حذامي خريّف
أفريقيا برس – تونس. انعقدت مؤخرا بنقابة الصحفيين التونسيين ندوة حول الانتقال الطاقي في تونس ورهاناته. تطرق المتدخّلون في الندوة، التي نظمتها مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إلى ملفات في غاية الأهمية حول استغلال الطاقات المتجددة في تونس وسبل الاستفادة من مشاريعها في ظل المتغيرات المناخية وكل ما يرتبط بها من تغييرات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية.
الاستعمار الأخضر!
كان من أبرز المصطلحات والتوصيفات التي استعملها الخبراء هي “الاستعمار الأخضر”. هذا التناقض في المصطلح (“الاستعمار” + “الأخضر”!) كان لافتا للوقوف عنده والبحث في حيثياته وما المقصود بـ”ظهور بوادر نوع جديد من الاستعمار الأخضر من دول الشمال التي نهبت وما تزال تنهب ثروات دول الجنوب على غرار تونس”.
وقت الندوة كان ضيقا وكانت هناك عديد العناوين التي تم تناولها خلال الندوة: الإستراتيجية الحالية تُكرس التبعية الطاقية والغذائية والمشاكل العقارية المرتبطة بمشاريع الطاقات المتجددة، فكان لنا لقاء ثان مع إلياس بن عمار، عضو مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة، الذي خصّ موقع “أفريقيا برس” بشرح مستفيض حول المقصود بـ”الاستعمار الأخضر” وكيف “يمكن تحقيق انتقال طاقي عادل في تونس”.
خوصصة قطاع الطاقة
خلال ندوة الانتقال الطاقي في تونس بأي ثمن؟.. فتحت ملفات في غاية الحساسية خصوصا ما يتعلق بـ”عمل الدولة على تحجيم دور الهيكل العمومي للاستثمار في الطاقات المتجددة من خلال إجباره على شراء الطاقة من المستثمرين الأجانب”، إلى أي مدى يمكن اعتبار ما تم طرحه خطرا ومساسا بالأمن القومي للبلاد؟
أولا وقبل الخـــوض في الإجابات، أريد أن أوضـــح باسم مجموعـــة العمـــل مـــن أجـــل ديمقراطية الطاقة أن ما يعنينا أساســا غير متعلّـــق بالأمن. فـــنحن نــرفض التصــورات القائمـــة عــلى الاستجابة لمتطلبــــات أمننــــا الطاقي وعلاقتها بالأمن القــــومي لأن هذه المصــــطلحات تستند إلى معجــــم نسعى إلى القطــــع معــــه لأنه يكرّس خطــــاب الســــلطة حــــول الطاقــــة الــــذي هو بالأساس صدى للخطاب النيوليبرالي في هذا المجال .
إن مــا تــم تناولــه خلال النــدوة الصحفية يتعلــق أساســا بالسيادة الوطنية الشعبية على الثروات والتي بدونها نظلّ في تبعيّة وننتقل بالبلاد من مرحلة الاستعمار المباشر عبر الجيوش والسلاح إلى الاستعمار الجديد عبر الديون والاستثمارات الخارجية. فخوصصة قطـــاع الطاقـــة ( الكهربائية خصوصـــا) تعيدنا لمـــا قبـل 1962 ويقضي على آخر ما تبقّى من انجازات دولة الاستقلال ويفتح الطريق نحو هيمنة الشركات متعددة الجنسيات على مرفق حيوي واستراتيجي كالكهرباء.
ولعـــل أبـــرز تمظهـــر لهـــذه الخوصصة هو تحجيم حصّـــة الشركة التونسية للكهرباء والغاز في المخطط الشمسي التونسي: فمـــن 4000 ميغاوات، لـــم يخصّص للهيكل العمومي ســـوى 380 ميغاوات أي أقـــل مـــن 10% مـــن جملـــة مشاريع الطاقـــات المتجـــددة المبرمجة لما بعد سنة 2030، أما الباقي فمن نصيب الشركات الأجنبية.
ولعــل النتــائج المعلنــة لإنتاج الكهرباء عبر الطاقة الشمسية والتراخيص المتعلقة بطاقة الرياح تؤكد ما تم ذكره:
علاوة على ذلك، فـــإن بعض المشاريع التي برمجت للشركة التونسية للكهرباء والغاز قد تم تحويلها نحو القطاع الخاص رغم وجود مموّلين والانتهاء من تحضير كراس الشروط لإعلان طلب العروض ولنا في مشروع طاقة الرياح بطباقة في مدينة قبلي بالجنوب التونسي أكبر مثال (80 ميغاوات):
هذه الإجراءات المتخـــذة المتعلقـــة بالمخطط الشمسي التونسي الـــذي يمثّل سياسة الانتقال الطاقي في تونس هي محصـــلة لمجموع التوصيات والدراسات التي قامـــت وتقـــوم بهـــا هيئات أجنبية منتصبة بالبلاد ( الوكالة الألمانية للتعاون الفني) وكـــذلك المؤسســـات المالية العالمية وعلى رأســــها البنــــك الدولي بهــــدف “تحرير” (لبرلة) قطــــاع الطاقــــة وفتحــــه أمــــام الاستثمار الأجنبي. وفيما يلي بعض الأدلة والشواهد على ذلك:
* الوكالة الألمانية للتعاون الفني GIZ: هذه الوكالة أصبحت جزءا لا يتجزّأ من متخطي القرار في مجال الطاقات المتجددة بتونس. فمكاتبها الموجودة بوزارة الطاقة وبهيئات وطنية تعطيها إمكانية الاطلاع على المعطيات الخاصة بهذا القطاع مما يؤهلها لاتخاذ ما يلزم من أجل تسهيل نفاذ الرأسمال خصوصا الألماني.
تقوم هذه الوكالة بإعداد دراسات متعددة حول الطاقات المتجددة وبتمويل منها علاوة على إعداد توصيات للتشريعات الملائمة لخوصصة الطاقات المتجددة في تونس وذلك تحت عنوان المساعدة الفنية.
* البنك الدولي: هذه المؤسسة المالية العالمية والمعروفة بتوجهاتها النيوليبرالية تدفع منذ تسعينات القرن الماضي الدولة التونسية لتحرير إنتاج الكهرباء عبر تقارير ودراسات في الغرض ممولة من طرفها. وبعد ثورة 14 جانفي أصبحت تملي شروطها لكي تحرّر الكهرباء من الطاقات المتجددة والقيام بالإجراءات المناسبة لتدعيم هذا التوجه كما حصل مع تنقيحات 2019 لقانون 2015 التي تمت بتوصية منها ضمن مصفوفة الشروط للتمتع بالتمويل. وقام البنك الدولي بإعداد تقرير حول ما تستوجبه الإصلاحات بتونس وكانت الطاقة المتجددة على رأس الإجراءات العاجلة الني يجب القيام بها من طرف الحكومة.
كل هذه الشواهد هي قطر من فيض التوصيات التي التزمت الحكومات التونسية المتعاقبة بعد الثورة بتنفيذها رغبة في إرضـــاء الـــدوائر الرأســـمالية العالمية ووكلائها. ولا يخفى على أحد أن هذه الهيئات كوكالة التعاون الفني الألماني هدفها الترويج للرأسمال الألماني واكتساح أسواق جديدة خصوصا مع وصول الاستثمارات في الطاقات المتجددة بأوروبا وألمانيا تحديدا لأقصى درجات التركز وهذا ما يجعل البحث عن أسواق جديدة ضمانة لتوفير فوائض ربحية مستقرة.
لا يجب التغافل كذلك عن البعد الماكرو-اقتصادي في هذه العملية. فالدفع نحو استغلال الطاقات المتجددة ببلدان الجنوب دون نقل التكنولوجيا هو استمرار بصيغة خضراء لنمط الاقتصاد الاستخراجي ببلداننا وتكريس للتقسيم الدولي للعمل حيث تتمتع دول الشمال بفوائض ربحية هامة باعتبارها مصدّرة للتجهيزات ذات القيمة المضافة العالية. ويقتصر دور دول الجنوب على توفير المواد الخام ذات القيمة الضعيفة وهذا بالضبط ما سيجعل موازين القوى دائما لصالح دول الشمال ويعيق تطور بلد مثل تونس ويساهم في التبعية التكنولوجية للغرب.
نموذج جديد
خلال هذا اللقاء مدنا إلياس بن عمار بنسخة من دراسة قيمة حملت عنوان “كيف السبيل لدمقرطة الطاقة وبناء نموذج جديد لاستغلال الطاقات المتجددة يتجاوز المقاربة الحالية لاستغلال الطاقات المتجددة”، من هنا جاء تساؤلنا: ما المقصود بدمقرطة الطاقة؟
– يعود استخدام مفهوم ديمقراطية الطاقة إلى مجموعات العدالة المناخية خلال العقد الأخير. وقد ارتبط هذا المفهوم أساسا بضرورة تغيير النمط الحالي لإنتاج الطاقة واستهلاكها لصالح أنماط جديدة تعتمد على الطاقات النظيفة والمتجددة عبر الاستغلال الجماعي والديمقراطي.
وقد طوّرت النقابات في العالم هذا المفهوم ليشمل مقاومة النموذج النيوليبرالي في استغلال الطاقة وبناء بديل جديد عبر استعادة الشعوب والأهالي لحقهم في التصرف في ثرواتهم الطبيعية وإعادة هيكلة أنظمة الطاقة لتستجيب لمتطلبات الواقع المتّسم بالتغيرات المناخية وهيمنة الشركات الاحتكارية الكبرى المملوكة لأقلية محظوظة.
وتتقاطع ديمقراطية الطاقة مع مفهوم العدالة المناخية من خلال إصرارها على ضرورة القطع مع الطاقة الأحفورية واستغلال طاقات محافظة على الطبيعة مما يجنّب الشعوب تأثيرات التغيرات المناخية الناتجة أساسا عن خيارات منظومة رأس المال العالمية.
وإذا كانت ديمقراطية الطاقة تتناقض مع مفهوم الأمن الطاقي الذي يحصر اهتمامه في تلبية الحاجيات دون الغوص في الكيفية والماهية فإنها تتطابق مع أهداف السيادة الطاقية التي تسعى لتحرير الطاقة من هيمنة الاستعمار الجديد المعبر عنه في الشركات لصالح حق الشعوب في استغلال ثرواتها والتصرف فيها دون وصاية خارجية.
– لكن كيف يمكن القطع مع نمط استغلال الطاقة الحالي لصالح نمط عادل اجتماعيا ومستدام بيئيا ويحقق السيادة الوطنية؟
* قــد تبــدو مســافة الانتقال الطاقــي المنشــود بعيــدة ولكــن لابــد مــن القيــام بالخطــوة الأولى ليتســنى لنـا الوصـول. إن موازيـن القـوى غيـر المتكافئـة وحجـم المغالطـات والدعايـة النيوليبراليـة كبيـر ولكـن مـا علـى الداعيـن لعالـم بديـل إلا الوحـدة والمقاومـة حتـى يتـم كسـب أنصـار جـدد وتعديـل ميـزان القـوى. فليـس لدينـا مـا نخسـره سـوى قيودنـا ولدينـا عالـم جديـد لنكسـبه.
إن النموذج الطاقي الحالي في العالم قد بلغ حده الأقصى وأصبح يمثل عبئا كبيرا على البشرية: التغيرات المناخية والأضرار البيئية والاستغلال بجميع أشكاله)استغلال فاحش للموارد المحلية من طرف منظومة عالمية، استغلال العمال…(. لذلك لا بد للنموذج الطاقي الجديد والمقترح أن يتجاوز هنات النموذج الحالي وأن يستفيد من تطور التقنيات خصوصا في مجال الإعلامية والاتصالات. إن التجاوز يقتضي صياغة خصائص جديدة تقطع مع تصورات المنظومة الحالية التي ستصبح قديمة.
لقد أثبت الواقع فشل منطق الاستثمار الربحي في تحقيق انتقال طاقي عادل وبالتالي فعلى الشراكات الجديدة والتحالفات التي يمكن أن تميز نموذجا طاقيا جديدا أن تركز على جملة من الخصائص أهمها:
* تغيير شكل العلاقات داخل الهياكل لتصبح أفقية، فالجميع متساوون وما يفرق بينهم هو الموقع من المسار.
* لا بد من القطع أيضا مع المقاربة القائمة على تبعية الإنتاج لنسق الاستهلاك. إن التقنيات الجديدة تسمح بتركيز مقاربة قائمة على أقلمة الاستهلاك وتكييفه مع متطلبات استغلال الموارد.
* اعتبار مسألة الطاقة مسألة سياسية بالأساس تتعلّق بالتصورات حول طبيعة المجتمعات التي نريد بنائها انطلاقا من جملة المبادئ لا المصالح. المسألة لا تتعلق فقط بالتقنية أو الاقتصاد إنها في العمق مسألة سياسية، هي “شأن المواطن – جميع المواطنين – وبهذا المعنى فهي أيضا جذريا، قضية أخلاقية «.
وبالنسبة لتونس تستلزم السيادة الطاقية جملة من المهام المطروحة التي بدونها ستتعمق تبعية البلاد طاقيا ويجعل من مشاريع الطاقة مجرد رقم معاملات في حسابات الشركات الأجنبية العملاقة. هذه المهام تتمثل أساسا في إعادة الاعتبار لدور الهيكل العمومي في منظومة إنتاج الكهرباء وعدم اعتباره مجرد متصرف في الشبكة. وتعبئة كل الموارد المتاحة من أجل التقليص من الاعتماد على الوقود الأحفوري وتلبية الحاجيات الطاقية عبر تشجيع الإنتاج لغرض الاستهلاك الذاتي)تحقيق الاستقلالية الطاقية) ليس فقط للشركات وإنما للتجمعات السكنية والفلاحين الصغار والمؤسسات العمومية وغيرهم (خصوصا في مناطق تركز الاستهلاك. (إن نجاح هذه التعبئة مرتبط بإعادة توجيه التمويلات والتحفيزات المخصصة الآن لصالح المستثمرين الخواص.
أيضا عدم الاكتفاء بتشجيع استغلال الطاقات المتجددة والدفع نحو تصنيع التجهيزات المرتبطة بها من طرف الشركات التونسية الموجه أساسا للسوق الداخلية بهدف التقليص من الواردات. هذه العملية تستوجب تشريعات خاصة واهتمام خاص بالتكوين العلمي والتحصيل التقني في المجالات المرتبطة وتسهيل النفاذ للتمويل.
هذه المهام في نظرنا هي مبادئ أولية من أجل بناء سيادة طاقية بتونس تمكّن من تجاوز هيمنة الشركات الكبرى وخلق قيمة مضافة محليا عبر الطاقات المتجددة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس