الاتحاد المغاربيّ: قطار تاه في الصحراء الغربيّة

29
الاتحاد المغاربيّ: قطار تاه في الصحراء الغربيّة
الاتحاد المغاربيّ: قطار تاه في الصحراء الغربيّة

محمد صالح مجيّد، كاتب صحفي من تونس

أفريقيا برس – تونس. في 17من فبراير/فيفري1989 اجتمع قادة المغرب العربي في مدينة “مرّاكش” المغربيّة وأعلنوا عن تأسيس الاتّحاد المغاربيّ. حضر جلسة التّأسيس الملك المغربيّ الحسن الثّاني (1929/1999) والرّئيس الجزائريّ الشّاذلي بن جديد (1929/2012) والعقيد معمّر القذّافي (1942/2011) والرّئيس التّونسيّ زين العابدين بن علي (1936/2019) والرّئيس الموريتانيّ معاوية ولد الطايع (1941/..).

لمّا استقرّ العزم على إنشاء هذا الكيان الاقتصاديّ و”الجيوستراتيجيّ” الواعد لم تكن العلاقات المغربيّة الجزائريّة جيّدة. فقضيّة الصّحراء الغربيّة محور خلاف سياسيّ قائم ودائم، بين “المملكة المغربيّة” التي تعتبر الصحراء الغربيّة جزءً من أراضيها يمكن أن تمنحه حكما ذاتيا شرط البقاء تحت التّاج المغربيّ، وبين “الجزائر” التي تدعم نزعة الاستقلال عند الصحراويين، وتدافع عن حقّ الشّعب الصحراويّ في تقرير مصيره. كما لم تكن العلاقة بين المغرب وليبيا جيّدة بعد أن شنّ العقيد “معمّر القذافي” هجمات عنيفة في خطبه الحماسيّة، على الملك المغربي الذي استقبل بصفة مفاجئة رئيس وزراء إسرائيل “شمعون بيريز”في مدينة “إفران” المغربيّة سنة 1986. ووصل الغضب بالعقيد اللّيبيّ إلى القول إنّه لن يمدّ يده لمصافحة الملك المغربيّ مطلقا بعد أن صافح شمعون بيريز.

كان الرئيس التونسيّ “زين العابدين بن علي”، هو الآخر، في بداية حكمه بعد أن أطاح بالرئيس الحبيب بورقيبة (1903/2006) سنة 1987. قام بفتح الحدود المغلقة بين تونس وليبيا وبدأ يؤسّس لعلاقة جوار هادئة مع الجار اللّيبيّ بعد أن تشنّجت العلاقة بين العقيد الليبيّ معمّر القذافي والرّئيس التّونسيّ “الحبيب بورقيبة” وبلغت حدّ طرد العمال التونسيين من ليبيا وغلق الحدود.

إذن، نشأ الاتحاد المغاربيّ في ظرف لم تكن فيه العلاقات بين الدول المغاربيّة جيّدة لكن القادة اجتمعوا من أجل تأسيس هذا الكيان مغلّبين الملفّات الاقتصاديّة والاجتماعيّة على الخلافات السّياسيّة بعد انهيار المعسكر الاشتراكيّ واتجاه العالم نحو القطب الرأسمالي الواحد..

لقد كان إنشاء الاتحاد المغاربي محاولة استباقيّة حمائيّة واستشرافا لما يمكن أن يصبح عليه النّظام العالمي الجديد الذي أصبحت فيه الولايات المتّحدة شرطيّ العالم الأوحد. بحث القادة المغاربيون عن التعجيل بإنشاء سوق مغاربيّة، وإقامة مشاريع اقتصاديّة وفلاحيّة مشتركة، تقيهم من المجهول الذي بدأ يتشكّل بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وتحقّق الأمن الغذائيّ أوّلا، وتحوّلهم إلى قوّة اقتصاديّة يقرأ لها حساب في القارة الإفريقيّة ثانيا.

قام الحلم المغاربي على فتح الحدود بين الدّول الخمسة لمنح حريّة التّنقّل الكاملة للأفراد والسلع ورؤوس الأموال، وتحقيق التنمية الصناعية والزراعية والتجاريّة والاجتماعيّة للدول الأعضاء واتّخاذ ما يلزم اتّخاذه من وسائل لهذه الغاية خصوصا بإنشاء مشاريع مشتركة. ونصّت معاهدة الاتحاد المغاربي على التنسيق الأمني والعسكري بين الدول، وصيانة استقلال كلّ دولة واعتبار أيّ اعتداء على دولة من الدول الأعضاء اعتداءً على كلّ أعضاء الاتّحاد.

كانت النيّة خلق كيان اقتصادي يقوّي الدول الأعضاء ويجعلها في مأمن وفي موقع يؤهّلها للتّعاطي مع المتغيّرات الدوليّة، وللتبادل التجاري مع أوروبا ومع الولايات المتّحدة الأمريكيّة دون خضوع ودون إكراهات، نظرا لموقع الكيان المغاربي الاستراتيجي الهامّ الذي يجعل منه “بوّابة إفريقيا”

لم تنظر أوروبا إلى إنشاء الاتحاد المغاربي في سنة 1989 بعين الرضا وخاصة فرنسا التي تريد أن تواصل هيمنتها الاقتصادية على إفريقيا منبع خيراتها وحديقتها الخلفية. أدركت فرنسا أن إنشاء هذا الكيان الاقتصادي يهدّد مصالحها الاقتصادية في أفريقيا. فهذا الكيان الجديد القديم يمتدّ على 6,041,261 مليون كيلومترا مربعا، وهي مساحة تفوق مساحة الاتحاد الأوروبيّ

لكنّ الحلم سرعان ما تبخّر مع انبلاج فجر غيّمت سماؤُه الخلافات والصراعات. وما حاول القادة المغاربيون إطفاءَه إلى حين تركيز السّوق المغاربية، والقطار المغاربي وضمان حرية التنقّل بين الدّول، سرعان ما عاد إلى الاشتعال. وظلّ الخلاف المغربيّ الجزائريّ حول “الصحراء الغربيّة” السّرطان الذي أكل الجسد المغاربيّ، وعمّق اليأس من إحيائه رغم كلّ جرعات الأدوية. وفي الوقت الذي انتظر فيه المغاربيون بأمل فتح الحدود بين الدول المغاربيّة، طفت الخلافات من جديد وأُغلقت الحدود البرّية بين الجزائر والمغرب وتحوّل الحلم إلى “كابوس” مع تطاير الحملات الإعلامّية المسعورة بين البلديْن. فالجزائر تتّهم المغرب بالتطبيع والمغرب يتّهم ما يسميه “حكم الجنرالات ” في الجزائر بتجويع الشعب الجزائري، وتأجيج الأوضاع في الصحراء.

لم يجتمع القادة المغاربيون بعد قمّة مراكش رغم تركيز أجهزته الأربعة: مجلس الرئاسة/ مجلس وزراء الخارجيّة/ لجنة المتابعة/ اللجان الوزارية المتخصصة ورغم اتخاذ “الرباط” مقرّا للأمانة العامّة. لقد تحولت مشكلة الصحراء الغربية إلى معضلة مستعصية.

ومع ما أمسى يعرفُ بالرّبيع العربي، تاه القطار المغاربي في الصحراء وسكتت كلّ محرّكاته. انقسمت ليبيا إلى مناطق نفوذ ولم تعد دولة موحّدة تحت راية واحدة. ودخلت تونس في فوضى البحث عن الذات بعد سقوط نظام “بن علي” ومجيء الإخوان إلى السلطة. ومع وصول قيس سعيّد إلى السلطة سنة 2019 تعمّق التقارب التونسي الجزائري وشكل البلدان حلفا واضحا في المنطقة. وفي المقابل سادت العلاقات التونسية–المغربية جفوةٌ، خصوصًا بعد احتجاج المغرب على استقبال الرئيس التونسي للوفد الصحراوي خلال القمة الإفريقية اليابانية المنعقدة في تونس سنة 2022. ومرّ المغرب من الاحتجاج الرسمي إلى سحب السفير ولا نيّة في الأفق، لاستئناف العلاقات الديبلوماسية بين البلدين في القريب العاجل !!!

“الاسم كبير والعشاء شعير” مثل عامّي يردّده كبار السنّ في تونس ويشير إلى المفارقة بين الهيكل الكبير والمنجز الصغير.. هذا المثل العامّي التونسي ينطبق على كيان الاتحاد المغاربي الذي انطلق حلما منذ حروب التحرير التي خاضتها الدول المغاربيّة ضد المستعمر واستمرّ أملا يراود كلّ المغاربيين لكن الخلافات السياسية وخاصة الصراع المغربي الجزائري على الصحراء الغربيّة جعل إقامة هذا الكيان شبه مستحيلة وحتّى عندما تفطّن القادة المغاربيون إلى خطر سقوط الاتحاد السوفياتي والتجؤوا إلى التوحّد في كيان اقتصادي يقفز على الخلافات السياسية، لم بنجحوا في الذهاب بعيدا إلى تحقيق التكامل الاقتصادي فلا السوق المغاربية قامت ولا حريّة التنقّل دامت ولا القطار المغاربي غادر محطته التي ظلّ قابعا فيها منذ خمسينات القرن الماضي.

إنّ المشهد المغاربي اليوم صورة مصغّرة عن الواقع العربيّ المحكوم بالتّشرذم والتفكّك. ليبيا تحوّلت من جماهيريّة موحّدة زمن العقيد إلى ثلاث مناطق نفوذ تتصارع على البترول وإلى أرض ترتع فيها المخابرات الدوليّة. وهذا الوضع مريح لأوروبا التي استغلّت انشطار ليبيا لشراء البترول بأبخس الأثمان بعد التخلّص من العقيد المزعج.

تونس تراقب حدودها الجنوبية مع ليبيا وتحاول قدر الإمكان السيطرة على هجرة جماعيّة من دول الساحل والصحراء في ظلّ سعي أوروبي إلى حماية حدودها من خلال إبرام اتفاقيات مع تونس لمنع المهاجرين من التسلل إلى الضفة الغربية من المتوسط.

المغرب اختار التحليق بعيدا بمفرده وبحث عن العمق الإفريقي حتّى أصبح قنّاص الفرص الاقتصادية في إفريقيا وطوّر علاقاته الاقتصادية مع الكيان الصهيوني ما عمّق خلافه مع الجزائر التي تدين علنا التطبيع المغربي مع الكيان الصهيونيّ.

بنظرة بانوراميّة، يبدو الفضاء المغاربيّ على فوهة بركان اقتصاديّ نائم، عنوانه الأبرز ارتفاع معدّلات الفقر وغياب الحلول الاقتصاديّة الناجعة. هذا البركان الكامن قابل للانفجار في أيّ لحظة، خاصّة بعد أن تبخّر حلم التضامن المغاربي والعمل المشترك لتجاوز الأزمة الاقتصاديّة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here