بكامل زينتها، تحرم من حضور عرسها لأن الموعد الأصلي لإقلاع الطائرة التي كان من المنتظر أن تقلها من العاصمة تونس إلى مدينة جربة مع الساعة الثالثة بعد الزوال لم تقلع إلا بعد منتصف الليل؛ شاب قادم من باريس كان يمني النفس بقضاء أربعة أيام مع والدته ضاع منها يومان في مطار تونس قرطاج في انتظار طائرة الخطوط الداخلية، التي ستقله إلى مدينة توزر في الجنوب التونسي؛ حالة اكتظاظ غير طبيعية في مطار تونس قرطاج الدولي؛ مسافرون ينامون على الأرض وآخرون عالقون بسبب عدم وجود طائرة تنقلهم إلى وجهتهم؛ قصص كثيرة يتناقلها التونسيون، وعاش بعض تفاصيلها صحافيون من “العرب”، عن أزمة الخطوط التونسية ورحلاتها، الدولية والداخلية، المتأخرة.
لا يقتصر الأمر على رحلة أو اثنتين، أو تأخير بساعة أو ثلاث ساعات، بل وصل الأمر في بعض الرحلات إلى أكثر من 25 ساعة. فلا يمر يوم إلا وينشر فيديو أو أكثر على فيسبوك، يعرض شخصا يشكو من “التونيسير” ضمن أزمة تتعدد أسبابها وتتداخل وتكثر فيها التأويلات بين من يقول إن هناك تعمّدا بهدف التفويت في شركة الخطوط التونسية للقطاع الخاص، وبين من يرى أن الأزمة أمر طبيعي في ظل حالة الفوضى العارمة في البلاد، وبين هذا وذاك تستمر معاناة المسافرين، الذين أعرب الكثير منهم في تصريحات مع “العرب”، عن أنه لولا العائلة ما كانوا عادوا إلى تونس.
يتمسك المغتربون التونسيون بأن تكون عودتهم إلى البلاد عبر ناقلتهم الوطنية “شركة الخطوط التونسية” في خطوة لتعزيز فرص نجاتها من الإفلاس، لكن هذا الخيار أصبح للكثيرين منهم بمثابة مغامرة لا تخلو من المفاجآت والكوابيس.
اضطرت إيمان بن إبراهيم المقيمة بمدينة مرسيليا الفرنسية إلى الانتظار لنحو سبع ساعات مع أطفالها الثلاث، من بينهم رضيع، حتى تستقل الطائرة في الأخير عند الثالثة فجرا بعد أن كانت مقررة عند الساعة الثامنة و30 دقيقة ليلا.
وخلال فترة الانتظار في قاعة مغلقة، لم يقدم مسؤولو الشركة للمسافرين تفسيرا لأسباب تأخير الرحلة ولا معلومات دقيقة بشأن توقيتها المتوقع كما لم يزودوهم بالغذاء والماء طول فترة الانتظار، على الرغم من وجود مسنين ورضّع ومرضى.
وقالت إيمان لـ”العرب”، “اكتفوا بتذكيرنا بالتأخير كل ثلاثين دقيقة. كانت قاعة الانتظار مغلقة ولم يكن هناك مجال آخر حتى يتزود المسافرون بما يلزمهم من حاجيات. طالت ساعات الانتظار حتى وقت متأخر ليلا ودخل البعض في حالات من الهيستيريا والصراخ”.
في ذات الليلة، وإلى جانب رحلة إيمان، التي كانت وجهتها مدينة مرسيليا الفرنسية، شمل التأخير رحلتين إلى مدينتي ليون وبوردو الفرنسيتين، وأدى الوضع إلى المزيد من الشحن والغضب والفوضى داخل قاعة الانتظار.
فوضى وتأخير
تبدو قصة إيمان الأكثر تواترا بين مسافري الخطوط التونسية بسبب شكاوى التأخير المزمنة، غير أن ذلك لا يحجب الأسوأ مثل تفشي سرقات الأمتعة أو تغيير قائمة الحجوزات ليكتشف بعض المسافرين أن تذاكر سفرهم سحبت في آخر لحظة وتم تعويضهم بآخرين.
أنتج هذا النزيف المخيف من التعثر على مدار سنوات داخل إحدى أعرق الشركات الوطنية بتونس، انطباعا لدى المسافرين التونسيين (المغتربين أساسا) بأن الناقلة الوطنية تمعن في المخاطرة بسمعتها دوليا وبمصالح الدولة المتعطشة لتحويلات مغتربيها بالنقد الأجنبي والمقدرة بنحو 1.6 مليار دولار (عام 2016) في ظل شح المخزون من العملات الأجنبية لدى البنك المركزي.
ومع أن الشركة لا تزال في وضع متعثر ومديونية لا تقل عن 200 مليون دينار منذ 2011، فإنها أغفلت بشكل كبير الحفاظ على الحد الأدنى من الخدمات من جملة الإصلاحات التي وضعت لإعادة تأهيلها. وتتضارب هذه السياسات مع خطط واستراتيجيات الشركة للتوسع في بعض الأسواق في أفريقيا وأميركا الشمالية.
ولا يبدو مسار إعادة التأهيل مفروشا بالورود، إذ أن نزيف الفوضى أصبح أكثر استفحالا ليشمل رحلات العودة من الخارج وحتى الرحلات الداخلية بين مختلف مطارات تونس، فضلا عن وضع اجتماعي معقد داخل الشركة ينبئ بانفجار قريب.
بالنسبة إلى المسافر المغترب نضال الرصاوي، فإن إحدى أكثر التجارب الدرامية في حياته هي اضطراره إلى الانتظار كـ”رهينة” لمدة وصلت إلى 25 ساعة داخل مطار قرطاج الدولي قادما من باريس في انتظار رحلة داخلية تقوده إلى مطار توزر، جنوب البلاد.
يروي نضال ما حصل في مطار قرطاج قائلا “اقتطعنا تذاكرنا في المطار ومع مرور عدة ساعات في انتظار الرحلة. اختفى تدريجيا الموظفون ومدير المحطة ورجال الأمن. كان هناك مسافرون مقعدون ومسنون. نعتقد أننا حققنا رقما قياسيا في الانتظار لا سابق له في أي مطار دولي آخر”.
وتابع نضال في سرد باقي تفاصيل القصة قائلا “طلبوا منا حزم أمتعنا والمغادرة إلى أحد النزل مع التعهد بتأمين الرحلة في اليوم التالي. أعادونا في الغد وبدأنا قصة جديدة مع الانتظار”.
في نهاية المطاف غادرت الرحلة إلى مطار توزر عند الساعة التاسعة ليلا من يوم الاثنين بعد أن كانت مقررة عند السادسة من اليوم السابق، علما وأن نضال وصل مطار قرطاج قادما من باريس منذ يوم السبت.
وأشار نضال الرصاوي إلى أنه سيرفع دعوى ضد شركة الخطوط التونسية، داعيا المتضررين إلى ذات الخطوة، لا فقط الاكتفاء بالتذمر عبر فايسبوك، كردة فعل يمكن أن يكون لها الأثر، وإن على المدى الطويل، في الإصلاح.
وضع درامي
ينسحب الوضع الدرامي ذاته على نسبة هامة من رحلات شركة الملاحة التونسية، وعدة شركات أخرى عمومية تشملها برامج إعادة الهيكلة. والمعضلة الكبرى أنه ليست هناك من خيارات أخرى أرحم بالنسبة للمغتربين التونسيين المقدر عددهم بنحو مليون و200 ألف، أغلبهم مقيمون بدول أوروبية، فكابوس الرحلة إلى تونس أو المغادرة لا يختلف حالا بين الناقلة الجوية أو الخطوط البحرية المتجهة إلى مينائي جنوة الإيطالي ومرسيليا الفرنسي.
ومن سوء حظ المغترب شكري سعيد الذي دفع أكثر من ثلاثة آلاف يورو ثمنا لتذكرة العودة، فإن رحلته عبر “باخرة قرطاج” إلى ميناء جنوة تزامنت مع إضراب غير معلن مسبقا، من قبل عمال شركة الملاحة التونسية ما تسبب في حال من الصدمة والغضب في صفوف أكثر من ألفي مسافر من بينهم أطفال ونساء، تقطعت بهم السبل في ميناء حلق الوادي.
ناشد شكري عبر فيديو مصور من الميناء، سرعان ما انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، السلطات التدخل وإنقاذ المسافرين المعلقين على رصيف الميناء مع عائلاتهم لعدة ساعات وسط حالة من الغليان الشديد، إذ بدا الأمر وكأنهم يدفعون كلفة “معركة سياسية” بين الحكومة واتحاد الشغل.
وبعد مفاوضات مضنية تدخلت وحدات من الجيش لتأمين رحلة الباخرة التي غادرت ميناء حلق الوادي باتجاه جنوة عند حوالي الساعة الرابعة فجرا بعد أن أنهك الإرهاق المسافرين.
الوضع وصل إلى مرحلة أكثر خطورة مع انتشار دعوات داخل هيئات غير رسمية بمقاطعة رحلات الخطوط التونسية أو حتى مقاطعة العودة
لكن الوضع داخل شركات النقل الدولية وصل إلى مرحلة أكثر خطورة مع انتشار دعوات داخل هيئات غير رسمية ممثلة للمغتربين إلى مقاطعة رحلات الخطوط التونسية أو حتى مقاطعة العودة إلى أرض الوطن.
دفع هذا الأمر حزب آفاق تونس الممثل في البرلمان مثلا إلى أن يدق ناقوس الخطر بشأن التداعيات المتفاقمة لفوضى الخطوط التونسية، وصل إلى حد اتهام الحكومة ووزير النقل بتعمد الصمت، في وقت أصبح فيه ضرر الشركة بصورة تونس وبالقطاع السياحي الحيوي ملموسا أكثر فأكثر.
وقد دعا الحزب بشكل صريح الحكومة إلى تحمل مسؤولياتها في ضمان حسن إدارة المنشآت العمومية من حيث جودة الخدمات والمردودية المالية بعيدا عن الضغوطات الأيديولوحية والحسابات السياسوية على اعتبار أن المنشآت العمومية تتصرف في جزء هام من المال العام وأي تسيب في إدارتها يمثل إهدارا للمال العام وتعطيلا لمصالح المواطنين.
وفي الواقع فإن شركة الخطوط التونسية تتواجد في واجهة ملف تتداخل فيه السياسة والاقتصاد، فبعد أن دفعت حكومة ما بعد الثورة عام 2011 إلى فتح الأبواب على مصراعيها لانتدابات واسعة النطاق للمطرودين ولمن شملهم العف التشريعي العام من سجناء النظام السابق، أصبحت معاناة الشركة مضاعفة كغيرها من الشركات الوطنية.
واليوم تبدو الخطوط التونسية بين فكي رحى، فاتخاذ أي خطوة لتسريح نحو 1200 عامل مضافين على الطاقة التشغيلية الحقيقية للشركة، سيكلف، بحسب المسؤولين، ما لا يقل عن 200 مليون دينار، وهو أمر لا يمكن أن تتحمله الشركة بوضعها المالي الحالي ومع خططها لتجديد أسطولها المتقادم، كما لا يمكن إلى جانب ذلك توقع التبعات الاجتماعية مع النقابات لمثل هذه الخطوة.
مع كل ذلك تردد الحكومة ومجلس إدارة الشركة بأن الخطوط التونسية هي تعبير عن سيادة الدولة وأن أي خطط لخصخصتها هي ضرب من التفريط في السيادة، لذلك يؤكد مدير الشركة إلياس المنكبي أن هذه الخطة ليست مطروحة بتاتا.
هل تقلع الخوصصة بالخطوط التونسية إلى بر الأمان
يرى عدد من التونسيين أن التعثر الذي تعيشه اليوم الخطوط التونسية، خطوات مقصودة بغاية التفويت فيها، حيث تعتبر الحكومة التونسية أن خصخصة الخطوط التونسية السبيل الوحيد لتكون أكثر تنافسية.
لكن، لا يؤيد كثيرون هذا المقترح. وأكد مسؤولون في شركة الخطوط التونسية أن لا مجال لتحقيقه وأن التفويت فيها أمر غير مطروح، فيما يتفق أغلب التونسيين على أن الحل ليس في الخوصصة بقدر ما يتعلق بالحرب على “عقلية” الفساد المنتشرة في مختلف المؤسسات العمومية.
ويقف الاتحاد العام التونسي للشغل القوي (أكبر منظمة نقابية في البلاد) في صف الرافضين لخطط خصخصة الخطوط التونسية، وغيرها من المؤسسات الوطنية، وتعهد بالتصدي لها.
لكن، من وجهة نظر رضا بن محمد، الخبير الاقتصادي، أن اتحاد الشغل أسهم في تردي وضع الشركة، وقال لـ”العرب” إن الاتحاد يدافع عن أجراء المؤسسات العامة دون الأخذ بالاعتبار الوضع الاقتصادي. وفسر ذلك “برغبته في الدفاع عن مواقع نفوذه، إذ أن الكثير من الأجراء والمسؤولين بهذا القطاع محسوبون عليه.
ورأى أنه على الاتحاد القبول بخصخصة الشركة ولو بصفة جزئية لحمايتها من الانهيار”. وتعد الخطوط التونسية، بشعارها الشهير “الغزالة”، واحدة من أعرق المؤسسات الوطنية في تونس. وكانت منذ نشأتها في أكتوبر 1948 محط تقدير.
وكانت موازناتها مضمونة وتساهم في تمويل الميزانية، لكن، في السنوات الأخيرة، بدأت هذه الصورة تتراجع، وبدأت تظهر شكاوى من سوء خدمات الخطوط التونسية.
وبعد سنة 2011، تعقد الوضع أكثر وتأزمت وضعيتها. وبينما كانت الخطوط التونسية تدر على خزينة الدولة أرباحا تقدر بـ600 بمليون دينار، انزلقت سنة 2011 إلى مشاكل هيكلية أدت إلى عجز مالي مستمر بسبب الوضع الأمني الداخلي وتراجع أعداد السياح، لكن أيضا، وفق ما صرح به الحبيب المكي، مدير عام الطيران المدني، بسبب الخيارات الخاطئة والقرارات التي اتخذت في الظروف التي شهدتها البلاد منذ 2011.
وتعاني الشركة من اضطراب في الخدمات مع تواتر التأخير في الرحلات وتقادم الأسطول. وتعد الانتدابات العشوائية أهم مشاكل الشركة في السنوات السبع الأخيرة، إذا تتهم الشركة بالمحسوبية في التعيينات لإرضاء أطراف بعينها، كما سبق أن لاحقت الشركة تهم فساد.