آمنة جبران
أفريقيا برس – تونس. أبدى عبد اللطيف الهرماسي، الأمين العام للحزب الجمهوري بالنيابة، في حواره مع “أفريقيا برس”، أمله في “استعادة الدولة لعقلها وجنوحها للحوار مع كل الأطراف السياسية بدل اختيار سبيل القوة”.
واعتبر أن “المحاكمات بتهمة التآمر التي طالت رموز المعارضة التونسية أتت في سياق الردّة السياسية والعودة إلى الدولة التسلطية، وهي قضية مفبركة من أولها إلى آخرها، لا أساس مادي لها، وكان الغرض منها الحيلولة دون تشكّل حراك سياسي فاعل لاستعادة الديمقراطية وإسكات أصوات المعارضة للانقلاب، بل التخلص منها”، لافتًا في ذات السياق إلى “مواصلة الحزب الجمهوري تحركاته مع باقي مكونات المعارضة للمطالبة ببطلان هذه المحاكمة وإطلاق سراح المعتقلين ظلمًا وتعسفًا”.
ورأى أن “تونس تعيش بعد أربع سنوات من انعطافة 25 جويلية مزادًا سياسيًا، سببه الرئيسي أن نظام قيس سعيّد لم يقدم حلًا للأزمة السياسية التي كانت تعيشها البلاد عند وصوله إلى الحكم، ولا حلًا لمصاعبها الاقتصادية أيضًا”.
وبيّن أن “الحزب الجمهوري يراهن على الحوار الجامع لإنقاذ البلاد، حيث لا يجد الحزب مشكلًا في التحاور مع حركة النهضة”، داعيًا إلى “ضرورة تجاوز عقلية ولغة الجدار الأيديولوجي العازل”، مؤكدًا بقوله: “نحن دعاة حوار بين كل مكونات المجتمع، بما فيها السلطة التي ترفض الإنصات إلينا”.
وبرأيه “إذا تحقق ذلك، وإذا تخلينا عن استراتيجيات التقسيم وتوتير الأجواء وخطاب الكراهية والعنف الرمزي واللفظي وترذيل المعارضة، فسيكون هناك مناخ ملائم للتحاور والتفاعل المثمر”.
ود. عبد اللطيف الهرماسي هو الأمين العام للحزب الجمهوري بالنيابة، وباحث تونسي، يحمل الدكتوراه في علم الاجتماع من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة تونس (1986)، وهو اليوم أستاذ للتعليم العالي في الجامعة نفسها. له العديد من الكتب المنشورة، منها: الحركة الإسلامية في تونس؛ ظاهرة التكفير في المجتمع الإسلامي من منظور العلوم الاجتماعية للأديان؛ في الموروث الديني الإسلامي: قراءة سوسيولوجية تاريخية. وله أيضًا العديد من المقالات المنشورة بالعربية والفرنسية.
بعد مرور أربع سنوات على انطلاق مسار 25 جويلية، ماهو تقييم الحزب الجمهوري للمشهد السياسي التونسي؟
يعتبر الجمهوري أن تونس تعيش بعد أربع سنوات من انعطافة 25 جويلية مزادا سياسيا سببه الرئيسي أن نظام قيس سعيد لم يقدم حلا للأزمة السياسية التي كانت تعيشها البلاد عند وصوله إلى الحكم، ولا حلا لمصاعبها الاقتصادية أيضا.
فيما يخص الجانب السياسي جاء قيس سعيد إلى الحكم على خلفية الاخلالات التي شابت المنظومة الديمقراطية الليبرالية التي أدارت البلاد بين 2011 و 2021. منظومة لم تعجز فقط عن الاستجابة للمطالب الرئيسية التي حركت ثورة 17 / 14 وهي مطالب اجتماعية أساسا – بل قصرت اهتمامها على الجانب السياسي والمؤسساتي ككتابة الدستور والتشريعات ومنها القانون الانتخابي، وكموضوع الحكم والمحاصصات والتوافقات وتوزيع المواقع والمناصب وما رافق ذلك من مساومات بين القوى المتنفذة التي تحولت إلى مصدر للفساد السياسي، وما رافق ذلك من عدم استقرار حكومي وعبث في البرلمان و منابر الإعلام، باختصار ما وفر فرصة وتبريرا لانقلاب 25 جويلية لدى القائمين به، ولدى قطاع هام من الرأي العام، بيد أن منظومة الحكم التي أرساها قيس سعيد بدل إصلاح اعطاب الديمقراطية الليبرالية التعددية ذهبت إلى تدميرها باستهداف المكاسب الوحيدة التي حققتها الثورة وهي مكتسبات سياسية وتشريعية تمثلت في إقرار وضمان الحريات واستقلالية القضاء على إنقاذ دكتاتورية بن علي.
لقد تم تدجين المؤسسة القضائية منذ تعطيل دور المجلس الأعلى للقضاء وسلب صلاحياته وعزل القضاة الرافضين للعمل بالتعليمات، كما امتدت السياسة القمعية إلى العديد من قيادات المعارضة ونشطاء المجتمع المدني والمدونين والإعلاميين الأحرار. وتم أيضا تغيير قوانين الانتخابات بمراسيم استثنائية أقصت عمليا أحزاب المعارضة وأتت بمجالس موالية. بمثل هذه الإجراءات تم وأد الديمقراطية الناشئة بدلا من إصلاح أمراضها وتركيز نظام حكم استبدادي وشعبوي. بل أن البناء القاعدي المزعوم، والذي قدم كحل لمشكل التمثيل وتجسيد للسيادة الشعبية زاد الوضع سوءا. فالمجالس المحلية والجهوية لا صلاحيات فعلية لها. ومجلس الوزراء أصبح عبارة عن مجمع إدارات لتنفيذ قرارات رئيس جمهورية يحتكر كل الصلاحيات. من هنا أتى مأزق المنظومة الحاكمة بما فيها رئاسة لا تعرف شيئا واضحا عن إدارتها ومستشاريها، وبرلمان عاجز عن تمرير مبادرات تشريعية كما حصل مع محاولة تنقيح المرسوم 54 ومع مشروع قانون تجريم التطبيع.
هل استطاع هذا المسار تحقيق تطلعات التونسيين على صعيد الاقتصادي والاجتماعي، وهل نحن نشهد فترة أفول الأحزاب والأجسام الوسيطة؟
هنا نلمس الإخفاق الثاني للمسار وحدود منجزه والتي تتجلى في قلة الاحداثات في مواطن الرزق أو الشغل واستمرار نفس معدل البطالة المسجل سنة 2021، وكذلك في تدهور حالة المرافق والخدمات العمومية من صحة وتعليم ونقل وبيئة. صحيح أن الأسباب سابقة على 25 جويلية، لكن هذا الأخير لم يسلك الطريق المؤدية إلى التغلب عليها، وهي إعتماد سياسة اقتصادية تكون نتيجتها دفع الاستثمارات والمشاريع الإنمائية المنتجة للثروة والشغل ولفرص العيش الكريم، الرئيس سعيد بدل أن يجمع ويقرب الكفاءات الوطنية وأصحاب الخبرة للنظر في الحلول المطلوبة العاجل منها والآجل يعمد إلى استبعادها من أجل تطبيق نظريته الشخصية حول التنمية. هو يعول على المجالس المحلية والجهوية لاقتراح برامح أو مشاريع التنمية، ولكن هذه المجالس تفتقر للكفاءات وليس لها سلطة على توجيه الموارد، كما أنها غير قادرة ولو مجتمعة على انجاز تصور شامل لمخطط تنمية على المستوى الوطني وإستراتيجية متكاملة العناصر طموحة لا محالة ولكن واقعية أيضا وقابلة للتطبيق..والنتيجة أننا لا نجد إلا بعض المشاريع الصغرى والمحدودة المعلن عنها لاعتبارات دعائية وتطبيقا لفكرة الرئيس عن الشركات الأهلية. فهذا النوع من المشاريع، وإن حرك بعض الهمم على مستوى المحليات غير كاف وغير قادر على إعطاء حل ناجع لمعضلة التنمية.
الأوضاع المتردية تقتضي العودة إلى دور الدولة كقاطرة للتنمية مع تشجيع المبادرة الخاصة وطمأنتها، وتفعيل قانون الاقتصاد التضامني والاجتماعي الذي صودق عليه في 2019 ولم تصدر نصوصه الترتيبية. وربما يمكن الدمج بينه وبين قانون الشركات الأهلية. أخيرا تجدر الإشارة إلى ما تعيشه تونس من مصاعب كبرى في توفير الموارد المالية ومعالجة مديونية ثقيلة وتداين خارجي يرفضه الرئيس في خطابه ويرفض إيجاد حل له بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، ولكن المنظومة تضطر لللجوء إليه بتكاليف مالية باهظة.
ما رؤية الحزب الجمهوري للخروج من الأزمات التي ترزح تحت وطأتها البلاد؟
رؤية الحزب الجمهوري لسبل الخروج من الأزمة تشمل أسلوب التعامل، والذي يطرح موقف الرئيس قيس سعيد الرافض للحوار مع بقية الأطراف والحال أننا لا نرى بديلا عنه سوى الصراع المهلك والاستبداد القوي بالرأي والقرار فيما هو شأن الجميع.
كما تشمل الرؤية البديل الاستراتيجي عن اتفاقات ما قبل وما بعد 25 جويلية. وتحديدا إشكالية ما يعرف بالانتقال الديمقراطي.
نحن نعتبر أن الانتقال كما تم في تونس كان منقوصا وأحاديث اقتصر على إرساء تشريعات ومؤسسات وحياة سياسية ليبرالية، علما بأنه لم يحصن نفسه على هذا الصعيد من الفساد. ومن ناحية ثانية قامت تجربة تونس على استنساخ النموذج الذي طبق في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية للخروج من حالة الدكتاتوريات الكليانية الشيوعية أو العسكرية دون انتباه إلى أن قضية تونس الأولى ودوافع الثورة كانت اجتماعية في المقام الأول وثائرة عن الجهات والفئات التي تعاني حالة متردية وتعيش التهميش وتحتاج إلى الشغل والحياة الكريمة وذلك أكثر من الحرية.
الحرية هي قضية النخب في المقام الأول، وهي لا تنتج مباشرة التنمية ولا تخلق مواطن شغل. وهنا ما قاد إلى الاستياء والسخط الشعبي، الذي وظفته أطراف مؤدلجة لإنتاج خطاب شعبوي يرذل الديمقراطية التعددية ويعد بالديمقراطية القاعدية والمباشرة ويتحدث عن عشرية سوداء وعشرية خراب، والحال أنها لم تكن سلبية من كل جوانبها.
لذلك يقترح الحزب الجمهوري ضرورة الحفاظ على مبدأ الحريات واستقلال القضاء، وعمليا انتهاج سياسة تنموية موجهة لتحقيق التوازن والتكامل بين الجهات وتسريع نسق النمو ودمج القطاع الموازي وإرساء العدالة الاجتماعية بدءا بالعدالة الجبائية مع مكافحة أخطبوط الفساد والإثراء غير المشروع بلا هوادة وإتباع نهج الحوكمة الرشيدة والإدارة العقلانية للشأن الاقتصادي والاجتماعي واللجوء في ذلك إلى ما تزخر به تونس من كفاءات بدل الخطاب الشعبوي الذي لا يغني ولا يسمن من جوع. وهذا هو ما مطلبنا أي التصحيح والسعي نحو الانتقال الديمقراطي الجديد ونقترحه أفقا وبديلا وهو يقتضي وجود حراك سياسي يفرض مسلك الحوار الوطني المطلوب ويخرج بخارطة طريق لإصلاحات دستورية وسياسية وبرنامج إنقاذ اقتصادي.
فيما يخص ملف الحريات، يعد الحزب الجمهوري من أكثر الأحزاب الفاعلة للدفاع عن الحريات وخاصة الدفاع عن المعتقلين السياسيين، ماهي تحركاتكم القادمة في هذا الملف خاصة فيما يخص الموقوفين فيما يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة؟
من المعلوم أن المحاكمات بتهمة التآمر أتت في سياق الردة السياسية والعودة إلى الدولة التسلطية. هي قضية مفبركة من أولها إلى آخرها. لا أساس مادي لها وكان الغرض منها الحيلولة دون تشكل حراك سياسي فاعل لاستعادة الديمقراطية وإسكات أصوات رموز المعارضة للانقلاب بل التخلص منها. هكذا عرفت تونس إحدى أسوأ المحاكمات في تاريخها بما أنها شملت قيادات سياسية معروفة بسلميتها ودفاعها عن حقوق الإنسان وأحالتها بمقتضى قانون مكافحة الإرهاب، والحال أنها كانت في صدارة من أدانوا الإرهاب. ولا تطلب سوى العودة إلى دستور 2014. كما أنها من أسوأ المحاكمات بما رافقها من تعتيم واعتداء على حقوق القيادات السياسية المتهمة وحقوق الدفاع وإصدار أحكام ثقيلة عادت بنا إلى عهود قضاء التعليمات البغيضة.
وبخصوص تحركاتنا، فالحزب الجمهوري سيتواصل مع باقي مكونات المعارضة المطالبة ببطلان هذه المحاكمة وإطلاق سراح المعتقلين ظلما وتعسفا على أمل أن يعود للدولة عقلها وتجنح إلى الحوار بدل سبيل القوة.
ذكرت في تصريح سابق أنك تؤيد الحوار مع كل الأطراف ومن ضمنها النهضة لحل مشكلات البلاد، هل مازال السبيل إلى تجميع المعارضة قائما خاصة أن مسيرات 25 جويلية كشفت عمق الانقسام والتشتت التي تعاني منه المعارضة التونسية؟
فيما يخص وضع المعارضة وسبل تجاوز التشتت، ينبغي الانتباه أولا إلى أن توزع المعارضة بين ألوان فكرية وتوجهات سياسية مختلفة هي ظاهرة صحية وتعكس تنوع المجتمع وانفتاحه على التأثيرات والتيارات الفكرية والثقافية، كما تعكس تاريخ تونس وجغرافيتها الثقافية والسياسية، وبالمقابل نقر بأن هذا التنوع والتعدد تحول عند الكثير من الأطراف إلى حالة مرضية تتمثل في وجود استراتيجيات واعية أو غير واعية للاستثمار في الانقسامات الأيديولوجية والحزبية وتغذية الطائفية الأيديولوجية.
نعم هناك ومنذ عهد بن علي محاولات تواصلت بعد الثورة لتغذية الانقسامات الأيديولوجية خاصة بيم الإسلاميين والعلمانيين وبين المحافظين والحداثيين وداخل كل هؤلاء. هنا لن يعد الأمر متعلقا بالاختلاف المصيري للرؤى و المشاريع، إنما بتخندق واحتراب أيديولوجي يغذي التوترات ويعطل العمل المشترك لما فيه المصلحة المشتركة للتونسيين، كما يعطل توحيد الجهود للخروج من حالة الاستبداد.
نحن نعتبر منذ عهد بورقيبة وبن علي أن تونس لكل التونسيين على إختلاف مشاربهم، وأن الإسلاميين يعبرون سياسيا عن جانب من الموروث الثقافي وقطاع محافظ من الشعب التونسي له ما للحداثيين وعليه ما عليهم. ولذلك لا نرى مشكلا في التحاور معهم وننادي بتجاوز عقلية ولغة الجدار الأيديولوجي العازل. أكثر من ذلك نحن دعاة حوار بين كل مكونات المجتمع بما فيه السلطة التي ترفض الإنصات إلينا. إذا تحقق ذلك وإذا تخلينا عن استراتيجيات التقسيم وتوتير الأجواء وخطاب الكراهية والعنف الرمزي واللفظي وترذيل المعارضة أو شقا منها فسيكون هناك مناخ ملائم للتحاور والتفاعل المثمر.
هل تعتقد أن مسار 25 جويلية ساهم في تقسيم التونسيين، وكيف يمكن إعادة ثقة الشارع في النخب السياسية المهزوزة اليوم؟
استعادة الثقة سواء الثقة في نخبة الدولة أو الثقة في النخب الفكرية والسياسية والإجتماعية التي تتعرض للحصار والكبت يكون بعودة الأجسام الوسيطة إلى دورها. فهذه الأجسام لا يمكن لأي مجتمع الاستغناء عنها، والاكتفاء بعلاقة عمودية بين رأس الدولة والمجتمع هي عنوان استبداد مطلق؛ طبعا مع ضرورة إصلاح وتهذيب سلوك وأسلوب إدارة كل من الدولة والهيئات الوسيطة المدنية والسياسية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس