سياسات التفقير” تعرقل معالجة البطالة والتضخم والمديونية في تونس

9
سياسات التفقير” تعرقل معالجة البطالة والتضخم والمديونية في تونس
سياسات التفقير” تعرقل معالجة البطالة والتضخم والمديونية في تونس

جنات بن عبد الله

أفريقيا برس – تونس. بيّنت نتائج التعداد العام للسكان والسكنى أن نسبة البطالة في تونس بلغت 16.4% خلال الثلاثي الرابع من 2024 في حين سجلت نسبة بطالة خريجي التعليم العالي ارتفاعا لتبلغ 16.8%.

أما الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و34 سنة فقد بلغت نسبة البطالة في صفوفهم 29.9% وهو ما يعادل تقريبا ثلث هذه الفئة العمرية.

معضلة هيكلية

أرقام مرتفعة ولكنها ليست بالمفاجئة ولا هي بالجديدة. ففي بلادنا أضحت مسألة البطالة معضلة هيكلية وليست بالظرفية حيث إن مجتمعنا يعاني منها منذ عقود بل أنها شكلت أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع الثورة سنة 2011 والتي قادها الشباب الذين خرجوا احتجاجا على تدهور الأوضاع الاجتماعية وانسداد الأفق أمامهم في سوق الشغل.

ومنذ ذلك التاريخ رحلت جميع الحكومات التي تداولت على السلطة هذا الملف مع تقديم الوعود لحله واقتراح “أشباه البرامج” التي أكّدت الأيام فشلها وعجزها عن امتصاص البطالة، بل إن حالة سوق الشغل في تونس تدهورت أكثر بدخول وافدين جدد من الذين لفظتهم الشركات والمصانع بسبب صعوبات اقتصادية.

ومنذ ذلك التاريخ، وقبله، لم تتوقف مراكز البحوث والدراسات والأجهزة الرسمية المختصة في إنجاز الدراسات ووضع الإستراتيجيات وتنظيم الندوات والمنتديات لإخراج سوق الشغل من أزمته أو على الأقل التخفيف منها لتأتي الحلول، دائما، من ضفة أخرى خارج أطر السياسات الوطنية والإستراتيجيات “العبقرية”: هجرة نظامية و هجرة غير نظامية، لتغرق نسبة من البقية في الانحراف والأكثر حظا يتلقّفهم الاقتصاد الموازي الذي برهنت التجربة التونسية قدرته على الاستيعاب مقابل قطاع عمومي أغلق أبوابه منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي وتجدد الغلق بعد الثورة على خلفية الضغط على كتلة الأجور، وقطاع خاص ضعيف مكبل بسياسة جبائية مرتفعة ومتشعبة وسياسة نقدية متشددة، وقطاع بنكي ريعي ممنوع على عامة الشعب.

وبعيدا عن الشعارات والخطب المدججة بالوعود الجوفاء لا يمكن الحديث عن حلول في ظل الخيارات التي تبنّتها بلادنا منذ سبعينات القرن الماضي ممثلة في سياسة الانفتاح، ومنتصف ثمانيناته من خلال برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي، بل أن هذه الخيارات التي ترجمت الى مخططات وسياسات طوال العقود الماضية، ولم تغيرها الثورة، هي في الحقيقة سياسات لتفقير الشعب وتكريس البطالة.

فبالنسبة إلى سياسة الانفتاح التي انخرطت فيها بلادنا منذ سبعينات القرن الماضي من خلال جذب الاستثمار الأجنبي المباشر لتتطور في سنة 1995 إلى اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وبعد الثورة مع حكومة يوسف الشاهد إلى اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق “الأليكا”، فرغم المزايا التي تبجّح بها السياسيون التونسيون والأوروبيون، وما زالوا إلى حد هذه الساعة، والتي تقدّمها سياسة الانفتاح من رفع للحواجز الجمركية وغيرها أمام نفاذ البضائع والسلع والخدمات الأجنبية مقابل حرية التصدير، لم تجن تونس من هذا الانفتاح سوى مرتبة متقدمة في مؤشر الانفتاح الاقتصادي دون تموقع في السوق العالمية.

والأخطر من ذلك، مع إصرار الجهات الرسمية وعدد من المختصين على نفيه، أنّ هذا الانفتاح بشقيه تحرير المبادلات التجارية وتحرير الاستثمار الأجنبي المباشر، تسبّبا في تصحّر النسيج الاقتصادي للبلاد وفي خروج الأموال في صيغة أرباح الشركات غير المقيمة مما أدى إلى تفاقم اختلال وتدهور الميزان التجاري وميزان المدفوعات وضعف الاحتياطي من العملة الصعبة.

ففي الوقت الذي وعد فيه السياسيون التونسيون والأجانب، ومن خلال جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، بضمان نقل التكنولوجيا إلى تونس وتكثيف اندماج الشركات غير المقيمة في النسيج الاقتصادي الوطني وتكوين اليد العاملة المحلية والخروج تدريجيا من نظام المناولة إلى المنتوج النهائي، يقف الاقتصاد التونسي اليوم في وضعية تفتقر إلى كل هذه المزايا حيث لم يتم نقل التكنولوجيا، ولم تندمج الشركات غير المقيمة وتقوقعت، وبقيت اليد العاملة المكونة يتيمة دون كفيل، ليتحول الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصدر لخروج الأموال، وبصفة قانونية، في صيغة تحويل الأرباح عوض ضخ هذه الأموال في الاقتصاد الوطني وخلق ديناميكية حقيقية.

أما بالنسبة إلى تحرير المبادلات التجارية، فإنه لا يمكن الحديث عن مزايا هذا التحرير إلا في ظل اقتصاد منتج يضمن قدرة تصديرية على الأقل موازية لتدفق الواردات بما يضمن توازنا على الأقل للميزان التجاري.

برامج إصلاح مسقطة من صندوق النقد الدولي

ما حدث في تونس، أن فتح باب التوريد ورفع الحواجز الجمركية أمام تدفق المنتوجات الأوروبية لم يرافقه تصدير باعتبار عجز وتعطل عجلة الإنتاج والتي انهارت في مرحلة لاحقة باعتبار عدم قدرتها على منافسة المنتوج الأجنبي في سوقنا الداخلية ليتسبب كل ذلك في تعطل خلق الثروة وخلق مواطن الشغل.

أما برنامج الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد الدولي الذي طبق جزئه الأول قبل الثورة وتحديدا منذ سنة 1986، والثاني بعد الثورة، فتداعياته الخطيرة ما زالت متواصلة ويعيش على وقعها التونسي يوميا باعتبار ارتباطها بتفاصيل حياته اليومية من تعليم وصحة ونقل وقدرة شرائية واستقرار مهني…

فسياسة التقشف التي انخرطت فيها بلادنا منذ سنة 1986، واستمرت فيها الى اليوم، قلّصت من دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي والتنموي من خلال تخليها عن القطاعات ذات البعد الاجتماعي وعن تمويلها من ميزانية الدولة ليتحول دور الميزانية إلى جامع للضرائب لتسديد الديون الخارجية على حساب رفاهة المواطن.

فقد أغلقت سياسة التقشف أبواب الوظيفة العمومية أمام التشغيل، كما أدت هذه السياسة إلى رفع الضرائب وتسبّب في ارتفاع الأسعار.

كما تقف هذه السياسة وراء رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات مما تسبّب أيضا في ارتفاع الأسعار وعمق تدهور المقدرة الشرائية.

أما السياسة النقدية المفروضة من صندوق النقد الدولي وقنّنها قانون استقلالية البنك المركزي، وترجمتها نسبة فائدة مديرية مرتفعة فإن آثارها على المواطن وعلى المؤسسة الاقتصادية وعلى قطاعات الإنتاج لا تخلو من ضغوط مكبّلة للاستهلاك ومعطلة ومدمرة للمؤسسة الاقتصادية وقطاعات الإنتاج.

هذه الآثار الخطيرة تترجمها نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي التي لم تخرج في تونس عن نطاق الصفر و2%، وهو نطاق غير قادر على خلق الثروة وعلى خلق مواطن الشغل.

من هذا المنطلق نعتقد أن معالجة البطالة والفقر التضخم والمديونية، تمر حتما عبر التغيير باعتبار أن السياسات المتبعة هي سياسات تفقير للشعوب وتكريس للبطالة والفقر والتهميش وتفكيك الدولة الوطنية، وهي مدخل للتركيع والدفع نحو التطبيع.

المصدر: بوابة تونس

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here