إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. لا يعزل البعد الجغرافي عن خطوط المواجهة، تونس عمّا يجري في الشرق الأوسط وتحديدا التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل، فهي شأنها شأن بقية دول المنطقة، والعالم عموما، تجد نفسها متأثرة بتداعيات هذه في هذه الأزمة المتفاقمة على مختلف الأصعدة، من ذلك توجّهات السياسية الخارجية في عهد الرئيس قيس سعيّد، وإلى أين يمكن أن تتجه البوصلة في ظل الضغوط المتزايدة وكيف يمكن أن تتجاوز تونس فخاخ المحاور الإقليمية؟
توجّهنا بهذا السؤال إلى عدد من الشخصيات التونسية التي أجمعت على ضرورة “عدم التدخل في شؤون الغير” و”الحفاظ على مسافة أمان من سياسة المحاور”، لكن ذلك لا يعني “السكوت على العدوان الإسرائيلي على دولة ذات سيادة، واستهداف إيران من قبل الولايات المتحدة” ضمن سياسة الهدف منها واضح وهو “النظام الإيراني”.
ووفق النائب أبوكبر يحيي: “حافظت تونس على علاقاتها الخارجية التقليدية رغم بعض التغيرات الجيوسياسية في العالم والمرتبطة أساسا بالحرب الروسية الأوكرانية والحرب على غزة وقبلها ما وقع في العالم العربي من تغيرات في الأنظمة والحرب على الإرهاب”.
ويضيف يحيي في تصريحاته لـ”أفريقيا برس”: “التزمت تونس الحياد مع موقف قوي تجاه القضية الفلسطينية… لكن اليوم السياسة الخارجية لتونس تتطلب إعادة هيكلة من حيث التمثيليات بالاعتماد على كل المتغيرات الجيوسياسية الحديثة في العالم وكذلك تدعيم الإطار البشري الكفء والقادر على بعث حركية متميزة من أجل مصلحة تونس وحفاظا على استقلالية القرار والسيادة الوطنية”.
اختبار دقيق
مع استمرار التصعيد بين إيران وإسرائيل، ستكون تونس أمام اختبار دقيق، وقد تدفعها التطورات إلى التقارب الرمزي مع المحور المناهض لإسرائيل عبر مواقف إعلامية وشعبية دون ترجمتها إلى تحالفات سياسية أو أمنية. وتظهر بعض ملامح ذلك من خلال تجديد جدّد وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج محمد علي النفطي، التأكيد على “إدانة تونس الشديدة للعدوان الصهيوني الغادر ضدّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية”.
وعبّر النفطي، خلال مداخلته في الجلسة الافتتاحية لمجلس وزراء خارجية منظّمة التعاون الإسلامي المنعقد حاليا بإسطنبول، عن “التضامن الكامل مع إيران في الدفاع عن سيادتها ووحدة أراضيها ومقدّراتها الوطنية، وكذلك التضامن مع كافة دول المنطقة وشعوبها”.
ودعا وزير الخارجية التونسي “إلى تحرّك دولي حازم وفعّال لمحاسبة الكيان المحتل”، مشدّدا على “أهمية تعزيز وحدة الصفّ بين البلدان والشعوب الإسلامية لكسب مختلف رهانات الأمن والاستقرار باعتبارها أبعادا متلازمة بما يحقّق مناعة الأمّة الإسلامية”، مبرزا “أهمية العمل على كسب الرهان الأكبر المتمثّل في تعزيز وحدة الصف الإسلامي درءًا للمخاطر وتحسبًا للمؤامرات التي تُحاك ضد دول وشعوب المنطقة”.
وفي هذا السياق، شدّد متابعون على أهمية هذا التعاون، حتى وإن كان بالمواقف والبيانات والوقفات الاحتجاجية فقط، مذكّرين بمواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي نجح في ولايته الأولى بوعده “تمزيق” الاتفاق النووي مع إيران وبتهديده الدائم بشأن “استهداف النظام في إيران” ولئن نجح في الوعد الأول فقد فشل في الثاني ويبدو أنه قرّر خلال، بعد عودته إلى البيت الأبيض، إلقاء العالم في أتون حرب عالمية في وقت لم تنمحي بعد فيه تداعيات عدة أزمات سابقة مثل الربيع العربي وكورونا والحرب في أوكرانيا وصولا إلى حرب غزة.
ووفق النائب ثامر مزهود: “ما يحصل في الشرق الأوسط يمس قلب الأمة العربية، وجوهره قضية فلسطين، والتي يتأكد يوم بعد آخر ما يمثله المشروع الصهيوني الغربي من تهديد للوجود الفلسطيني والعربي عموما، وما اندلاع الصراع الآن بهذا الشكل مع الجمهورية الإسلامية في إيران إلا حلقة من مشروع الهيمنة والاستعمار المتجدد لهذه المنطقة وشعوبها وهنا يتضح زيف كل الإدعاءات وشعارات احترام القانون الدولي وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها وعدم التدخل في شؤون الغير وغيرها”.
ومثلما ذكّر وزير الخارجية التونسي في ختام مداخلته، أمام مجلس وزراء خارجية منظّمة التعاون الإسلامي، على “تمسّك تونس بثوابتها الدبلوماسية التاريخية في نُصرة قضايا الحق الإنسانية العادلة”، يؤكّد الدبلوماسي التونسي السابق عزالدين الزياني، في تصريحاته لـ”أفريقيا برس” على أن “السياسة الخارجية تسن لسنوات ولا يجب أن تتأثر في جوهرها بالتطورات الدولية خاصة منها الظرفية”، لافتا إلى أن “السياسة الخارجية التونسية لها ثوابت عادة ما تستند عليها في اتخاذ مواقفها مثل انتماءنا إلى الفضاء الإسلامي والعربي والمغاربي والإفريقي والمتوسطي”.
ويضيف الزياني: “نحن لا نتدخل في شؤون الغير ونبقى دائما على مسافة خاصة بين طرفين متنازعين ونتبنى القضايا العادلة وندافع عنها بشتى الطرق مثل القضية الفلسطينية وقضايا التحرر من الاستعمار. كما تدعو تونس دائما إلى تغليب منطق الحوار ونبذ العنف وعدم الانجرار في كل ما يمس السلم والأمن الدوليين”.
ويستطرد مشدّدا على أن “التطورات التي تشهدها حاليا الساحة الدولية تتطلب الحيطة والحذر والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يدفعنا إلى الانزلاق في متاهات المحاور وتبعاتها الوخيمة على سيادة قرارنا”.
خلال تطورات الحرب على غزة، نأت العديد من الدول الأفريقية، التي سبق وأن أعلنت عن تقارب مع إسرائيل، نفسها عن هذه الأخيرة- مثل توغو وساحل العاج والكاميرون ورواندا التي أرسلت مساعدات إلى غزة في 20 أكتوبر 2023. ما يعني أن هناك ضغوطا كبيرة على الموقف الدبلوماسي الإسرائيلي في أفريقيا وتونس ليست بمنأى عن هذا الضغط.
واليوم، قد يبدو في الظاهر أن تونس بعيدة عن شظايا الصراع، وأنه يكفيها التحصّن بسياسة الحياد الإيجابي.. لكن التطورات بعد التدخل الأميركي تنذر بأن الأمر قد يكون أخطر من ذلك فحتى ولو لم تكن هناك تداعيات مباشرة فإن الأمر سيؤثر على حلفاء لتونس مثل دول الخليج كما أن روسيا والصين سيكون لهما رد فعل واضح، وقد يفرضان على “حلفائهما” موقفا واضحا.
ويقول أبو بكر يحيي: “اليوم العالم أمام متغير جديد ومهم.. حرب وجود وسيطرة على منطقة الشرق الأوسط… حرب علم وتكنولوجيا.. حرب بتكتلات دولية المحدد فيها المصلحة وستعيد توزيع الأدوار وبناء علاقات ثنائية وجماعية جديدة، وهنا على كل الأنظمة في العالم وخاصة المنطقة العربية التركيز مع هذا المتغير من أجل المحافظة على المصالح الجماعية والخاصة وعلى الدبلوماسية التونسية أن تتفاعل إيجابا مع الوضع القادم من خلال توطيد العلاقات الحالية مع دول الشرق والدخول في محادثات واتفاقات مع التكتلات الاقتصادية الجديدة الصاعدة التي سيكون لها دور كبير في المستقبل”.
وهذا “يدخل في إطار تحسين السياسة الخارجية لتونس بما يضمن التوازن بين العلاقات التقليدية والجديدة خدمة للمصلحة العليا للوطن”، وفق أبوبكر يحيي الذي يضيف محذّرا من أنه “في غياب التفاعل الإيجابي مع المتغيرات الحاصلة اليوم في الشرق الأوسط ستظل تونس حبيسة سياسة خارجية عقيمة وغير ناجزة”.
نظام دولي متحوّل
يطرح السياق الجيوسياسي الراهن أسئلة حيوية عن موقع تونس في النظام الدولي المتحوّل. وفي هذا السياق، وعلى غرار النائب أبو بكر يحيى، يعتقد ثامر مزهود أن “أن مستقبل السياسة الخارجية لتونس ينبع من دستورها وثوابتها المتمثلة أساسا في مبدأ السيادة الوطنية. والانتصار للقضايا العادلة في العالم وعلى رأسها فلسطين وعدم التدخل في شوؤن الغير وهذا ما عبر عنه الرئيس التونسي في عدة مناسبات، بالإضافة إلى دعوته إلى العمل لبناء نظام عالمي أكثر عدلا يحقق مصلحة الشعوب ويحترم حقوقها. وهذا ما يقتضي العمل عليه مع القوى الصاعدة والتي تسعى إلى نفس الغاية ولعل الصين أهمها في هذا المجال وكل دول منظومة البريكس”.
ويضيف مزهود لـ”أفريقيا برس”: “هذا العالم تحكمه القوة والمصلحة وهي التي تقود السياسة الخارجية للدول الكبرى المتحكمة في العالم منذ الحرب العالمية الثانية والتي ازدادت توحشا في السنوات الأخيرة نتيجة غياب التوازن وإنفراد أمريكا بالهيمنة.. لكن أعتقد أننا اليوم بصدد ميلاد نظام عالمي جديد وما الحروب المشتعلة في عدة مناطق إلا دليل على استماتة نظام قديم في الدفاع عن وجوده، والمجال العربي جزء هام من مجال الصراع العالمي، لكن للأسف هذا الطرف يعيش حالة انقسام وتشرذم أدت إلى غياب حد أدنى من التضامن العربي الفعلي وانهيار منظومة الأمن القومي العربي”.
و”عليه ليس المطلوب من تونس تغيير مواقفها التقليدية بل أن تعمل على بلورة سياسة خارجية ضمن فضائها المغاربي والعربي، ترتقي إلى مستوى التحديات الجسيمة وتتعاطى مع المستجدات الدولية برؤية موحدة”.
تدرك تونس أن الصراع الإيراني الإسرائيلي ليس مجرّد قضية إقليمية معزولة، بل سيكون اختبارا لقدرتها على الحفاظ على استقلالية قرارها السيادي ومصداقية سياستها الخارجية.. والحفاظ على الهوية السياسية والثقافية وحتى الدينية ضرورة إستراتيجية وغاية يدركها الجميع، لكن حماية هذه الضرورة يحتاج اليوم إلى تحديد المواقف والثبات عليها، وبين منطق الحياد وضرورة الاصطفاف، تبرز الحاجة إلى مقاربة ذكية ومتعددة المستويات تحفظ لتونس خصوصيتها في المشهدين العربي والدولي وتحمي أمنها القومي ضمن النظام العالمي الصاعد.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس