بناها الأغالبة في أوائل القرن الثامن لنقل المباه الجوفية وتخزينها في أحواض كبيرة لتزويد مدينة القيروان التي تأسست حديثا بالمياه.

أما اليوم فتعجز الحكومات عن مواجهة هذا التحدّي، وفق الخبراء الذين يؤاخذون عليها البحث عن حلول من خلال الشراكة مع القطاع الخاص، وهو أمر لن يكون في مصلحة البلاد ولا المواطن الذي يدفع الفاتورة. لذلك يطالب المرصد الوطني للمياه بحماية الحق في الوصول إلى الماء وذلك عبر سنّ قانون “يستنثي خدمة المياه من الشراكة بين القطاعين العام والخاص”، معتبرا أن أي تعاون في هذا المجال الحساس هو “أبعد ما يكون عن شراكة مثالية، بل ينطوي على مخاطر خاصة للصالح العام”.

تساهم عدة مواد من مشروع قانون المياه في تفاقم مشكلة عطش التونسيين وبعضها يدعو بوضوح إلى خصخصة القطاع واللجوء إلى مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص. في المقابل، يطلب المرصد التونسي للمياه، وهو منظمة غير حكومية، بحماية الحق في الوصول إلى المياه من خلال مادة تستثني خدمة المياه من عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص والتي هي أبعد ما تكون عن تمثيل شراكة مثالية والتي قد تنطوي على عدد معين من المخاطر ، وخاصة من أجل الصالح العام.

ولفت منسق المرصد التونسي للمياه علاء الدين المرزوقي، في تصريح لأفريقيا برس، إلى أن الدولة لم تتفاعل مع أزمة المياه لأنها تعتبرها مسألة تقنية بالإضافة إلى عجزها على توفير موارد مالية للاستثمار في المياه ووجود لوبيات تضغط على تحديد أولويات استعمال المياه. ونبّه المرزوقي إلى ضرورة الاهتمام بمياه الشرب ثم الاتجاه نحو إرساء سياسات تحمي السيادة الغذائية.

وتأتي هذه التحذيرات متوافقة مع توصيات المرصد الاقتصادي التونسي حول هذا الموضوع، والتي نشرت في تقرير بعنوان “سياسة المياه: هل سيتمكن قانون المياه الجديد من الاستجابة لأزمة المياه في تونس؟”2. دعا التقرير الذي صدر منذ سنة 2019، إلى ضرورة تضمين مادة في قانون المياه الجديد تنصّ بوضوح على أن “الخدمات المتعلقة بالمياه من غير المحتمل أن تكون موضوع الشراكة بين القطاعين العام والخاص وأن المياه يجب اعتبارها منفعة عامة وليست خدمة عامة أو سلعة”.

ولفت إلى أن عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص ليست بالضرورة أكثر كفاءة. في الواقع، يتزايد النقد في البلدان الرائدة في هذه الشراكات بين القطاعين العام والخاص، لاسيما في قطاع المياه. ففي فرنسا مثل، تم وصف هذه العقود من قبل مجلس مراجعي الحسابات في عام 2017 على أنها “غير ديمقراطية واحتكارية وتمثل قبل كل شيء “اندفاعا متهورا” مدفوعا “باعتبارات الميزانية قصيرة الأجل”.

كما رصد التقرير أن انقطاع المياه يعد محفزات مهمة للحركات الاجتماعية، ففي عام 2018 تم تسجيل أكثر من 180 احتجاجا خلال فصل الصيف لغرض الوصول إلى مياه الشرب أو الري. وفي النصف الأول من عام 2019 أيضا كانت المياه أحد المطالب الرئيسية للحركات الاجتماعية

وتعتبر تونس شديدة التأثر بتغير المناخ ومن المتوقع أن تتعرض لآثار سلبية من ارتفاع درجات الحرارة وزيادة الجفاف وانخفاض هطول الأمطار وارتفاع منسوب مياه البحر. وستؤثر الآثار الاجتماعية والاقتصادية والبيئية بشكل خاص على موارد المياه ، والزراعة والثروة الحيوانية، والنظم الإيكولوجية، والمناطق الساحلية، وقطاعات الصحة والسياحة.

ولامس التونسيون عن قرب هذا الخطر السنة الماضية (2022) التي سجّلت نسب جفاف عالية وتراجع “قاتل” في مستوى هطول الأمطار وبالتالي جفاف السدود. وشهدت مناطق عديدة انقطاعات متواترة في خدمات التزود بالمياه الصالحة للشراب، وسط قلق من أن يتحوّل الوضع إلى الأسوأ ويصبح تزويد المياه بالوقت.

وكان لتراجع منسوب المياه تأثيرا على عدة مشاريع فلاحية وهو اليوم يهدد آمال وطموحات الكثيرين، من بينهم الشابقة ضحى القاسمي التي تحدّثنا، وهي تداعب نبتة صغيرة فقدت اخضرارها، “عملتُ حساب كل شيء، إلا حساب المناخ… الأرض أصبحت عطشى”.

لم ترهق الإجراءات الإدارية الكثيرة ضحى، ولم تحبط عزيمتها قلة الدعم المادي. عادت من تونس العاصمة إلى بلدتها ببوش بحمام بورقيبة، في ولاية جندوبة (الشمال الغربي لتونس) محمّلة بحلم إنشاء مشروع غراسة أنواع مختلف من المشاتل من الورود إلى الأشجار المثمرة متحدية كل الصعاب.

بدأ المشروع وحمل معه بذور نجاحه، الأمر الذي شجّع ضحى على التوسّع في حلمها، وتطلّعت لإنشاء مطعم سياحي أيكولوجي، يقوم على استغلال كل مقوّمات المنطقة من مواد البناء إلى الأكل ويراعي خصوصيتها الطبيعة والبيئية ويفتح آفاق تشغيل تساعد عددا من شباب المنطقة ونساءها.

لكن، خبت الحماسة بسبب ضعف الموارد المائية وقلة الأمطار وحالة الطقس التي أصبحت غريبة على ضحى وعلى أهال منطقة بها واحد من أكبر السدود التونسية وهو سد بني مطير.

ويقول محمد الزمرلي، مدير الوحدة الوطنية لتنسيق تغير المناخ، نتيجة توالي سنوات الجفاف وقلة الأمطار تراجع مخزون السدود. ويتوقع أن تنخفض معدلات الأمطار السنوية بنسبة تتراوح بين 10 في المئة بالشمال الغربي و30 في المئة بأقصى جنوب البلاد مع حلول عام 2050.

ويزداد الوضع خطورة بإضافة ظاهرة التملّح إلى قائمة الأسباب التي تساهم في تهديد الأمن المائي التونسي. ويشرح الزمرلي ذلك بقوله إن 50 بالمئة من المائدة المائية في السواحل مهددة بالتملّح نتيجة ارتفاع سطح البحر. ولذلك تأثيرات كبيرة على مستوى توفير المياه الصالحة للشراب وللزراعة ولاستهلاك البشري بشكل عام.

وكانت منظمة الأمم المتحدة شدّت في عدة تقارير وبيانات على ضرورة الرفع من درجة الاهتمام بموضوع المياه في تونس. وكان بيدرو أروخو-أغودو مقرّر الأمم المتحدة الخاص المعني بحقوق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي، زار تونس في يوليو الماضي. وحثّ المقرر الأممي على خلفية هذه الزيارة الحكومة التونسية على “تحسين إدارة شبكة المياه ووضع حدّا للاستغلال المفرط لطبقات المياه الجوفيّة في البلاد وهما مسألتان تتنامى أهميتهما في سياق التغيرات المناخيّة إلى جانب الحاجة إلى ضمان حصول الجميع على مياه نظيفة”.

وقال أروخو-أغودو “لا يمكن لندرة المياه أن تبرّر عدم الامتثال لحقوق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي. ينبغي على الحكومة التونسيّة أن تمنح الأولويّة لمياه الشرب وأن تحتفظ بأعلى المياه جودة لهذا الغرض بغض النظر عن مدى الربح الذي قد تحقّقه استعمالات أخرى كريّ التجارة الزراعيّة أو استخراج الفوسفات.”3

مراجع

1- في كتابه “رسالة في الهندسة”، يوضح ابن شبّاط نظريّته في توزيع المياه. ومعلوم أنّ التقسيم الثّلاثي ثمّ السّداسي انطلاقا من كلّ ثلث هو إنجاز روماني لا محالة ويكمن فضل ابن شبّاط إذن في بعث نظام توزيع يبدأ من حيث وقف الرومان ويصل بذلك إلى ريّ جميع بساتين توزر كلّ حسب حاجته. وقد بقي هذا النظام قيد الاستعمال حتى اليوم وكلّما رام أحد تغييره انتهى إلى إقراره. (الموسوعة التونسية المفتوحة).

2- http://www.economie-tunisie.org/fr/observatoire/politique-de-l%E2%80%99eau-le-nouveau-code-des-eaux-saura-t-il-r%C3%A9pondre-%C3%A0-la-crise-de-eau?fbclid=IwAR1OttowWXhkJidkGl5r2U6sTcwYapfXWvBU9pIOvgatp5Ks6WMaZx7Ae4o

3 – https://www.ohchr.org/ar/press-releases/2022/07/tunisia-must-improve-water-management-and-ensure-access-clean-supplies-un2-%20https:/www.ohchr.org/ar/press-releases/2022/07/tunisia-must-improve-water-management-and-ensure-access-clean-supplies-un

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here