هالة بن يوسف نائبة رئيس الأممية الاشتراكية للنساء
أهم ما يجب معرفته
تواجه المعارضة التونسية تحديات كبيرة في ظل إرث ثقيل يمنعها من التجدد والتفاعل مع الشعب. رغم المظاهرات الأخيرة التي أظهرت رغبة التونسيين في استعادة حرياتهم، يبقى السؤال: هل تستطيع المعارضة إعادة تشكيل نفسها لتكون قوة بناءة في المستقبل؟ التحديات قائمة، والمستقبل يتطلب جرأة في اتخاذ القرارات والتوجه نحو مشروع وطني جديد.
أفريقيا برس – تونس. تمرّ تونس اليوم بمرحلة دقيقة يتقاطع فيها الغموض مع الغضب والإرهاق مع رغبة خافتة في الحياة. ولعلّ الشرارة التي ظهرت في مسيرة نهاية الأسبوع والتي جسّدتها تلك الحشود التي خرجت رغم الخوف والصمت الطويل، لم تكن مجرّد احتجاج عابر ومعزول، بل كانت تجلّياً للأمل ودليلاً على أنّ الفضاء العام يمكن أن يعود حيًا، وأن التونسيين والتونسيات ما زالوا غيورين على حريّاتهم وحقوقهم حين يشعرون أنّها تُختنق.
تلك المظاهرة لم تكن حدثًا ظرفيًّا، بل كانت لحظة ضخّ هواء نقيّ في مناخ سياسي يزداد ثقلاً، وإشارة واضحة بأن المجتمع ما زال مستعدًا لتجميع قواه شريطة وجود من يقود هذه القوى برؤى جديدة، لا بإعادة إنتاج نفس التمشي الفاشل الذي تدفع ثمنه البلاد اليوم.
ولكن هنا تحديدًا تظهر أزمتنا الأكبر، وهي أزمة معارضة عاجزة، بمختلف مكوناتها، عن التفاعل مع الشعب لأنها بقيت حبيسة صراعها مع إرثٍ يثقلها ويمنعها من التجدّد.
فالمعارضة في تاريخ تونس لم تكن يومًا مجرّد هيكل حزبي. لقد كانت قبل الثورة بسنوات طويلة تمثّل ضمير الوطن، صوتًا وحيدًا وموحّدًا في زمن كان الاختلاف فيه جرمًا. كانت تتكوّن كنخبة صغيرة في العدد، لكنها كبيرة في النضال وفي المقاومة، ودفعت ثمنًا كبيرًا كي تُبقي نافذة الثورة مفتوحة للبحث عن الحرية المنشودة.
إنّ ما حدث بعد 2011 يبيّن أننا لم ننجح في تحويل هذا الإرث إلى طاقة بنّاءة. ففرصة التحوّل من “معارضة مقاومة” إلى معارضة بديلة ضاعت بين الانقسامات والزعامات وخوف البعض من التقدّم نحو مشروع واضح يلتقي حوله الجميع. لقد خرج الناس هذا الأسبوع للتعبير عن أنّ المجال العام يمكن أن يُستعاد. لكن السؤال الحقيقي الذي ينبغي طرحه لا يزال قائمًا، هل تستطيع المعارضة أن تستعيد نفسها؟
تونس لا تحتاج إلى معارضة تتقاتل حول الماضي، بل إلى معارضة تضع نصب عينيها المستقبل. لا تحتاج إلى من يصرخ ضد الدولة بل من يفهم دوره كشريك بنّاء، كقوة توازن، كمؤسسة جديدة تساهم في بناء الدولة ولا تهدمها، وتقدّم بدائل لا بيانات تنديد واستنكار.
إنّ المعارضة التي تستطيع أن تغيّر المشهد ليست تلك التي تنتظر سقوط خصومها وتبحث جاهدة في أخطائهم وتتصيد لهم الفرص في كل سبيل، بل تلك التي تجرؤ على إعادة تشكيل ذاتها وكسر جمودها وتجديد أفكارها وإدماج الشباب الذي لا تعنيه السياسة بمفهومها الكلاسيكي القديم، وعلى صياغة مشروع وطني واقعي وجريء في الوقت نفسه.
إنّ التاريخ يقدّم لنا نماذج واضحة، ففي فرنسا مثلاً، لم يصل اليسار إلى الحكم إلا بعد أن أعاد بناء ذاته في مؤتمر «إيبينيه». أما في إيطاليا، فلم تستقر الحياة السياسية إلا عندما اتفق اليسار رغم تنوّعه على جبهة موحّدة مثل L’Ulivo. ولكن الدرس الإيطالي الحديث أكثر قسوة، فحين انقسم اليسار وانشقّ عن واقع الشعب، صعد اليمين بقوة لأن الطبيعة تأبى الفراغ.
وأما تونس اليوم فهي أمام اللحظة ذاتها، فإن لم تجرؤ المعارضة على توحيد أهدافها السياسية، فإن البلاد ستواصل الدوران في حلقة مفرغة تزداد فيها المعارضة انقسامًا ويزداد فيها الحاكم تمكينًا.
لقد مهّد التونسيون والتونسيات خلال هذا الأسبوع الطريق للطيف السياسي، برهنوا على أنّ الأرض مستعدة. في حين يبقى السؤال الأساسي، هل القوى السياسية مستعدة بدورها؟ هل تملك الجرأة على المرور إلى مستقبل تبنيه بسواعدها بدل الاختباء خلف الإرث المتهالك الذي لم تجني من ورائه إلاّ الانقسام والفرقة؟ هل هي قادرة على تجاوز الأنانية الزعاماتية المزمنة لتتّحد حول الأفكار والبرامج؟ وهل تفتح الباب لوجوه جديدة تستطيع مواكبة العصر ومؤهلة لتخاطب الشارع بما يفقه؟
إنّ المستقبل لن ينتظر معارضة خائفة ولا قيادات تعيش على أطلال الأمس، سيُكتب المستقبل بأيدي أولئك الذين يجرؤون على التغيير.
“انهض وسر في سبيل الحياة فمن نام لم تنتظره الحياة”





