جمال الطاهر
أفريقيا برس – تونس. منذ الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية 25 يوليو/تموز 2021، تصدر مصطلح “العشرية السوداء” الخطاب السياسي والإعلامي في تونس لوصف الفترة الممتدة من سقوط نظام بن علي سنة 2011 إلى تولي الرئيس قيس سعيد السلطة بموجب تلك الإجراءات.
تستخدم هذه العبارة غالبا لتوصيف فشل الطبقة السياسية، وعلى رأسها حركة النهضة، في تحقيق تطلعات التونسيين في التنمية، العدالة، والكرامة.
لكن، هل من الإنصاف نعت عشر سنوات كاملة بـ”السوداء” وكأنها خالية من أي مكسب أو إنجاز؟ أم أن هذا التوصيف جزء من سردية سياسية ظرفية، تحتاج إلى تفكيك عقلاني بعيد عن الانفعال والإقصاء؟
ثمة حاجة اليوم إلى بناء سردية وطنية متوازنة تعيد الاعتبار لتجربة الانتقال الديمقراطي، لا باعتبارها تجربة خالية من الأخطاء، بل لأنها شكلت خطوة مهمة في مسار بناء دولة الحريات والحقوق.
إن هذا البناء السردي ليس تمرينا في التجميل، بل ضرورة سياسية وأخلاقية تساعد على إعادة تشكيل العملية السياسية، وتؤسس لمشتركات وطنية جديدة، تحتاجها تونس للخروج من حالة الانسداد التي آلت إليها.
ما المقصود بـ”العشرية السوداء”؟
“العشرية السوداء”، كما تستحضر في الخطاب السائد الرسمي والشعبي، تشير إلى المرحلة التي حكمت فيها أحزاب سياسية، من بينها حركة النهضة، سواء مباشرة أو ضمن تحالفات، وتحمل فيها هذه الأطراف مسؤولية تعثر المسار الاقتصادي، وتدهور الخدمات العمومية، وتفاقم البطالة، واستشراء الفساد، والانقسام السياسي الذي عطل إصلاحات كبرى.
تتكرر هذه السردية في خطابات سياسيين وأكاديميين وحتى إعلاميين، بعضهم في مواقع السلطة اليوم، في محاولة لتثبيت فكرة أن تلك المرحلة كانت من أسوأ المراحل منذ الاستقلال، على مستوى الحوكمة والإدارة، وأنها شهدت ما يسمى بـ”اختراقات” في الدولة أضعفت مناعتها ومصداقيتها.
التوظيف السياسي للسردية
من المهم إدراك أن مصطلح “العشرية السوداء” لا يستخدم في الغالب كتوصيف تاريخي محايد، بل هو بناء سردي ذو خلفية سياسية واضحة، يوظف في كثير من الأحيان لتبرير الإقصاء السياسي، والتضييق على المخالفين، وخلق شرعية بديلة تقوم على إدانة الماضي، لا على تقديم رؤية للمستقبل.
هذا التوصيف يستعمل كذلك لتبرير الإجراءات الاستثنائية، وتعليق الإخفاقات الراهنة على “تراكمات سابقة”، في عملية تحويل ممنهجة للمسؤولية من الحاضر إلى الماضي.
ومن ثم، لا يكتفي الخطاب بهذا التوصيف كمجرد نقد، بل يحوله إلى أداة رمزية لإلغاء التجربة الديمقراطية ذاتها، وتشويه مؤسسيها، وتقديم رواية أحادية تحصر الحقيقة في جهة واحدة وتقصي البقية.
الأخطر من ذلك، أن هذا التوصيف لم يقتصر على خصوم الإسلاميين فقط، بل ساهمت أطراف من العائلة الديمقراطية نفسها في ترسيخه، حين وظفته كسلاح في صراعها السياسي مع حركة النهضة.
لكن هذا السلوك السياسي، وإن بدا مبررا لحظيا، قد ساهم عن غير قصد في إضعاف تجربة الانتقال الديمقراطي برمتها، وتفكيك أسسها الرمزية والأخلاقية، وهو ما يعد خطأ إستراتيجيا قاتلا في سياق هش كالذي تعيشه تونس.
بين الواقع والانطباع: من أجل تقييم موضوعي للعشرية
رغم ما شهدته تلك المرحلة من تعثرات وإخفاقات، فإن توصيفها بـ”السوداء” لا يصمد أمام فحص موضوعي يميز بين الواقع والانطباع، وبين الفشل وسوء النية، وبين التعثر وسقوط التجربة.
حرية التعبير والتعددية كانت من أبرز مكاسب العشرية، حيث شهدت تونس انفتاحا غير مسبوق في الفضاء العام، وتعددت وسائل الإعلام، وظهرت آلاف الجمعيات ومئات الأحزاب، وصار بإمكان المواطن نقد أي سلطة دون خوف، وهو ما لم يكن ممكنا قبل 2011.
كما أن الانتخابات الديمقراطية وانتقال السلطة السلمي ظلت سمة رئيسية لتلك المرحلة، رغم كل التعثرات، مما منح تونس استثناء إقليميا مشهودا له.
أما الوضع الاقتصادي والاجتماعي، فرغم أن الحكومات المتعاقبة فشلت في تحقيق نمو مستدام أو تقليص نسب البطالة، فإن تلك الإخفاقات لم تكن نتيجة لسيطرة حزب أو طرف بعينه، بل هي نتاج تركيبة سياسية هشة، وبيروقراطية معطلة، وضغوط دولية، فضلا عن عدم الاستقرار السياسي الذي أعاق تنفيذ أي رؤية طويلة المدى.
وحتى المسؤولية السياسية لم تكن حكرا على حركة النهضة، فقد تداول على الحكم عدة أحزاب وشخصيات، يسارية وليبرالية ومستقلة، وهو ما يجعل تحميل طرف واحد كل الإخفاقات نوعا من التبسيط المخل، والتضليل المتعمد للرأي العام.
من الرابح من هذه السردية؟
يتبين أن المستفيد الأساسي من ترسيخ هذه السردية هو السلطة القائمة، التي وجدت فيها تبريرا لإجراءاتها الاستثنائية، وتملصا من مساءلة الأداء الحالي، من خلال الإحالة الدائمة إلى “المنظومة القديمة” دون تحديدها بدقة، أَهي منظومة ما قبل 14 يناير/كانون الثاني، أم منظومة الانتقال الديمقراطي برمتها أو بعض محطاتها وفاعليها؟ كذلك تستفيد منها بعض القوى الشعبوية التي وجدت في شيطنة الماضي وسيلة لبناء شرعية دون مشروع.
لكن اللافت أيضا، أن بعض مكونات العائلة الديمقراطية شاركت في هذا التوظيف، وساهمت في تعميم السردية، رغم أن كثيرا منها كان شريكا في الحكم، أو على الأقل مدافعا عن مناخ الحريات. هذا الانزلاق في منطق الإدانة الشاملة جعل هذه الأطراف تفشل في التمييز بين معركتها ضد خصم سياسي، وبين الدفاع عن مشروع ديمقراطي مشترك، كانت جزءا من بنائه.
الرد على مرتكزات السردية
الاتهامات الموجهة لتلك المرحلة تتكرر بشكل خطابي وشعبوي، لكن معظمها لا يصمد أمام التمحيص الموضوعي. ففكرة أن النهضة “دمرت الاقتصاد” تتجاهل أن الاقتصاد التونسي كان يعاني اختلالات بنيوية قبل الثورة، وأن الحكومات المتعاقبة ورثت دولة شبه مفلسة، وجهازا بيروقراطيا مقاوما للإصلاح.
أما القول إن “المنظومة خانت الثورة”، فهو تبسيط يفرغ السياسة من معناها، ويغفل أن كثيرا من النشطاء الذين شاركوا في الحكم هم من رموز الحراك الثوري، وقد حاولوا، بإخلاص متفاوت، تحقيق التغيير الممكن ضمن الممكنات الواقعية.
وفيما يخص العلاقة بـ”الإرهاب”، فإن تصاعد الظاهرة في تلك المرحلة لم يكن نتاجا لخيار سياسي داخلي، بل نتيجة لعوامل إقليمية ودولية معقدة. بل إن الأجهزة الأمنية والعسكرية نجحت، خلال تلك الفترة، في تقليص خطر الجماعات المتشددة، وتطوير أدائها المؤسسي، بما يشهد على نجاح مؤسساتي لا على فشل حكومي.
وعن مزاعم “التعويضات والانتدابات”، فإن المعطيات الرسمية تفيد بأن حجم المنتفعين محدود، وأن الإجراءات تمت ضمن أطر قانونية واضحة، وشملت أطيافا سياسية متنوعة، وليسوا منتمين لحزب بعينه فقط.
أما الخطاب الذي يتهم بعض قيادات النهضة بـ”الثراء الفاحش”، فهو في الغالب خطاب تعبوي يفتقر إلى إثباتات قانونية أو أدلة رسمية، ويعتمد على الانطباع لا على الحقيقة. بل إن الواقع يكشف أن كثيرا من مناضلي الحركة قضوا سنواتهم الأخيرة في فقر ومرض وتهميش، دون أن يلتفت إليهم أحد، وهو ما يناقض الصورة النمطية المتداولة إعلاميا.
ماذا بعد؟ نحو سردية وطنية بديلة
المطلوب اليوم ليس التهوين من إخفاقات العشرية الماضية، ولا الدفاع الأعمى عنها، بل الخروج من منطق التخوين والإدانة الجماعية، والانتقال إلى نقاش وطني موضوعي ومسؤول: نقاش يستند إلى الوقائع والمعطيات لا إلى الانطباعات والانفعالات، ويحمل كل طرف مسؤوليته الحقيقية، وفقا لدوره وصلاحياته وموقعه في منظومة القرار.
كما ينبغي أن يسعى إلى استثمار ما تحقق من مكاسب خلال تلك المرحلة، عوضا عن دفنها تحت ركام الشعارات الشعبوية، وأن يعمل على بناء سردية وطنية جامعة لا تقصي أحدا: نشطاء، معارضة وسلطة، بل تدعو إلى التقييم، والبناء، والتصحيح في إطار من التشاركية والمسؤولية، وتشكل منصة للتفكير في المستقبل المشترك.
إن الإصرار على توصيف ما بعد الثورة بـ”العشرية السوداء” ليس مجرد خطأ لغوي، بل هو تبسيط مخل وانحراف خطير في الوعي الجماعي، يعيد إنتاج خطاب الإقصاء، ويقزِم التضحيات التي قدمها آلاف التونسيين، من مختلف المشارب، من أجل الحرية والكرامة.
فالوطن لا يبنى على أنقاض الكراهية، ولا على استدعاء الماضي لتبرير الحاضر، ولا تؤسَس ديمقراطية حقيقية على شيطنة طرف وتبرئة طرف آخر.
لقد بينت الوقائع أن كثيرا من الاتهامات المتداولة بشأن التعويضات، والانتدابات، والثراء السياسي، لا تصمد أمام التحقيق الموضوعي والمعطيات الرسمية. وغالبا ما يعاد تدويرها لأغراض سياسية تهدف إلى طمس التجربة الديمقراطية، ومحاكمة مرحلة بأكملها خارج سياقها الزمني وتعقيداتها الواقعية.
وفي الوقت الذي تغذى فيه صورة نمطية عن “النهضوي الثري والمستفيد”، بقي عدد كبير من مناضلي الحركة، وغيرهم من معارضي الاستبداد، يعانون من الفقر والتهميش والمرض، ولم تنصفهم لا الثورة، ولا العدالة الانتقالية، ولا الدولة التي حلموا بها.
إن “العشرية السوداء” ليست قدرا مقدسا، ولا حقيقة مطلقة، بل توصيفا سياسيا مشحونا، يحتاج إلى تفكيك بالعقل والمعطى والحجة. فالمجتمعات لا تنهض بتكرار الشعارات ولا بتوزيع الاتهامات، بل بالجرأة على مواجهة الحقيقة، بكل تعقيداتها.
وإذا كانت ثمة إخفاقات في العشر سنوات الماضية، فإن اختزالها في “السواد” فيه ظلم لتجربة شعب حاول أن يبني ديمقراطيته رغم كل العراقيل.
الواجب اليوم ليس البحث عن “كبش فداء”، بل عن مسار تصحيحي، واقعي وعادل، ينصف الضحايا الحقيقيين، ويضمن الحريات، ويؤسس لتنمية عادلة، ويحقق الكرامة التي خرج الشعب من أجلها في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010.
والمسؤولية في ذلك مسؤولية جماعية، يتحملها المواطنون، والنخب، والسلطة، لصياغة سردية وطنية جديدة، تبنى على الحقيقة لا على التوظيف، وعلى الإنصاف لا على التشويه، وعلى الذاكرة الجامعة لا على النسيان الانتقائي.
ما تحتاجه تونس اليوم ليس جلد الماضي، بل بناء سردية وطنية بديلة، تنصف الحقيقة، وتقيّم التجربة بما لها وما عليها. سردية تقوم على المصارحة لا المزايدة، وعلى التمييز بين الخطأ والخيانة، وبين التقدير الموضوعي والتوظيف الأيديولوجي. سردية تخرج تونس من ضيق الماضي إلى سعة المستقبل.
لا يمكن لتونس أن تخرج من أزمتها الحالية دون وعي جماعي يدرك أن الديمقراطية ليست مرحلة خالية من العثرات، بل هي مسار طويل يتطلب تعديلا مستمرا وإرادة جماعية صلبة.
فمرحلة ما قبل 25 يوليو/تموز ليست شرا مطلقا، كما أن مرحلة ما بعده ليست خيرا مطلقا. الخير الحقيقي يكمن في البناء على مكاسب المرحلة السابقة، والتقاط الفرص المتاحة في المرحلة الراهنة، من أجل صياغة عقد سياسي واجتماعي وطني قادر على إخراج تونس من أزمتها.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس