أفريقيا برس – تونس. يشهد العالم منذ سنوات تحولات في خارطة التحالفات بين الدول وظهور تكتّلات جديدة وتوجّهات صاعدة تضع الدول أمام اختبار مراجعة سياساتها الخارجية وتوجّهاته الدبلوماسية، وتونس ليست بمعزل عن هذا الاختبار، بل هي تحت مجهره وسط تساؤلات حول أي اتجاه ستسلك الدبلوماسية التونسية خلال الولاية الثانية للرئيس قيس سعيّد وكيف ستكون علاقات البلاد الخارجية مع الأطراف التقليدية والتكتّلات الصاعدة.
وفي هذا السياق، هناك أطراف تتمسك بسياسة بقاء تونس على مبدأ “الحياد التام” في علاقاتها الخارجية، بينما ترى أطراف أخرى أن الوقت قد حان لاتخاذ مواقف أكثر جرأة بل و”تنحاز” عند الضرورة”، فيما يذهب طيف آخر من المرشحين إلى الدفع نحو قلب القاعدة التقليدية للسياسة الخارجية التونسية.
السيادة الوطنية
إثر إعلان نتائج الانتخابات، وفوز الرئيس قيس سعيّد بولاية ثانية، كان من أول اللقاءات التي شهدها قصر قرطاج، لقاء سعيّد بوزير الدفاع، ثم بوزير الخارجية. وقد شدّد الرئيس التونسي خلال اللقاء بمحمد علي النفطي، وزير الشؤون الخارجية، على ثوابت السياسة الخارجية التونسية وأولها الرفض القاطع للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد.
تميزت السياسة الخارجية للدولة التونسية منذ السنوات الأولى لبناء الدولة في ستينات القرن الماضي بالحياد، لكن مع اتخاذ خطوات جريئة في بعض القضايا العربية التي تهم أساسا القضية الفلسطينية، خاصة في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة.
ولم يحد خلفه زين العابدين بن علي عن المبدأ، وتميزت علاقات تونس الخارجية بالرصانة وغياب التوتر مع الجيران وعلاقات جيدة مع الجميع، مع احترام خصوصية العلاقة مع المستعمر القديم (فرنسا)، وفرض احترام السيادة الوطنية ورفض التدخل في شؤونها الداخلية.
بعد ثورة 11 جانفي 2011، حادت الصورة عن خطوطها العريضة وبدا أن هناك توجّها من الدبلوماسية الهادئة إلى دبلوماسية المحاور. وضاعت البوصلة في الملف الليبي الذي يعتبر من أهم الملفات التي تمس الأمن القومي في تونس في سياق إلحاق تونس بدول “الربيع العربي”.
ولقي ذلك رفضا أغلبية الشارع التونسي بعد تضرر تونس من تلك السياسة، خاصة في محاولة ربطها بتركيا وقطر وتوجهاتهما السياسية في تلك الفترة. وتنفس التونسيون الصعداء بعد فوز الباجي قائد السبسي في انتخابات الرئاسة في 2014، وقد سعى لاخراج بوصلة السياسة الخارجية التونسية من التوجه التركي القطري.
خلال الولاية الأولى للرئيس قيس سعيّد لم تتغير كثيرا بوصلة السياسة الخارجية إلا في بعض الفترات حين ساد توتر بسبب انتقادات عواصم أوروبية ومعها واشنطن لـ “حملة اعتقالات لناشطين سياسيين وحقوقيين”، الأمر الذي رفضته السلطات التونسية واعتبرته “تدخلا سافرا” في شؤونها.
وفي مناسبات عديدة شددّ قيس سعيّد على السيادة الوطنية ورفض أي نوع من التدخلات الخارجية في الشأن الداخلي التونسي. وظلّت علاقة الشدّ والجذب متواصلة بين تونس والاتحاد الأوروبي (الشريك الاقتصادي الأول لها).
لكن، بدأت الأوضاع تتغير في الفترة الأخيرة من ولاية قيس سعيد الأولى بعد نجاح خطة رئيس وزراء إيطاليا في الحصول على دعم تونس في ملف الهجرة غير الشرعية. وأصبح الرئيس سعيد “شريكا مميزا في سياسات احتواء الهجرة” وفق تعبير صحيفة لومنود الفرنسية. وكان لنجاح قمة الفرونكوفونية صدى جيدا على مستوى العلاقات مع فرنسا.
ومع دول الجوار، انتقد البعض الرئيس قيس سعيّد حين استقبل قائد جبهة البوليساريو (على هامش قمة طوكيو للتنمية الإفريقية “تيكاد 8”). واعتبروا أن ذلك يؤثر بعلاقة تونس مع المغرب ويهدد سياسة الحياد التي لطالما حكمت علاقات تونس بدول الجوار، في إشارة إلى المغرب والجزائر.
أما في الملف الليبي فمازال الدور التونسي ضعيفا رغم أهميته كلاعب رئيسي في هذه الأزمة، وإصرار الفرقاء الليبيين على أن تكون تونس منصة لأي حوار أو تواصل. وينتظر أن تلعب تونس دورا أكبر في هذا الملف في الفترة القادمة.
التوجه شرقا
تشدّد بدرة قعلول، رئيسة المركز الدولي للدراسات الإستراتيجية الأمنية والعسكرية، في تصريح لـ “أفريقيا برس” على أن “أمن تونس من أمن ليبيا”، و”استمرار التعطيل في ليبيا يهدّد الأمن القومي التونسي”. وتؤيد الخبيرة الإستراتيجية التونسية الدعوات القائلة بمراجعة التوجهات الجيواستراتيجية معتبرة أن العالم يتوجّه شرقا اليوم، والمستقبل ينظر له أيضا من بوصلة الصين، وعلى السياسة الخارجية التونسية أن تضع ذلك على خارطة توجهاتها في السنوات القادمة.
ويقول المحلل السياسي نزار الجليدي، “على المستوى السياسي الدولي، تظهر قرارات الرئيس عكس ما يروج له من أنه في حالة انطواء”، تكشف قرارات سعيد، وفق تصريح الجليدي لـ “أفريقيا برس” أن “تونس تولي وجهها نحو الشرق”.
لكن ذلك لا يعني وفق الخبراء أن تونس ستكون في قطيعة مع الغرب “الأميركي” وحلفائها التقليديين، بل على العكس يمكن للسياسة الخارجية أن تحقق توازنا لافتا وناجحا في إمساك العصا من الوسط في علاقتها بين الشرق والغرب.
ولا يعتقد صهيب المزريقي، القيادي في حركة البعث، “أن السياسة الخارجية للدولة التونسية ستتغير خاصة وأن تونس اليوم قد اتخذت طريقا جديدا يتمثل بالأساس في الانفتاح الاقتصادي على أكثر ما يمكن من الأسواق العالمية ورسم خارطة جديدة تعتمد بالأساس على التعامل مع أقطاب جديدة صاعدة وتبحث عن تموقع دولي… في مقابل ذلك تعتمد الدبلوماسية التونسية على عدم الانحياز والانخراط في أي تمظهر إمبريالي سواء كان قديم أو ناشئ مع ضرورة أن تلعب تونس على منطق التناقضات العالمية وفق ما يخدم مصلحتها بالأساس مراعية في ذلك العامل الجغرافي الهام جدا والرابط بين إفريقيا وأوروبا وإفريقيا والصين.
ويظن المزريقي “أن السياسة الخارجية لن تتغير في علاقة التعامل مع الجهات المانحة وأبرزها صندوق نقد دولي والبنك العالمي كأذرع للرأسمالية العالمية وستتبع الدولة التونسية منطق التعويل على الذات في أشكاله المتعددة كمخرج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية”.
وفي علاقة بالقضية المركزية للأمة العربية، وهي القضية الفلسطينية، فإن موقف تونس، وفق المزريقي “هو موقف تقدمي من جهة أنه يزيل الغبار عن المفاهيم الإمبريالية التي تريد حصر الصراع بين قطر واحتلال إلى تدقيق المصطلح كونه صراع عربي صهيوني وهو ما جعل قاعدة التعامل عدم الاعتراف بالكيان ولا بما يسمى حدود 1967 إثر نكسة يونيو بل طالبت تونس بكل فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر بل والتنصيص على ذلك دستوريا وفق ديباجة دستور 25 جويلية 2022”.
وتحمل العهدة الثانية للرئيس قيس سعيّد الكثير من التحدّيات المحلية والخارجية، وسط الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يبدو أنها ستزداد تعقيدا مع ما كشف عنه مشروع ميزانية 2025، وعلى مستوى الخارج في ظل التطورات الحاصلة في الشرق الأوسط والتي لا يمكن اعتبارها ملفا منفردا بل هي أساس كل التغيرات التي تحصل في الخارطة الجيوسياسية العالمية. كما أن الأضواء تتجه أكثر نحو أفريقيا كقارة صاعدة من جديد وتملك تونس مميزات إستراتيجية تمكّنها من الإمساك بكل الخيوط كما تمتلك خبراء وكفاءات تضمن ارساء سياسة خارجية داعمة لتوجهات السياسة الداخلية ومكملة لها.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس