استفتاء تونس: تمرير الدستور رقصة حرب فارغة ستزيد من مأزق البلاد

43
استفتاء تونس: تمرير الدستور رقصة حرب فارغة ستزيد من مأزق البلاد وتعمق الانقسام
استفتاء تونس: تمرير الدستور رقصة حرب فارغة ستزيد من مأزق البلاد وتعمق الانقسام

أفريقيا برس – تونس. نجح الرئيس التونسي قيس سعيد بتكريس خطوات استيلائه على السلطة التي بدأها قبل عام عندما صوت ثلث التونسيين لصالح دستوره الذي لفقه استاذ القانون الدستوري السابق على عجل. وبذلك حول النظام البرلماني الذي قام على تقاسم السلطات منذ الثورة التي أطاحت بالديكتاتور زين العابدين وأعاد البلاد للنظام الرئاسي وسط مخاوف من العودة إلى نفق الديكتاتورية من جديد.

كوميديا أخطاء

وبدت العملية في مجملها مهلهلة منذ بداية مغامرته الفردية في “تصحيح المسار” باسم الظروف الاستثنائية، فلم تشارك سوى نسبة 5 في المئة من السكان في المشاورة على الإنترنت أو الاستبيان الوطني، فيما أعلنت اللجنة التي كلفها بصياغة دستور جديد بدلا من دستور 2014 أنها ليست مسؤولة عن النسخة التي وضعها سعيد أمام الناخب التونسي وحذر رئيسها من “ديكتاتورية مشينة”. واعترف الرئيس لاحقا بأن النسخة النهائية التي لم يكن للتونسيين سوى أسابيع للتعرف على بنودها احتوت على أخطاء. وأكملت المهزلة بالأخطاء التي ارتكبتها هيئة الانتخابات العليا والتي عين سعيد رئيسها بنفسه وأشرفت على عدد من الانتخابات الناجحة، ولكنها هذه المرة ارتكبت أخطاء في إعلان النتائج. وجرى الاستفتاء بدون رقابة دولية، حيث طرد سعيد لجنة البندقية التي شككت بشرعية الدستور وخرق الرئيس نفسه الصمت الانتخابي.

تفكيك لا بناء

ولم تكن المشاركة عالية حسبما توقع سعيد، مقارنة مع انتخابات أخرى، والسبب الواضح هو خيبة الناخب التونسي، حتى الذين خرجوا العام الماضي للشوارع فرحا عندما عزل رئيس الوزراء وعلق البرلمان وحله لاحقا، فحياة التونسيين لم تتغير منذ 25 تموز/يوليو، كما لم تتغير منذ إقدام محمد بوعزيزي على حرق نفسه في بلدة تونسية نائية قبل 11 عاما.

وظلت جهود سعيد طوال العام الماضي مركزة على تغيير المسار السياسي الذي يخدم أهدافه الشخصية بدون الالتفات للمواطن العادي الذي زاد وضعه بؤسا بسبب ارتفاع أسعار المواد الأساسية نتيجة لغزو روسيا أوكرانيا في 24 شباط/فبراير.

ومهما يكن فقد جاء سعيد بمهمة تفكيك المنجز الديمقراطي الذي ظل النموذج الوحيد الناجي من ثورات الربيع العربي. وسيكرس الدستور الجديد الرئيس كمصدر للسلطة في البلاد بيده تشكيل الحكومات وتعيين القضاة وتقديم مشاريع قوانين. وجرى الاستفتاء وسط مقاطعة شبه كاملة للأحزاب السياسية التي استخدمها سعيد كشماعة ليلقي عليها مشاكل الفترة الماضية وبالضرورة فشله، وهي التي استبعدها من أية مشاركة في عملية كتابة دستور كتبه جزئيا بنفسه. وحصوله على نتيجة “نعم” وبنسبة مشاركة لم تتجاوز الـ 27 في المئة من الناخبين التونسيين، أي ثلث سكان البلاد البالغ عددهم 12 مليون نسمة ما هي إلا رقصة انتصار فارغة.

ويتفق الجميع أن الديمقراطية التونسية التي قام سعيد بتفكيكها وإعادة البلاد إلى النفق المظلم لم تكن تامة، فعلى الأقل نجحت تونس خلافا لدول الربيع العربي الأخرى الافلات من قبضة القمع كما في مصر، أو الدمار والحروب الأهلية كما في ليبيا واليمن وسوريا. وكانت ديمقراطية تونس الناشئة هشة، استطاعت تنظيم ثلاثة انتخابات حرة ونزيهة وصادقت على دستور شامل حظي بالإعجاب وأنشأت مؤسسات مستقلة لحماية حرية التعبير والصحافة. إلا أن تونس فشلت بعد الثورة بتوسيع الفرص الاقتصادية والقضاء على الفساد. وترى صحيفة “نيويويورك تايمز” (26/7/2022) أن الاستفتاء أنهى مرحلة ما بعد الثورة على ما يبدو، وهي المرحلة التي تم فيها تقاسم السلطات. وأشارت إلى أن كل العملية كانت مصممة لخدمة هدف سعيد. فقد منع المسؤولون المحليون عددا من التظاهرات المعارضة للاستفتاء بذرائع أمنية وصادق الوزراء الذين عينهم سعيد على المسودة وحث الرئيس الناس مرتين على المشاركة بنعم. وخصصت مؤسسة التلفزة والإذاعة التي تمول من المال العام تغطية واسعة لمؤيدي الاستفتاء واستبعدت المعارضة. وردت قوات أمن سعيد على تظاهرات المئات نهاية الأسبوع برش غاز الفلفل على المتظاهرين واعتقال الكثير منهم. وقالت الصحيفة إن مشهد يوم الإثنين متناقض عن مشهد العام السابق حيث صفق التونسيون فرحا وتدفقت الجموع على العاصمة مرحبة بسعيد كمنقذ وأن سيطرته على السلطة ضرورية لمعالجة البلاد من الفساد والنظام السياسي العاجز. وبعد عام، يبدو سكان تونس في تموز/يوليو كمن في حالة نوم وغير مهتمين ولا يستمعون كثيرا لنداءات سعيد الذهاب إلى صناديق الاقتراع. وكان الحر الشديد مانعا لترك منازلهم، أو مغادرة شواطئ البحر التي يقضون عليها عطلاتهم وشغلهم ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأجور المتدنية في وقت تنزلق فيه البلاد نحو الدمار عن الاهتمام بالتصويت.

خسر الدعم

وبالتأكيد خسر سعيد الدعم الكبير الذي حظي به العام الماضي، ذلك أنه منح الأولوية للإصلاحات السياسية بدلا من معالجة الاقتصاد المتداعي وحتى بعد غزو روسيا لأوكرانيا التي أدت لارتفاع حاد في الأسعار ومعاناة الكثير من التونسيين. ودعم الكثير من الناشطين السياسيين ومنظمات المجتمع المدني والنقابات العمالية والأحزاب السياسية تحركه العام الماضي، إلا أنه خسر دعمهم بعدما بدأ يحكم من خلال الأوامر الرئاسية واعتقال المعارضين وعين شلته في المؤسسات المستقلة سابقا بما فيها هيئة الانتخابات. ووجدت دراسة مسحية دولية أن الدعم لسعيد تراجع بنسبة 20 نقطة ما بين تشرين الثاني/نوفمبر وأيار/مايو. ونظم الاستطلاع قبل دعوة المعارضة لمقاطعة الاستفتاء ووجد أن نسبة 30 في المئة من السكان لن تشارك فيه. والآن وقد أرضى سعيد غروره وأصبح لديه دستوره، ويبدو أن الطغاة في العالم العربي يحبون دائما تغيير الدساتير حماية لأنفسهم، لكن لن يخرج هذا تونس من مأزقها. وسيظل سعيد أمام امتحان الشرعية طالما لم يحل المشاكل الاقتصادية. ويرى غوردون غري، من مركز التقدم الأمريكي والذي عمل سفيرا في تونس ما بين 2009- 2012، “يبدو هذا كمشروع يرضي غروره، وماذا بعد؟ ما هو العقد الاجتماعي الذي يعرضه سعيد؟ وبالأساس، لا حقوق ولا نمو اقتصادي وهو أمر غير جذاب، والكيفية التي سيرد فيها التونسيون هو السؤال”.

لن يتوقف

ولم تنته مهمة تغيير البنية السياسية للبلاد، وتهميش المؤسسات الديمقراطية النزيهة، فالمعركة القادمة ستكون مع اتحادات الشغل، التي أرجعت عملية الاستفتاء لضمير أعضائها، لكنها أصبحت المعارض القوي لتفرد سعيد في السلطة وقامت في الشهر الماضي بإضراب عام. وهي تمثل حجر عثرة أمام محاولات الحكومة الحصول على دعم من صندوق النقد الدولي الذين لن يأتي للإنقاذ بدون ثمن كما فعل مع مصر: تقشف وتخفيض فاتورة رواتب العاملين في القطاع العام. وهو ما لن توافق عليه اتحادات الشغل، وبخاصة الإتحاد التونسي العام للشغل. ويرى ديفيد هيرست من موقع “ميدل إيست آي” (26/7/2022) أن المواجهة الآتية ستكون معها. ومنذ استيلائه على السلطة ركز سعيد هجومه على حركة النهضة التي تعتبر أكبر حزب في تونس، وقبل التصويت تم جر زعيمها راشد الغنوشي للتحقيق معه بتمهمة غسيل أموال أمام محكمة للإرهاب، مع أن جريمته ليست إرهابا، وهذا هو حال تونس اليوم، فتهمة الإرهاب تستخدم لإسكات معارضي النظام. ورفض القاضي لائحة الإتهام وأفرج عن الغنوشي. ويعتقد هيرست أن لعبة سعيد في استهدافه المعارضة هي تحميلها إثم مشاكل البلاد والتلويح بتهمة الإرهاب و”القوى الظلامية” هي الوسيلة لإقناع التونسيين أنهم عرضة للتهديد منها.

لم يكن مفاجئا

ولفت هيرست إلى نقطة مهمة أن النتيجة لم تكن مفاجئة مع أن سعيد ربما شعر بالمفاجأة لأنه فاز، فقبل عقود أعلن حزب جومو كنياتا الزعيم الكيني، مندهشا عن فوزه بعنوان كبير “إنه مزي” (الرجل العجوز) مع أن الحزب فاز بكل مقاعد البرلمان بالفترة ما بين 1968 و 1988 ومن هنا فالعملية في تونس هي بمثابة عودة مشينة لديكتاتوريات ما بعد الاستقلال في دول أفريقيا.

ورأت مونيكا ماركس بمقال في صحيفة “واشنطن بوست”(25/7/2022) أن الاستفتاء على الدستور الجديد هو “يوم أسود للديمقراطية” وأن تمرير الدستور يعني رسالة مشؤومة لكل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقالت: “صحيح أن حكومات تونس ما بعد الثورة لم تستطع بناء اقتصاد فاعل وإصلاح أمن الدولة الفاسد أو إنشاء محكمة دستورية. ورغم الإخفاقات الواضحة إلا أن خطوات تونس الواثقة نحو حرية التعبير والحكم الديمقراطي دفعتها للحصول على أعلى الدرجات في مؤشرات الديمقراطية “بوليتي4” و “فريدم هاوس”. وكانت رمزية هذا، وهو أن بناء ديمقراطية عضوية ومتجذرة في القواعد الشعبية أمر ممكن في العالم العربي وبمثابة رد مضاد للجدل المضاد من الحكومات المستبدة والمتطرفين. ومنح مثال تونس أملا لكل المنطقة”. وعلقت أن المفارقة هي قيام رجل قانون لم يكن يعرفه أحد قبل عام 2019 وقدم نفسه كحصان أسود ومرشحا شعبوبا، مصمم على عكس كل الإنجازات.

وقالت “بالنسبة لرجل أقام سمعته على زعم خبراته، فإن هجومه غير الدستوري على المؤسسات كان مفارقة تراجيدية. ولم يرتدع من نقاده الذين يضمون الآن كل الأحزاب السياسية وكل منظمات المجتمع المدني تقريبا، فإن سعيد يندفع بسرعة نحو نظام رئاسي مفرط في الإستبداد ويمكن أسوأ من الذي جاء قبله”. وقالت إن “هذا الدستور المصاغ بطريقة متهورة والمؤلف بطريقة منفردة إهانة لكرامة التونسيين والإنجازات الديمقراطية التي تحققت بشق الأنفس”. وتعتقد ان الدستور الذي حصل على “نعم” متدنية هو نهاية للتجربة الديمقراطية وللأبد، ونحن بانتظار ردة فعل الناس الذين انتفضوا من أجل حكومة تمثل الجميع وإن كانوا شاملة بديكتاتورية أخرى و “هذه وللأسف من صنعهم”.

مرحلة جديدة

بعد النتائج التي أعلنتها هيئة الانتخابات العليا متأخرة، نزل سعيد في الساعة الثانية صباحا إلى الشارع مع أنصاره، متحدثا عن مرحلة جديدة، وهو يبشر التونسيين بالإزدهار ويبيعهم الأحلام منذ وصوله إلى السلطة، فقد قدم نفسه على أنه ممثل للشعب والفقراء، فازدادوا فقرا. ويعتقد حتى من صفقوا لحركته العام الماضي أنه “أغرق البلاد في أزمة” وأن دستوره يضع اللبنات لديكتاتورية جديدة وأنه كتب بسوء نية و”نجح في تقسيم الناس إلى قسمين. لم نعش هذه التجربة أبدا، حتى في ظل نظام بن علي. لقد أصبحنا متعصبين، سواء مع أو ضد. لم يعد الناس يبتسمون لبعض، حتى في الأسرة الواحدة” كما نقلت صحيفة “واشنطن بوست” (25/7/2022) عن مؤيدة خاب أملها فيه. وقال صادق بلعيد، مسؤول اللجنة التي كلفها سعيد بكتابة المسودة ليستلم نسخة مخنلفة من الرئيس: “إنها كوميديا حقيقية” تنتهي بشكل سيء. الحقيقة هي أن الرئيس استخدم هذه المكانة التي يتمتع بها في أعين السكان لتمرير نص لا يستجيب لاحتياجات أو مطالب الشعب ولكن لنواياه”.

هل اكتملت الثورة المضادة

وجرت تحركات سعيد وسط تردد من الدول الغربية التي طالما دعت للإصلاح الديمقراطي في العالم العربي، لكنها تنتهي بدعم الحكومات المستبدة، وهو ما قرأنا عنه في الأيام الماضية في ظل زيارة الرئيس الأمريكي جوي بايدن للمنطقة، حيث اجتمع مع قادة يعتبرون غير ديمقراطيين، في تخل عن لازمته التي يرددها دائما من أن المعركة في العالم هي بين الديمقراطية والإستبداد. وكأن مقاومة ديكتاتور مثل فلاديمير بوتين تبرر لأمريكا الجلوس مع طغاة أخرين للتخلص منه. وتناولت مجلة “إيكونوميست” (28/7/2022) الموضوع، حيث قالت إن أفضل طريقة لتجنب اتهامات النفاق هي امتناع القادة الغربيين عن تبني مواقف أخلاقية لا يمكنهم تحملها والإعتراف بأن السياسة الخارجية تنبني على المقايضات. ومن هنا لم يثر استفتاء سعيد إلا همهمات وسط الساسة في أوروبا وأمريكا، وحتى في العالم العربي لم يثر هزات في المنطقة التي لا تزال تعيد ترتيب نفسها بعد عقد من التحديات المباشرة للحكام المستبدين والتي زادت من الآمال حول قدرة المواطنين لا المستبدين في تحديد مصيرهم. وقالت صحيفة “الغارديان” (25/7/2022) إنه مع قلب الثورات عبر الإنقلاب العسكري في مصر والسعودية في البحرين وأخيرا وعبر الدعم الخليجي للحكومة السورية، إلا أن تونس ظلت الأمل الوحيد بين هذه الحركات لإعادة ضبط العقد بين المواطنين والدولة وإعادة تعريف طريقة إدارة السياسة في الشرق الأوسط. وظهرت السعودية والإمارات كأكبر داعمين لسعيد والذي يريد تغيير طريقة إدارة البلاد. ونقلت الصحيفة عن نانسي عقيل، من المنظمة الحقوقية “المركز للسياسة الدولية” “مع أن تونس كانت في طريق الإصلاح السياسي إلا أن التحديات الاقتصادية المترافقة مع الفساد أثارت القلق وقبل رئاسة سعيد، وكان الاستيلاء على السلطة هو الجواب على التحديات”. وقالت إن “الديناميات في المنطقة ومنذ 11 عاما ليست واعدة” و”العلاقة التعاقدية بين الغرب والمنطقة التي تعطي الأولوية للنفط وبتركيز ضيق على الأمن وعلاقات التطبيع مع المستبدين زادت الأمور سوءا”. وفي تقرير آخر نشرته في (26/7/2022) نقلت فيه عن الباحث في وقفية كارنيغي أتش إي هيللر قال فيه”بالطبع يعتبر استفتاء تونس اليوم نكسة في محاولات تجذير الديمقراطية هناك” و”لكن تاريخ التغير الثوري حول العالم هو هكذا: خطوة للأمام وخطوة للوراء وهكذا دواليك، وتونس، وبصراحة ليست مختلفة”. في الوقت الحالي يعتقد سعيد أنه وضع المسمار الأخير في نعش الربيع العربي، وهو ما سيفرح أعداء الثورات العربية، ولكن التاريخ هو الحكم، وسيكتشف لاحقا أن الجياع في تونس قد يصبرون ولكنهم لن ينتظروا طويلا.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here