الدولة العميقة في تونس حقيقة أم وهم؟

13
الدولة العميقة في تونس حقيقة أم وهم؟
الدولة العميقة في تونس حقيقة أم وهم؟

صلاح الدين الجورشي، كاتب تونسي

أفريقيا برس – تونس. عاد الحديث في تونس عن “الدولة العميقة” لتفسير ما يحدُث على الصعيد السياسي. وهو مصطلح غامض وملتبس، لا يحيلك على جهةٍ محدّدة يمكن كشفها، والدعوة إلى محاسبتها، فكلما ساد شعور بأن أحداثاً “غير منطقية” تحصل، وتكون معاكسة لمصلحة السلطة أو البلاد، يقع اللجوء إلى هذه الصيغة المبهمة، للإشارة إلى جهة أو جهات خفية تتحرّك وراء الستار لتحقيق أهداف خفية.

بعد الاستقلال، بدا المشهد واضحاً إلى حدٍّ ما، بعد حسم الصراع حول السلطة لصالح الجناح المساند للحبيب بورقيبة، الذي هيمن على الحكم، وصاغ مؤسّسات النظام الجديد بعد إلغاء الملكية. وبذلك خضعت هذه المؤسّسات لسلطة مركزية وحيدة ذات طابع استبدادي. مع ذلك، جرى الحديث عن أطرافٍ مرتبطة بصنّاع القرار في فرنسا، قيل إنها كانت تؤثر في الخفاء بسياسة البلاد. ولا يزال الجدل في هذه المسألة، لكن الأكيد أن اللاعبين الرئيسيين كانوا يتحرّكون وفق توصيفٍ مفهومٍ إلى حد ما. هناك الأجنحة المختلفة للسلطة، وهنك اللوبيات المؤثرة، وهناك المقرّبون من الرئيس داخل القصر وخارجه، وهناك أفراد العائلة. وقد أكّد أحمد المستيري في شهادته للزميل لطفي حجّي، أوردها في كتابه “البورقيبية من الداخل”، أنه عندما عُيّن وزيراً للداخلية، اكتشف أن الوزير “في أغلب الأحيان لا يقدر على شيء، وأن أجهزة الوزارة عادة ما تكون أقوى منه وتتحكّم في مصيره”. وقد تصاعدت الخلافات بين هذه الأطراف مع تقدّم مرض الرئيس بورقيبة وشيخوخته.

لم تختلف صورة النظام كثيراً خلال مرحلة زين العابدين بن علي. كان الرجل قويّاً ويقظاً بحكم تكوينه العسكري، فلم يسمح للتناقضات الفرعية بأن تكبر داخل الهياكل السياسية والأمنية التي أدارها باقتدار، وأوكل إلى الجهات الأمنية صلاحيات واسعة تحت إشرافه. لكن ما تبيّن، مع نهاية حكمه، أن السلطة كانت مخترقة، وأن الحزام السياسي والبشري الذي اعتمد عليه لم يصمُد أمام الرجّة الاجتماعية التي حدثت، فتساقطت حجارة البناء بسرعة مدهشة، وتفرّقت الجماعة في اللحظات الحاسمة ليجد بن علي نفسه وحيداً وعارياً من دون سند ولا غطاء. وهو ما جعله يعتقد أنه ضحية “انقلاب أميركي” عليه. وإلى يوم الناس هذا، يستمر الجدل حول الكيفية التي جعلت الجنرال القوي يخرُج من الباب الصغير للحكم في وقتٍ كان يتحكّم في جميع خيوط اللعبة.

تغيّرت بعد الثورة نسبياً قواعد اللعبة بدخول الأحزاب مربّع السلطة الذي كان محظوراً عليها من قبل. وعندما فشلت في أدائها، ولم تتمكّن من الاحتفاظ بالسلطة، جاء الرئيس قيس سعيّد فجرّدها من جميع الصلاحيات التي منحها الانتقال الديمقراطي لها. وهو حالياً في صدد تفكيك الهياكل الوسيطة الوازنة، من دون أن يكون له جهاز سياسي أو اجتماعي قوي وفاعل موال له، أو تاريخ نضالي معروف. قوّته في شعبيته التي تراجعت نسبياً، وفي شرعيته الانتخابية. ومن هنا، عاد البحث عن مصدر هذه القوة، ما فتح المجال من جديد للحديث عن “الدولة العميقة” عساها تساعد على رفع اللبس وتفكّك اللغز.

عندما نفتح صفحات “غوغل”، نقرأ “الدولة العميقة هي مفهوم لوصف هياكل غير منتخبة (مثل مؤسّسات عسكرية، أمنية، بيروقراطية، أو جماعات خاصة)، تتحكّم في الدولة، وتوجّه قراراتها وسياساتها، بغضّ النظر عن الحكومات المنتخبة، وغالباً ما يُنظر إليها على أنها نظرية مؤامرة، ولكنها قد تصف أيضاً واقعاً في بعض الدول، حيث تسعى هذه الهياكل للحفاظ على مصالح معينة، أو تثبيت نظام الحكم عبر التأثير في المؤسّسات الرسمية”.

عندما يقع تنزيل هذا التعريف على الواقع التونسي، تُفاجأ بأسئلة عديدة من الصعب أن تجد لها أجوبة محدّدة. فالذين يتساءلون عمّن يحكم في تونس، سيجدون عند التأمل والتدقيق، أن الوحيد الذي يمارس السلطة فعلياً هو الرئيس قيس سعيّد. أما بقية الأطراف المذكورة في التعريف السابق، فقد تعرّض الماسكون بها لتغييراتٍ تمنعهم من التكتل والقيام بدور “الدولة العميقة”.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here