إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. ندّد الرئيس التونسي قيس سعيّد بالانتقادات الخارجية الموجهة للقضاء في تونس ووصف تعليق فرنسا على “الأحكام الثقيلة” الصادرة في “قضية التآمر على أمن الدولة” بـ”التدخل السافر”، الأمر الذي أثار جدلا في الشارع التونسي بين أغلبية مؤيّدة لقيس سعيّد، وإن لم تكن مؤيدة للأحكام، ومعارضة ترى أن التعليقات الفرنسية والألمانية والأممية تعكس تدهور صورة تونس على المستوى الدولي.
وقال قيس سعيد، خلال استقباله وزير الخارجية محمد علي النفطي، إن “التصريحات الصّادرة عن جهات أجنبية مرفوضة شكلا وتفصيلا وتُعدّ تدخلا سافرا في الشأن الداخلي التونسي”، مضيفا، حسب بيان صحفي نشرته وزارة الخارجية على صفحتها، أن “تونس ليست ضيعة ولا بُستانا وإذا كان البعض يُعبّر عن أسفه لاستبعاد المراقبين الدوليين فإنّ تونس يمكن أيضا أن تُوجّه مراقبين إلى هذه الجهات التي عبّرت عن قلقها وعن أرقها المزعوم وتُطالبها أيضا بتغيير تشريعاتها واستبدال إجراءاتها”.
ورغم أن الانتقادات الخارجية صدرت عن عدة جهات منها ألمانيا والأمم المتحدة إلى جانب فرنسا، إلا أن تعليقات هذه الأخيرة هي التي كانت مثار جدل ورفض من الشارع التونسي، وركز عليها المتابعون أكثر من غيرها، بين من يرى أنها مجرّد تسجيل حضور لا يجب أن يأخذ بأهمية وبين من يتساءل عن مستقبل العلاقات بين تونس وباريس وإلى أي مدى تتأثر بالمصالح السياسية.
وفي تصريح لـ”أفريقيا برس”، يرى المحلل لتونسي منذ ثابت أن “العلاقة بين قرطاج وباريس تمر منذ فترة بحالة من البرود، بالطبع هذا البرود يمكن أن يفهم في أكثر من سياق. السياق الأول أن فرنسا تنظر سلبيا إلى التقارب الحاصل حاليا بين تونس وأقصى اليمين الإيطالي ممثلة في حكومة ميلوني، ثم في مستوى ثان التقارب مع الجزائر، وحالة الجمود التي تشهدها العلاقات التونسية المغربية في سياق هذا التموقع المتناقض بين فرنسا الساعية إلى إعادة الانتشار في إفريقيا عبر البوابة المغربية وبين تونس التي تشكل حلفا مع الجزائر”. ويضيف ثابت: “أعتقد أن كل هذه المعطيات من شأنها أن تفضي إلى ذلك، بالإضافة التصريح الحاد في علاقة بمحاكمات وأوضاع حقوق الإنسان في تونس”.
رفض شعبي
ينتقد الأستاذ في القانون العام والعلاقات الدولية، خالد فريد سلطان، المواقف الأوروبية، ويقول في رسالة موجهة لمراكز القرار الأوروبية، خصّ الأستاذ خالد فريد سلطان موقع “أفريقيا برس” بنسخة منها، “على النواب الأوروبيين أن يفهموا مرة واحدة وإلى الأبد أن زمن الاستعمار والمقيم العام في تونس قد انتهى وأن تونس دولة حرة ومستقلة وذات سيادة”.
وفي ذات السياق، يقول مواطن تونسي، في برنامج شعبي يسأل المواطنين في الشارع عن آراءهم في بعض القضايا: “يجب أن تخرج السفارة الفرنسية من قلب العاصمة ويتم نقلها إلى الضواحي كغيرها من السفارات.. لم يعد لها مكان، بل إن منظرها وهي محاطة بالأسلاك والأمن يعطينا إحساسا باستمرار الاستعمار الفرنسي”.
يلخص هذا التصريح، الذي يشاركه الكثير من التونسيين خاصة من رواد شارع الحبيب بورقيبة، نظرة التونسيين اليوم إلى فرنسا التي تمر علاقتها بمستعمراتها القديمة على غرار تونس بفتور يصل حد “التمرّد” الذي تخشاه باريس وإن سعت في بعض المناسبات أن تبدو بمظهر “فرنسا” القديمة المتحكمة في “مستعمراتها” المستقلة.
ولم يكن البيان الأخير لوزارة الخارجية الفرنسية حول الأحكام الصادرة في قضية التآمر “موفقا” بتلك المقاييس القديمة، حيث جاءها الرد بأن لا “مجال للتدخل بطريقة أو بأخرى في الشأن التونسي”، خاصة وأن الشارع التونسي رافض لذلك ولطالما اعتبر أن المعارضة “مرتبطة بفرنسا”، وهي التي تحرّكها لضمان عدم استقرار البلاد.
وكانت الخارجية الفرنسية قالت في بيانها: “علمنا بقلق بالأحكام الثقيلة بحق عدة أفراد متهمين بالتآمر ضد أمن الدولة، من بينهم رعايا فرنسيون”. مضيفة: “يؤسفنا عدم توافر ظروف المحاكمة العادلة”.
ومثل هذه التصريحات تصب في صالح الرئيس قيس سعيّد الذي يبدو عارفا جيدا بتوجهات الشارع التونسي (الشعبي) بعد فترة حكم الإسلاميين ومن تحالفوا معهم مثل نداء تونس، الذي ينظر إليه باعتباره “ابن فرنسا”، وكانت هذه الأخيرة هي من رعت الحوار بين الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي في 15 أوت 2013 وقد كانت البلاد تشهد حينها أزمة سياسية خانقة.
سعيد يتقدم بكامل قوته
في حين اختار قيس سعيّد الجزائر أول وجهة خارجية له بعد إعادة انتخابه في 2024، كانت فرنسا وجهته الأوروبية الأولى عقب توليه مهام منصبه في 2020 واعتبر ذلك “بروتوكولا” وأمرا تقليديا بين تونس وفرنسا التي مازلت تعتبر الشريك التجاري الأول لتونس، وأحد معاقل الفرنكوفونية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. لكن في نفس الوقت وضع قيس سعيّد “حدودا” لتلك العلاقة ظهرت أكثر بعد استقواءه إثر 25 جويلية 2021.
ويذكر المتابعون في هذا السياق ما جاء في خطابه في 20 مارس 2025، بمناسبة الذكرى التاسعة والستين للاستقلال، حيث قال إن “الاستقلال الحقيقي ليس مجرد تصديق على بروتوكول (في إشارة إلى البروتوكول الموقع مع فرنسا عام 1956)، بل هو السيادة الكاملة والشاملة”.
وتعلق كاترينا روجيرو، الباحثة في معهد الدراسات السياسية الدولية الإيطالي (ISPI) على ذلك بقولها في دراسة عنوانها (تونس: سعيد يتقدم بكامل قوته): “مكافحة الفساد والدفاع عن السيادة الوطنية قضيتان محببتان للرئيس منذ ولايته الأولى؛ إذ يتهم تقريبا كامل الطبقة السياسية التي تولّت الحكم خلال العقد الذي تلا ثورة 2011 بارتكاب جرائم فساد، كما يطرح موضوع خطر التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية التونسية، وهو خطر يُعتبر مفترضا أكثر من كونه واقعيا”.
وفي حديثها عن العلاقات مع فرنسا تقارن الباحثة بين الرد على الرسالتين اللتين تلقاهما سعيّد من الجزائر وفرنسا للتهنئة بعيد الاستقلال حيث تقول: “وصلت التهنئة بمناسبة عيد الاستقلال إلى الرئيس سعيد من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. فيما يتعلق بالرد على التهنئة الجزائرية كانت النبرة سلسلة وهادئة حيث أكّد سعيد “على عمق العلاقات التي توحد “البلدين الشقيقين” و”الإرادة المشتركة لتعزيزها بشكل أكبر”.
أما في رده على نظيره الفرنسي، فقد كانت نبرته قاسية وحملت عدة رسائل، وفق روجيرو حيث شدّد سعيّد “على ضرورة وضع حد “للإبادة الجماعية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني” كما تحدث على “ضرورة مراجعة النظام الدولي ليكون قائما على التعاون الذي يحترم المساواة بين الشركاء”. وقال إن “المجتمع الإنساني اليوم صار متقدما على المجتمع الدولي الكلاسيكي”، موضحا “أنه لا بد من مراجعة عديد المفاهيم التي بقيت قائمة وتجاوزتها الأحداث. وأن تونس تريد التعاون الندّ للندّ مع كلّ الأطراف وأنّها ثابتة على مواقفها”.
تبدو العلاقات بين تونس وفرنسا على طرفي نقيض، فمن جهة يتبنى الرئيس خطاب السيادة والاستقلال، ومن جهة أخرى هناك علاقات استراتيجية مع فرنسا ليس من السهل تغييرها بحلفاء آخرون، مثل إيطاليا أو غيرها، كما أن النظام في تونس اليوم يعمل على إمساك العصا من الوسط وفق مقياس الشارع والأحداث، فحين احتضنت تونس قمة الفرنكوفونية والتي سجلت نجاحا لافتا، بدعم مادي ولوجستي فرنسي كبيرين، كانت تونس تشهد أزمة سياسية كبرى بعد 25 يوليو واحتكار السلطة من قبل سعيد الذي وجد في تلك القمة وما حققته متنفسا خفف من حالة الاحتقان الداخلي وأيضا جعل فرنسا تغض الطرف عما يحدث.
نفس الموقف تكرر مع ملف الهجرة، حيث تتهم المنظمات الحقوقية فرنسا، وغيرها من الأنظمة الأوروبية، بـ”التغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان في تونس مقابل المضي قدما في اتفاق الهجرة”، والذي نجح إلى حد ما في “حماية” فرنسا وإيطاليا وغيرهما من تدفقات المهاجرين غير الشرعيين، رغم أن الرئيس التونسي قال في عدة مناسبات أن بلاده “لن تكون حارسة لحدود أوروبا”. وقد تم في سنة 2023 توقيع مذكرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي تكشف عن تقديم الأوروبيين لتونس دعما ماليا سخيّا مقابل التعاون في وقف الهجرة. وقد قال حينها حقوقيون إن الثمن الحقيقي لم يكن الملايين من اليوروهات التي دفعت بل “التغاضي عن قمع الحريات في تونس”.
بينما يأتي ردّ الرئيس التونسي على الانتقادات الأوروبية في سياق استراتيجية تواصل مضبوطة من الرئيس قيس سعيّد، -ليست ارتجالية كما يقول البعض-، هناك من يعتبر أن البيان الفرنسي كان ضروريا لتخفيف ضغط انتقادات الحقوقيين في الداخل، فمثلا كتب سيمون روجيه في صحيفة لوموند الفرنسية منتقدا تأخر الرد الفرنسي على الأحكام الصادرة في منا يعرف بقية التآمر على أمن الدولة في تونس: “إن توقيت رد فعل وزارة الخارجية الفرنسية على الحكم في محاكمة “التآمر على أمن الدولة” في تونس يشكل مؤشرا جيدا على الحرج الذي تعيشه فرنسا في مواجهة نظام استبدادي وغير مرن. لقد مرت حوالي خمسة أيام بين النطق بالحكم يوم السبت 19 أبريل في تونس، وبيان وزارة الخارجية الفرنسية خلال مؤتمرها الصحفي يوم 23 أبريل”.
وبين هذا وذلك تبقى العلاقات التونسية الفرنسية مرتبطة بالتطورات الخاصة بكل بلد، وبحسابات الأنظمة ومصالحها السياسية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس