السنوسي: السلطة تقوم بهدم الهيئات العمومية دون تقديم بدائل

18
السنوسي: السلطة تقوم بهدم الهيئات العمومية دون تقديم بدائل
السنوسي: السلطة تقوم بهدم الهيئات العمومية دون تقديم بدائل

آمنة جبران

أفريقيا برس – تونس. أثار قرار السلطات التونسية مؤخرًا القاضي بحل هيئة النفاذ إلى المعلومة، التي تعد أحد مكتسبات ثورة 2011، استياءً واسعًا لدى الأوساط الإعلامية والحقوقية بالبلاد.

وأشار هشام السنوسي، عضو الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، في حواره مع “أفريقيا برس” إلى أن “السلطة تقوم بهدم الهيئات العمومية دون تقديم بدائل، كما هناك سياسة واضحة تنتهجها لضرب الهيئات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، ومختلف الأجسام الوسطية بالبلاد، لتؤكد أنها ليست في حاجة إلى وسطاء لإدارة أوضاع البلاد.”

وأكد أن “إنهاء مهام هيئة النفاذ إلى المعلومة له تأثير سلبي على المشهد الإعلامي بتونس، حيث من شأن ذلك أن يشجع على الإشاعة وعلى بث الأخبار المغلوطة، وعلى ضرب أخلاقيات وقواعد العمل الصحفي، كما يشجع على الانفصام وضرب الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة.”

وبرأيه “فقد حان الوقت حتى تتعقل السلطة وحتى تتراجع عن هذه السياسة، التي لن تؤدي إلا لمزيد من التوتر في ظل واقع إقليمي ودولي مضطرب، وأن الحل يكمن في مواجهة هذه الأزمات بالعودة إلى طاولة المفاوضات وتشريك المجتمع التونسي في القرارات السياسية، وأهم أولوية اليوم هي إعادة صياغة العلاقة مع اتحاد الشغل، حتى لا ندخل في دائرة الفوضى والاضطرابات”، وفق تقديره.

وهشام السنوسي متحصل على شهادة الأستاذية في الحقوق وشهادة الماجستير في تكنولوجيا المعلومات والاتصال، وهو عضو بالهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، التي وقع تجميد مهامها سنة 2023. وهو ممثل عن شمال أفريقيا لمنظمة “المادة 19” (Article 19)، كما عمل صحفيًا بالتلفزة التونسية، وكمراسل لعدة صحف وقنوات تلفزية عربية.

شهدت تونس مؤخرًا إغلاق هيئة النفاذ إلى المعلومة، حيث أُقصي موظفوها ونُقلت مهامها إلى رئاسة الحكومة، ما أثار ردود فعل من المجتمع المدني والنقابات الصحفية. ما موقف الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري بشأن هذه الخطوة؟

في الواقع، هذه الخطوة هي استكمال لخطوات سابقة، سبق أن تم إنهاء مهام هيئات أخرى مثل هيئة مكافحة الفساد، على غرار الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري “الهايكا”.

برأيي هناك سياسة واضحة وقد تم الإعلان عنها صراحة وليس تلميحًا، ومفاد هذه السياسة أن السلطة الحالية ليست بحاجة إلى وسطاء أو إلى سلطة مضادة داخلها. إن فكرة الهيئات في حد ذاتها فكرة مهمة، وُلدت في دستور 2014، وهي عبارة عن سلطة مضادة داخل السلطة، أي هيئات عمومية ممولة من المال العام لكن لديها استقلالية مالية وإدارية وتقوم بوظائف حتى لا تستغل السلطة التنفيذية جهاز الإدارة لصالحها.

وفيما يخص هيئة النفاذ إلى المعلومة، فهي تفرض نفسها على المؤسسات العمومية لأنها تمنح المعلومات في آجال محددة وتُلزمها بذلك. أذكر مثلًا حين طالبنا كـ”هايكا” في فترة من الفترات ببعض الكشوفات من البنك المركزي، رفض البنك ذلك، فتوجهنا إلى هيئة النفاذ إلى المعلومة التي أنصفتنا، وحصلنا على معطيات خطيرة تتعلق بتحويل أموال من دول أجنبية إلى وسائل إعلامية محلية. لكن اليوم، بهذه الطريقة، نعود إلى مربع الديمقراطية التمثيلية التي أثبتت فشلها في عدة تجارب، في حين يبقى الخيار الأجدى هو الديمقراطية التشاركية. للأسف، نحن نتراجع اليوم ونعود إلى المربع الأول.

اعتبرت منظمات مثل “أنا يقظ” أن الإغلاق يشكّل “هدمًا لآخر حصن للشفافية في تونس”، فيما وصفه الصحفيون بأنه “إغلاق للطريق أمام الصحافة الاستقصائية”. من وجهة نظركم، ما دلالة التوقيت الذي تم فيه القرار؟

كما قلت، من الواضح أن هناك سياسة تنتهجها السلطة في مواجهة الأجسام الوسيطة بشكل عام. هذه السياسة، وإن لم يتم التصريح بها، فإننا نستشفها من الممارسة. هناك رغبة في التخلص ليس فقط من الهيئات، بل من الأحزاب أيضًا، وهناك ضرب للأحزاب والمجتمع المدني والمنظمات سواء العمومية أو المستقلة. هذا يعني أن فكرة الوساطة أو المشاركة في السلطة أو مراقبة عمل السلطة التنفيذية أصبحت أمرًا مرفوضًا. الآن آخر المعارك مع اتحاد الشغل، باعتبار أن النقابات وسيط بطبيعتها. في تقديري، توقيت إغلاق هيئة النفاذ إلى المعلومة جاء بعد خروج اتحاد الشغل في مظاهرة حاشدة، شكّلت علامة فارقة منذ 25 جويلية إلى اليوم.

أعتقد أنه حان الوقت للتعقل ومحاولة التراجع عن هذه السياسة، التي لن تؤدي إلا إلى مزيد من التوتر في ظل واقع إقليمي ودولي مضطرب يتطلب وحدة وطنية في أقصى صورها. هذا لا يعني أن الفترة السابقة، وقد ذكرت ذلك في أكثر من مناسبة، لم تكن صعبة، فقد انتشر فيها الفساد وطغت الحسابات السياسية، لكن كانت هناك أيضًا مكاسب لا يمكن إنكارها، مثل حرية الإعلام والتنظم التي ضمنها دستور 2014. أما اليوم فنحن بصدد التخلي عن كل شيء. كان يفترض استكمال عملية الانتقال الديمقراطي، لكن ما نلاحظه اليوم هو إيقاف لهذه العملية. هناك ممارسات واضحة من النظام في اتجاه هدم الهيئات، تقليص دور الأحزاب، وشن حملات على المجتمع المدني. ولكن ما هو البديل عن ذلك؟ حين تهدم هيكلًا بُنيت على أعمدته الجمهورية الثانية، فأين البدائل؟ ما هي المعارضة التي تشتهيها؟ وكيف يمكن مراقبة عمل السلطة التنفيذية؟ هذه البدائل غير موجودة، وبالتالي أصبح هناك نوع من التهديم بدون بدائل، ونرى نتائجه اليوم على أرض الواقع، حيث لا يوجد أي تقدم وهو أمر واضح على جميع المستويات.

في ظل التراجع الحاد في ترتيب تونس في مؤشر حرية الصحافة (المرتبة 129 من 180)، كيف تقرأون تأثير إغلاق الهيئة على قدرة الإعلام في الوصول إلى المعلومات الرسمية والرقابة على السلطة؟

قبل كل شيء، كانت هناك ضربة كبيرة للمشهد الإعلامي تمثلت في إغلاق الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي والبصري، وهي الهيئة المشرفة على الإعلام والاتصال في تونس. وأريد أن أذكر سبب إغلاقها: لأنها رفضت قرارًا مشتركًا بينها وبين هيئة الانتخابات يتعلق بالانتخابات التشريعية، التي لم تحترم معايير حرية التعبير والمساواة بين جميع المرشحين. لذلك جُمّد عمل الهيئة. ولو كانت موجودة اليوم لما كان الإعلام العمومي بمثل هذه الخطية، حيث حُرمت شرائح واسعة من المجتمع التونسي، من تيارات سياسية وفكرية مختلفة، من حقها في الإعلام العمومي، وغابت التعددية عن المشهد.

وفي تقديري، إنهاء مهام هيئة النفاذ إلى المعلومة له تأثير سلبي على الإعلام بشكل عام، لأنه يشجع على الإشاعة وبث الأخبار المغلوطة وضرب أخلاقيات وقواعد العمل الصحفي، كما يؤدي إلى الانفصام وضرب الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، وهو ما سيفضي إلى خلق فراغ بين الدولة والمجتمع.

ما الإجراءات العاجلة التي ترون ضرورة اتخاذها لتعويض الغياب المؤسسي لهذه الهيئة، خاصة وأنها كانت جهازًا قادرًا على تلقي شكاوى المواطنين وضمان حقهم في المعرفة؟

برأيي، الحل الأفضل هو قبل كل شيء العودة إلى طاولة المفاوضات وتشريك المجتمع التونسي في هذه القرارات السياسية، لا التصرف بشكل أحادي. وأهم أولوية اليوم هي إعادة صياغة العلاقة مع اتحاد الشغل حتى لا ندخل في دائرة الفوضى والاضطرابات، فالوضع الاقتصادي لا يحتمل ذلك. ويجب كذلك إعادة النظر في الهيئات، وإذا لم تعجبك هذه الهيئات يمكنك إعادة تشكيلها والنظر في تركيبتها وقوانينها الداخلية، لكن ليس من حقك إلغاؤها. كذلك لا يمكن إنهاء عمل الأحزاب والمجتمع المدني، صحيح أن هناك أحزابًا ارتكبت أخطاء وجمعيات تلقت تمويلات من الخارج، لكن لا يوجد نظام ديمقراطي بدون أحزاب ومنظمات، فالمجتمع بدون مجتمع مدني هو مجتمع أعرج. هذا ما أود الإشارة إليه. أما المسألة الأخرى فهي أن كل المؤشرات تدل على أننا بصدد بناء دولة تسلطية فيها حاكم واحد يعتبر أنه سيخلص المجتمع من كل هذه المشاكل، بينما يدرك المطلع أن أزمة تونس هيكلية ولا يمكن أن تحل بطريقة فردية مجردة. أهم شيء هو تشريك المجتمع التونسي والاعتراف بوجود اختلاف، وأن هذا الاختلاف يمكن أن يتحول إلى مصدر قوة للدولة التونسية لا إلى مصدر ضعفها.

كيف تؤثر هذه الخطوة على سمعة تونس دوليًا ومكانتها في مجال الإعلام وحرية التعبير، خاصة وأن الحق في النفاذ إلى المعلومة مكفول دستوريًا؟

على المستوى الدولي، شخصيًا فقدت الثقة في هذه الدول التي تدّعي حرية التعبير. لقد رأينا في قضايا أخرى، مثل الحرب في غزة، كيف تحولت النصوص المتعلقة بحرية الرأي والتعبير إلى مجرد حبر على ورق، وتغافلت كثير من منظمات المجتمع المدني في العالم عما يحدث في فلسطين. لذلك أعتقد أنه يجب أن نهتم بأنفسنا وأن نلتزم بالقيم، لا لاعتبارها مستوردة من الخارج، بل باعتبارها ضرورة نحتاجها لنعيش تجربتنا.

هل سينسحب هذا التراجع على أداء القنوات الرسمية والهيئات الإعلامية؟ وكيف ترون مستقبل الإعلام المستقل في مثل هذه الظروف المتوترة قانونيًا ومؤسساتيًا؟

فيما يخص الخطوات المستقبلية، أعتقد أنه من الضروري القيام بمراجعة، كما لا يمكن الحديث عن إعلام دون الحديث عن سياسة. لكن مع الأسف، المالكين لوسائل الإعلام غير واعين بحجم التحولات في العالم، ولن يكون الإعلام بذلك مصدرًا أساسيًا لتنبيه المجتمع إلى هذه التحولات وهذا الخطر، مما يعني نزوح المجتمع نحو منصات خارجية ومصادر إعلامية أخرى قد لا تكون معنية بسيادتك ولا بمصالحك الوطنية العليا. كما يجب استيعاب أن كل التيارات السياسية والفكرية لها الحق في التواجد في الإعلام العمومي. ويجب التذكير بأن الأحزاب التي تتباكى اليوم على حرية التعبير ساهمت في ضربها، ولا ننسى أيضًا أن المحكمة الدستورية لم تُبنَ مع قيس سعيد فقط، بل قبله أيضًا رفضت الأحزاب تشكيلها رغم وجود إمكانية للبناء. نحن نبتغي مجتمعًا ديمقراطيًا لكن النخبة السياسية التي تحكم غير ديمقراطية، ونقول ذلك صراحة. نحن بحاجة إلى تسليط الضوء على ما حدث قبل 25 جويلية كما نتطرق لمسار التسلط بعد انطلاق هذا المسار، فـ25 جويلية ليس إلا استكمالًا لخطوات بدأت قبله. وبالتالي، الحل بالنسبة لتونس هو تقييم كامل التجربة منذ الثورة إلى اليوم، والحديث عن كل تجارب الأحزاب، وعندها فقط يمكن استكمال التجربة التونسية.

ما هي بدائل الهيئة المغلقة التي ترونها ضرورية، كهيئة مستقلة تحت حماية دستورية أو آلية جديدة لتمكين الصحافة من الوصول إلى مصادر الدولة؟

كنا نريد أن نخرج من عباءة الصحافة المناضلة إلى صحافة مؤسساتية تصبح جزءًا من نظام الحكم، أي أن نظام الحكم يتلقى مشروعيته من مؤسسات إعلامية صحفية مستقلة، وكلما كان ذلك ممكنًا زادت مشروعية السلطة. لكن مع الأسف، واضح أن النظام السياسي يرفض ذلك، بل يعتبر أن المؤسسات الإعلامية باتت منافسة له.

كمراقب مستقل في المجال، ما دعوتكم للصحفيين والمواطنين لضمان استمرارية حقهم في النفاذ إلى المعلومات الحيوية، وللضغط إعلاميًا ومجتمعيًا ضد مزيد من التراجع؟

كما ذكرت، يجب أن يكون هناك تفاعل وأرضية مشتركة مع السلطة، لكن السلطة هي من ترفض ذلك. لقد حاولت النقابات والمنظمات والهيئات الحوار مع السلطة لكنها تمسكت بموقفها الرافض. من جهتنا كـ”هايكا” حاولنا بكل الطرق ووجهنا رسالة إلى رئيس الجمهورية عبّرنا فيها عن خشيتنا من التوجهات الجديدة وتداعياتها على المكتسبات التي تحققت بعد الثورة، لكن السلطة رفضت التفاعل معنا. من يرفض الحوار ويرفض الجلوس إلى طاولة التفاوض هي السلطة، وليست الأطراف الأخرى.

إضافة إلى ذلك، حين ترفع شعار “حرب التحرير” فكأنك ترفعه ضد شعبك وضد مجتمعك. نحن اليوم في مفترق طرق: إما العودة إلى دائرة التفاوض والحوار بين مختلف شرائح المجتمع التونسي وتشكيلاته من نقابات ومجتمع مدني وهيئات عمومية، أو المضي نحو سلطة متسلطة متفردة بالحكم في زمن الرقمنة والإنترنت والتهديدات الخارجية، وهو ما يعبر عن عدم مسؤولية وعدم فهم دقيق للقضايا الجيوسياسية التي قد تؤثر على مستقبل بلادنا.

أعتقد أن ما حدث مؤخرًا، مع خروج الشارع بشكل سلمي خلال مسيرة اتحاد الشغل، ويجب أن تكون كل التحركات سلمية للحفاظ على الأمن الوطني، قد يشكل فرصة لمراجعة الحسابات والسياسات التي لن تؤدي إلا إلى مزيد من تأزيم الوضع في تونس.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here