الجرف القاري قضية طويت صفحتها بين تونس وليبيا

57
الجرف القاري قضية طويت صفحتها بين تونس وليبيا
الجرف القاري قضية طويت صفحتها بين تونس وليبيا

إلهام اليمامة

أفريقيا برس – تونس. في سنة 1982 مثلت تونس وليبيا أمام محكمة العدل الدولية في “لاهاي” لحل أزمة بينهما محورها الجرف القاري. قضت المحكمة حينها بالسيادة الكاملة لـ”الجماهيرية العربية الليبية” على هذه المنطقة البحرية الإستراتيجية.

منذ ذلك الوقت طويت الصفحة ولا يذكر أن هناك جهة أعادت فتحها إلى أن نفض عنها الغبار الرئيس التونسي قيس سعيّد مؤخرا حين قال إن بلاده “لم تحصل إلا على الفتات” من حقل البوري النفطي الذي كان “يمكن أن يؤمّن حاجيات تونس”.

وفي تصريحاته التي جاءت خلال زيارة لمقرّ المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية قال سعيّد، وهو يهرض خارطة جغرافية تبيّن حدود الجرف القاري وتحدد موقع حقل البوري إن “النية كانت تتجه عام 1975 إلى قسمة هذا الحقل إلى نصفَين بين تونس وليبيا، ما من شأنه أن يؤمن كل حاجيات تونس وأكثر”.

وأشار إلى أنه “بعد 12 يناير 1974، وهو تاريخ إعلان وحدة لم تدم بين تونس وليبيا، تمَّ رفض مقترح وزير الخارجية الليبي في ذلك الوقت (أمين اللجنة الشعبية العامة للاتصال الخارجي والتعاون الدولي) علي التريكي تقاسم الحقل بعد أن ساءت العلاقات بين تونس وليبيا”.

أثارت هذه التصريحات جدلا واسعا بين الشارع التونسي، الذي يرزح تحت طائلة ضائقة اقتصادية قاصمة، ولطالما تساءل عن سبب فقدان تونس للموارد الطبيعية والنفطية مثل جارتيها الغنيتين تونس والجزائر، والشارع الليبي الذي اعتبر في تصريحات الرئيس التونسي استفزازا وإثارة لمشاكل تونس وليبيا في غنى عنها.

ومما زاد من الجدل إشارة الرئيس التونسي إلى أن المحكمة الدولية “لم تعتمد المقاييس التي كانت تعتمدها بالنسبة إلى تحديد الجرف القاري، إنما اعتمدت على مقياس يتعلق بنوع من الاتفاق الضمني بين تونس وليبيا، لكن لم تحصل تونس إلا على الفتات بعد صدور الحكم عام 1982”.

وبمجرّد أن نقل الإعلام هذه التصريحات ملأت مواقع التواصل الاجتماعي بصور خرائط وتحليلات وأراء ليبية وتونسية حول قضية الجرف القاري وتفاصيلها وتاريخها، حتى كاد الأمر يتحول إلى “فتنة” بين التونسيين والليبيين، خاصة من عامة الناس وأغلبهم لم يسمع عن قصة الجرف القاري إلا بعد تصريحات سعيّد.

يقع حقل البوري ضمن خارطة الجرف القاري بين تونس وليبيا وعلى بعد 120 كيلومترا شمالي الساحل الليبي، ويعتبر من أكبر الحقول المنتجة للنفط في البحر المتوسط بقيمة إنتاج تقدر بنحو 23 ألف برميل نفط يوميا. وتديره شركة مليتة للنفط والغاز بالشراكة مع شركة إيني الإيطالية.

مع اكتشاف الحقل في السبعينات من القرن الماضي اقترح الرئيس الليبي معمر القذافي تقاسم ثروات الجرف القاري بين تونس وليبيا، لكن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة رفض هذا المقترح، ثمّ توجه بعد أخذ وردّ إلى محكمة العدل الدولية عام 1978.

كان الملف الليبي مدعوما بالكثير من الوثائق والخرائط التي حصلت عليها من الأرشيف الإيطالي، في السيادة الكاملة على الجرف القاري، ما أقنع المحكمة الدولية بأحقية ليبيا في الحصول على السيادة الكاملة على الجرف القاري.

في ذلك الوقت اعتبر المتابعون أن الملف التونسي كان ضعيفا مقارنة بالليبي، خاصة وأن فرنسا (المستعمر القديم) لم تدعمها بالوثائق التي قد تقوي جانبها، على عكس إيطاليا، المستعمر السابق لليبيا.

رفض الجانب التونسي الحكم وقرر التقدّم لمحكمة العدل الدولية بطلب إعادة النظر في الحكم قصد تعديله، لكن وبتاريخ 10 ديسمبر 1985، صدر حكم يقضي برفض الدعوى وتقبّلت تونس الحكم وطويت صفحة الجرف القاري بين تونس وليبيا.

أحقية التونسيين

كأغلب تصريحات سعيّد السابقة انقسم الشارع التونسي بين شق مؤيد يرى أن على تونس أن تعيد النظر في خارطتها النفطية، ووصل إلى حد الحديث لا فقط عن مطالبة تونس بحقها في حقل البوري النفطي، بل وحقها في الحقول النفطية الموجودة في الأراضي الجزائرية، والتي خسرتها تونس بناء على التقسيم الفرنسي للحدود.

في المقابل، تعالت أصوات كثيرة رافضة لمثل هذه الكلام الذي لن يعمل إلا على إحياء نزاعات حدودية قديمة سيكون فيها التونسيين الخاسر الأكبر، في وقت يحتاج فيه إلى دعم جارتيه ولن يكون بمقدوره فتح جبهة خلافات جديدة.

وفي تدوينة على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك كتب السياسي التونسي عبدالوهاب الهاني: “قضيَّة الجُرف القارِّي خسرتها تونس منذ أربعين عاما بسبب غباء وغرور وجهل الفريق القانوني بقانون البحار وبالجغرافيا البحريَّة وبالنَّظريَّات الرِّياضيَّة وبالمبادئ القانونيَّة الدَّقيقة والعناصر التَّاريخيَّة والأنثروبولوجيّة لاحتساب الحدود البحريَّة”.

واعتبر أن “صار هناك تهاون في تجميع الوثائق التَّاريخيَّة وتلكُّؤ فرنسي في إنارة الملف التُّونسي وتوفير وثائق الأرشيف الفرنسي لترسيم الحدود تحت الاستعمار الفرنسي، في حين حصل العقيد معمَّر القذَّافي على وثائق إيطاليَّة مُهمَّة ساهمت في ترجيح كفَّة بلاده”.

ولفت الهاني إلى أن “الرئيس التونسي خطأ بفتح ملف الجرف القارِّي بطريقة دردشة أحاديَّة مستفزَّة تتنافى مع القانون الدُّولي وتنتقض من سيادة الشَّقيقة ليبيا.. وأخطأ الأشقَّاء اللِّيبيّون بالتَّصعيد والتَّهديد والوعيد”.

وقال الباحث في العلاقات الدولية بشير الجويني لـ”أفريقيا برس” إن “الصراع القضائي الليبي التونسي صار على أكثر من مرحلة منذ سنة 1978 وسنة 1982 وكلنا نعلم أن اللجنة التي تم اختيارها على رأس الوفد الدبلوماسي التونسي وترأسها حينها نجيب البوزيري للدفاع على المسألة التاريخية وللحقوق التونسية، في المقابل كان يمثل ليبيا دفاع استمدّ حججه من المسألة الجيولوجية وتحرك الطبقات الأرضية”.

وأضاف الجويني أن “تصريحات قيس سعيد لم تمر مرور الكرام ورد عليه رئيس لجنة الطاقة بمجلس النواب الليبي وقال ستدرس هذه التصريحات والرد عليها بشكل رسمي ولكن لم يقع ذلك واعتقد أن جزء منه عدم اكتراث لتصريحات سعيد، وقد أشار وزير النقل إلى أن القضية تم الفصل فيها ولم يقع إجابة تونس بشكل رسمي”.

اللافت للانتباه، وفق الجويني، أن الجدل محسوم لصالح ليبيا منذ عقود، وربما يكون تصريح سعيد أيضا محاولة لصرف انتباه التونسيين عن التردي الاقتصادي بالبلاد خاصة أن حقل البوري النفطي لن يقلب معادلة الطاقة في تونس.

وكانت وكالة الأنباء الليبية الرسمية نقلت عن رئيس لجنة الطاقة بمجلس النواب عيسي العريبي قوله إنه لا يمكن «القبول أو السماح بالمساس بثروات ليبيا، التي هي مِلك للشعب، تحت أيّ ظروف أو أي مبررات”.

وقال محمد عون، وزير النفط والغاز، التابع لحكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة، إن «قضية حقل البوري مع دولة تونس فصل فيها القضاء الدولي منذ ثمانينات القرن الماضي لصالح ليبيا”.

وفي مسعى لاستيضاح الأمر اتصلنا بالمحامية الليبية الدكتور عزة كامل المقهور، باعتبارها حقوقية ومحامية ليبية وباعتبارها ابنة كامل المقهور وكيل ليبيا في الدعوى ورئيس فريق الدفاع عنها أمام محكمة العدل الدولية. وكانت نشرت على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك تحليلا مفصلا لحيثيات القضية وترجمة للأدلة العلمية التي استندت عليها الوثائق.

قالت المقهور إنها “عاصرت الطلب الذي تقدمت به تونس طعنا في الحكم أمام محكمة العدل الدولية والذي تم رفضه من المحكمة”، لافتة إلى أن “مسألة تحديد الجرف القاري لكل من البلدين قد حسمتها محكمة العدل الدولية منذ ثمانينات القرن الماضي بل إن العلاقات الليبية التونسية قد تجاوزتها بمراحل حتى وصلت إلى مرحلة التعاون الاقتصادي المشترك لقطعة بحرية نفطية ما بين البلدين”.

أن الطرفين (ليبيا وتونس) في اتفاقهما المبرم في نوفمبر 1978 برفع النزاع إلى محكمة العدل الدولية لم يطلبا فحسب تحديد مبادئ وقواعد القانون الدولي التي تحكم تعيين حدود منطقتي الجرف القاري لكلا البلدين، بل كذلك “التحديد الدقيق للطريقة العملية التي يمكن للمبادئ والقواعد المشار إليها أن تطبق في هذه الحالة الخاصة حتى يتسنى للخبراء من كلا البلدين ترسيم هاتين المنطقتين دون صعوبات”، الأمر الذي يعكس نية الطرفين في الحسم قانونيا وعمليا كما ورد في اتفاقهما”.

من جهته، قال الخبير في شؤون النفط محمد أحمد إن “بالرغم من تفهمي للضغط الاقتصادي الذي تتعرض له دولة تونس نتيجة اعتمادها على استيراد الوقود من الخارج وما يسببه من نزيف مستمر من العملة الصعبة ألا أنني لا أتفق مع ما تفضل به الرئيس قيس سعيّد حول قضية الجرف القاري بين ليبيا وتونس”.

وأضاف: “الحجة التونسية الأخيرة التي سمعتها من الرئيس سعيد أن هناك عمق مختلف في مياه في خليج قابس من الناحية التونسية ولم يتم الأخذ به في المحكمة هو أمر غير صحيح”.

ولفت إلى أن “حقل البوري لم يكن أصلا في حلقة الجدال فموقعه بكل المناهج والطرق هو في المياه الاقتصادية الخالصة لليبيا. الجدال هو حول المواقع المحيطة بحقل البوري والذي رأت الدولة الليبية أنه من الإنصاف أن يتم إنشاء مشروع مشترك مع الدولة التونسية يمكن فيه استخدام عوائد البيع من المنطقة للاستكشاف وتطوير أي مكامن يتم العثور عليها”.

بعد أيام من المد والجزر، هدأت العاصفة التي أثارتها تصريحات قيس سعيّد وانشغل الشارعان التونسي والليبي بالدراما الرمضانية، إلا أن ذلك لا ينفي وفق الخبرات أنه حرّك مياها راكدة، يجب ردمها حتى لا تتسبب في إشعال فتنة بين شعبين قريبين جدا، وكلاهما في غنى عن إشعال فتيل أزمة أخرى خاصة بعد ما سجّل من “صدامات” منذ سنة 2011 بسبب ملفات سياسية حساسة بينهما وتم تحريكها لغايات سياسية وفق أجندات الجهات الحاكمة، وفي وقت يتصيّد فيه الإعلام في كلا البلدين عثرات السياسيين وأصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي مصدر فتنة أكثر منها مصدرا للمعلومة وإنارة الرأي العام.

في الأثناء يجب وكما قال سعيّد في ذات المناسبة العمل على الاستفادة مما تملكه تونس فعليّا وتطوير إنتاجها من الغاز العمل وتحسين مردوديتها. في ذات السياق ذهب بشير الجويني بقوله إن “التبادل الاقتصادي مشترك ومرتبط ببعضه البعض بين البلدين لكن سيكون مهددا إذا ما تواصلت التصريحات المتشنجة وغير المناسبة من الجانبين فالعلاقات التاريخية عميقة والمطلوب منهما السمو بهذه العلاقات لأن كلفة التنافر والاختلاف وعدم التكامل الاقتصادي أعلى بكثير من كلفة الاستقرار”.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here