حذامي خريّف
أفريقيا برس – تونس. في لحظة اعتقد فيها العالم أن القضية الفلسطينية قاب قوسين أو أدنى من “الاندثار”، تأتي تحرّكات فردية وجماعية لتكون النسمة التي تُلهب جذوة هذه القضية من جديد، وتُؤكد على استمراريتها، بل وتُحرق أوراق أولئك الذين راهنوا على إخمادها.
وفي زمن تُذبح فيه الحقيقة على موائد التواطؤ، ويُجَوَّع فيه الأطفال أمام صمت العالم، ينهض محمد دمق، المثقف التونسي، بجسده النحيل ليعلن الإضراب عن الطعام. ليس احتجاجا على ظلم شخصي أو مطلب اجتماعي، بل تضامنا مع أطفال غزة، مع الطفولة المذبوحة، مع الحقّ في وجه القتل العلني الذي يمارسه الكيان الصهيوني في ظل تخاذل عربي ودولي مريب.
التقى “أفريقيا برس” مع محمد دمق، الذي اعتاد أن يكتب بالكلمات، ليتحدث عن قراره بأن يُدوّن هذه المرة بجسده، في لحظة يحاول فيها البعض خنق الصوت الفلسطيني وإغراقه في صمت التطبيع والتواطؤ. وبين صمت رسمي عربي، ودم فلسطيني مسكوب يوميا، يصبح الفعل الفردي الصادق أكثر صدى من الخطب والشعارات.
نقترب من هذه التجربة الفردية التي تزاوج بين الأدب والموقف، بين الألم والمقاومة، ونسأله عن خلفيات قراره، أبعاده الثقافية والسياسية، وتفاعلات الشارع التونسي مع ما يحدث في فلسطين.
رغم أن مبادرتكم فردية، إلا أنها تحمل قوة رمزية قد تفوق تأثير المواقف الجماعية والمؤسساتية… برأيكم، ما سر هذه القوة الرمزية؟ وهل تراهنون على أن الفعل الفردي الصادق لا يزال قادرا على إحداث أثر في زمن الصمت والتطبيع؟
هذه الحركة الاحتجاجية كانت تمثل ردة فعل ضد واقع الصمت الذي يخيم على مجتمعاتنا تجاه الجريمة التي ترتكب في حق أبناء غزة، إبادة جماعية وتجويع متوحش لشعب بأكمله على مرأى من العالم ومسمع منه، إن تشرذم النخب وانحسار العمل الجمعياتي وعمل منظمات المجتمع المدني هو الذي دفعني إلى خوض هذه التجربة بشكل فردي رغم دعوتي المتواصلة للجميع بالالتحاق بهذه الحركة. الجماهير كانت دوما تحتاج الى حركات صادقة وقد تفاعلت تلقائيا مع قافلة الصمود وهي تتابع باهتمام سفن التضامن التي تستهدف رفع الحصار وفتح المعابر وقد تفاعلت كذلك مع هذه المبادرة.
أنا لا أؤمن بالفعل الفردي وكنت أحبذ لو كانت الحركة شعبية لكن النخب مريضة بتورم الذات وبمرض التسلط والزعامة وغياب الممارسة الديمقراطية هو ما دفعني إلى الخيار الفردي وهو ما أجهض الزخم الكبير الذي كان من الممكن أن تحدثه هذه الحركة.
كيف تعيش هذه التجربة جسديا ونفسيا بعد أيام من الإضراب؟
كانت تجربة رائعة رغم تمرسي بأساليب النضال الكلاسيكية من إضرابات اعتصامات من خلال نشاطي السياسي والحقوقي وخاصة النقابي. فاجأني القرار في لحظة قبل أن يفاجئ عائلتي وأصدقائي. فقد شعرت أن عليّ أن أبادر دون اهتمام كبير بالمخاطر الصحية. كنت مستعدا لتقديم صحتي وجسدي قربانا لتلك المعاناة التي يعيشها أطفال غزة وكل أهلها جراء هذه المظلمة. كانت قناعتي ووعيي بأهمية الفعل دافعين كبيرين زادهما التفاعل الكبير من الأصدقاء قوة وأهمية.
هل تلقيتم دعما من المحيطين بكم، سواء من العائلة أو الأصدقاء أو زملاء المهنة؟
يمثل الدعم المعنوي في مثل هذه اللحظات أهم سند وبالرغم من أن المبادرة فردية وتم الانخراط فيها بشكل مفاجئ إلا إن الأصدقاء والعائلة سرعان ما هبوا للمساندة والدعم فتحولت التجربة إلى منطلق لحوار مع الأصدقاء لتكثيف الدعم ولإنجاح المبادرة باعتبارها شكلا جديدا من النضالات وخاصة باعتبارها تكشف عن شجاعة وعن قوة إرادة وصدقها، فحرّكت دعما واسعا في محيطي خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي. رغم الضغط الذي تلقيته في اليوم الثالث نتيجة حرص أصدقائي على صحتي.
إن الشعب التونسي والشعوب العربية عموما بات ينقصها الوعي بالغير وغلبت على الناس الأنانية الضيقة واختناق أفق الرؤيا فالبعض ينظر إلى أشكال النضال من زاوية التهور أو الفعل غير المجدي. وتفاعلها يقف في حدود الدعاء أو الانفعال العاطفي لذلك فوجئ كثيرون بقراري وبانخراطي في الإضراب.
كيف تنظرون إلى ما يحدث في غزة اليوم؟ وما الرسالة التي تودون إيصالها من خلال هذا التحرك؟
ما يحدث اليوم في غزة هو جريمة بكل المقاييس، بل لعلها أكبر جريمة تعيشها الإنسانية المعاصرة بعد الحرب العالمية الثانية. فالإبادة الجماعية والتدمير الممنهج لمدينة بأكملها والتهجير واستعمال الأسلحة المحرمة دوليا واستهداف المدارس والمستشفيات وقتل الأبرياء تمثل جرائم فظيعة لتنتهي بهذا التجويع المتوحش لسكان عزل وما يزيد الأمر فظاعة هو النقل المباشر لهذه الجرائم حيث تحولت غزة إلى حلبة مصارعة يستمتع فيها جمهور متعطش للقتل وللدم الفلسطيني هذا إضافة إلى التواطؤ الدولي والمساهمة المباشرة من طرف أمريكا وأوروبا وبعض الأنظمة العربية في هذه الجريمة.
هل تعتبرون أن المثقف العربي اليوم يقوم بما يكفي من أجل فلسطين؟
لا يمكن في تقديري أن نتحدث اليوم عن مثقف عربي على نحو ما كان عليه الأمر في القرن الماضي حيث كانت هذه الصفة تطلق على نخب الثقافة والفكر والفن والتي كانت مهووسة بقيادة شعوبها نحو التحرر والتقدم. المثقف اليوم صار يعيش أسوة بكل أفراد شعبه أزمة حادة، فهو إما موظف في الدولة محكوم بامتلاءاتها، مهدد بتسلطها، أو هو فرد ينتعل حذاء غربته ويسير هائما مهمشا.
جزء من المثقفين العرب صاروا مرتزقة تم إغراؤهم بأموال البيترودولار أو فروا من أوطانهم نحو أوروبا وأمريكا للبحث عن هامش من الحرية والكرامة. في واقع السلعنة الذي فرضته العولمة وفي واقع هيمنت عليه الفضائيات وشبكات الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي يصبح خطابه في قاع الخطابات المؤثرة ويصير الاهتمام به هامشيا مقارنة بنجوم كرة القدم ونجوم الفيديوهات لذلك هو لا يؤثر لا في القضية الفلسطينية ولا في غيرها من القضايا.
هل تعتبرون أن جسد الكاتب يمكن أن يكون سلاحا رمزيا في زمن التواطؤ الدولي؟
كانت الكلمة عبر التاريخ هي سلاح المثقف ووسيلته الأولى في التأثير على واقعه. فالكلمة في كل تشكّلاتها وأنماط الخطاب الذي تبنيه، كانت الكلمة شعرا أو نثرا، تحليلا ونقدا أو إبداعا هي صوت الكاتب لكن حين تسود أصوات الحرب وتهيمن أصوات الانفجارات والرصاص وأنين الضحايا يضيع صوته لذلك كثيرا ما يلجأ الكتاب إلى أساليب بديلة إما عبر الانخراط في تلك المعارك وفي أشكال المقاومة المسلحة (غسان كنفاني) أو عبر الانخراط في أشكال نضال رمزية لعل من بينها الاحتجاج عبر الجسد. خليل حاوي انتحر احتجاجا على اجتياح بيروت أمام صمت العالمي. يمكن لجسد الكاتب أن يكون اليوم جزءا من معركة رمزية عنوانها النضال دفاعا عن جوعى غزة.
إلى أي مدى يمكن للفعل الثقافي أن يكون شكلا من أشكال المقاومة؟
الفعل الثقافي هو تشكل راق لأنماط الوعي فخارج الثقافة سيكون وعينا وجرد وعي حسي انفعالي. المقاومة تحتاج أولا إلى الوعي لأن غياب الوعي يحولها إلى مجرد رد فعل تلقائي ضد كل أشكال الاضطهاد التي يتعرض لها الإنسان. فالمقاومة بما هي رفض للخضوع والاستسلام تحتاج إلى وعي والفعل الثقافي هو واحد من أهم أشكال المقاومة السلمية الممكنة.
الفن والأدب وأشكال الإبداع تنخرط اليوم ضمن ما يعرف بثقافات المقاومة. الأدب والسينما والفنون عامة كانت في طليعة أشكال المقاومة التي خاضتها الشعوب فخارج أنماط العنف والمقاومة المسلحة يمكن اعتبار المقاومة الثقافية والفعل الثقافي بكل أشكاله من أهم أشكال المقاومة السلمية. وهي مقاومة لا تقل تأثيرا وأهمية عن بقية الأنماط وليس صدفة أن يقوم العدو باغتيال غسان كنفاني أو الكاريكاتوري الفلسطيني الكبير ناجي العلي وإن تحاصر اليوم آمنة أبودلامة ذلك أن دورهم لا يقل أهمية عن حاملي السلاح. وحين انخرطت في هذا الشكل النضالي كنت واعيا ككاتب وفنان بأهمية استخدام أنماط جديدة من المقاومة التي نستطيع من خلالها أن ندعم صمود شعبنا الفلسطيني وخاصة سكان غزة المحاصرين والمعزولين وأن نحتجّ على العنف المادي والتجويع الذي يتعرضون له.
هل تفكرون في تحويل هذه التجربة إلى نص أدبي أو شهادة توثق هذا الموقف؟
الأكيد أن انخراطي في هذا الإضراب مثّل بالنسبة لي حدثا هاما وتجربة متميزة خاصة أنني انخرطت فيها ذاتيا وخضتها بشكل فردي وفي نوع من العزلة حيث لم يكون يجمعني بالعالم الخارجي سوى شبكات الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
أن تجوع وتضرب بقرار ذاتي فأنت تضع جسدك وصحتك أو حتى حياتك على محك الاختبار. وأن تختار هذا الشكل النضالي في غياب مرافقة صحية وفي غياب الغير فأنت تضع وجودك ضمن مفارقات الوضعية الصحية. هذه التجربة وضعتني أمام تساؤلات هامة في علاقة بالجسد والوعي وفي علاقة بالغير وقيم الإرادة والتضحية وربما تكون موضوعا هاما إما للتفكير في قضايا فلسفية أو من خلال بلورة تصور روائي خاصة أنني بصدد الاشتغال على نص روائي حول غزة بعد السابع من أكتوبر. أو ربما أفرد لهذه التجربة نصا خاصا.
ما هي رسالتكم ككاتب ومثقف تونسي إلى أطفال غزة؟
سيكون من الوهم إن أدعو أطفال غزة للصمود والصبر. فأطفال غزة هم ضحايا لهذه العدوانية وللهمجية التي تسلّط عليهم كشكل من العقاب الجامعي. من حسن حظنا أننا اليوم في تونس نعيش شكلا من التناغم بين تطلعاتنا ودعمنا اللامشروط لغزة وللقضية الفلسطينية والقرار الرسمي الذي يعلن بوضوح وقوفه مع الحق الفلسطيني وإدانته لما يرتكب من مجازر وممارسات لا إنسانية في حق سكان غزة.
اليوم هناك أمسيات شعرية وندوات فكرية وتظاهرات في كل أرجاء تونس لدعم غزة. لكن مازالت هذه التظاهرات وأشكال الفعل الثقافي تتسم بالفردية والمحلية وننتظر المزيد من التنسيق بين المثقفين والأدباء والفنانين لبناء موقف مشترك من التطبيع الثقافي وإصدار بيانات أو الانخراط في حركات مقاومة جماعية مثل إضراب جماعي للمثقفين والفنانين التونسيين كما أدعو وإلى ضرورة توسيع حركة الكتاب والفنانين لتمتد على الوطن العربي من أجل دعم غزة وفتح المعابر ورفع الحصار ومناهضة التطبيع.
أقول لأطفال غزة إن جوعي وجسدي وروحي سيكونون دوما قربانا للدفاع عن حقوقهم.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس