منصف الشريقي، الأمين العام للحزب الاشتراكي التونسي
أهم ما يجب معرفته
شهدت تونس في عام 2025 سلسلة من محاكمات الرأي التي طالت صحفيين ومدونين ومعارضين سياسيين، حيث تم توجيه تهم متعددة بموجب المرسوم 54. تميزت المحاكمات بغياب معايير العدالة، مما أثار قلقًا واسعًا حول حرية التعبير وحقوق الإنسان في البلاد. هذه الأحداث تعكس رغبة السلطة في قمع أي صوت معارض، مما يهدد المسار الديمقراطي في تونس.
أفريقيا برس – تونس. لم تعرف تونس سلسلة من محاكمات الرأي كالتي عرفتها خلال السنة المنتهية، فلم يمر شهر إلا ويشهد محاكمة أو قضية أو بحثًا تحقيقياً في حق صحفي أو مدون أو سياسي معارض. فقد عرف شهر جانفي في أيامه الأولى محاكمة ثلاثة صحفيين بتهم مختلفة أساسها المرسوم 54، فمن شذى الحاج مبارك إلى جمال العرفاوي إلى غسان بن خليفة إلى سنية الدهماني. وقد صدرت أحكام قاسية وسالبة للحرية وصلت إلى خمس سنوات سجناً للصحفية شذى الحاج مبارك.
ثم أتت محاكمة مراد الزغيدي وبرهان بسيس ومحمد بوغلاب. وحسب تقرير نقابة الصحفيين، فقد عرفت سنة 2025 ملاحقات قضائية بلغت 14 ملاحقة على معنى المرسوم 54، وتم فتح 19 بحثًا تحقيقياً ضد صحفيين، وهي تتبعات خارج القانون المنظم لحرية الصحافة والتعبير والطباعة والنشر، وهو المرسوم 115.
ولم تمر سنة 2025 هكذا بدون محاكمات للرأي وبتهم مختلفة، فعرف يوم 8 جويلية صدور أحكام ثقيلة في قضية ما يعرف بقضية: التآمر على أمن الدولة 2، تراوحت بين خمس سنوات و45 سنة سجناً.
ثم لم يمر شهران فقط حتى كانت محاكمة عبير موسي في 14 نوفمبر، تلتها قضية “التآمر على أمن الدولة 1″ والتي بلغت هذه السنة الطور الاستئنافي في 28 نوفمبر المنقضي، وتوجت بأحكام ثقيلة في حق معارضين سياسيين لمسار 25 جويلية 2021.
وقبل أسبوعين، كانت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين تحاكم، وكان ذلك يوم 17 نوفمبر، دون أن ننسى محاكمات نشطاء المجتمع المدني، سواء من اتهموا بتحريض المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء أو منتسبين لجمعيات دافعت عن حق المهاجرين الإنساني في حياة كريمة بعيدًا عن التمييز والعنصرية، مثل شريفة الرياحي وشاذلية مصباح وأخريات يقبعن في السجون منذ أكثر من عام.
إن الملفت في المحاكمات التي عرفتها السنة المنتهية أنها كانت محاكمات لأصحاب رأي وموقف عبروا عنها ضمن نشاطهم المدني والنقابي أو الإعلامي أو السياسي، و”ذنبهم” أنهم تجرؤوا على إعلان ذلك على الملأ، دون أن يدور في خلدهم أن حريتهم ستتعرض إلى السلب، معتقدين أنها مواقف تندرج ضمن عملهم العادي، فإذا بهم عرضة للمحاكمات والسجن.
وهذا يعكس دون شك رغبة السلطة في إغلاق مجال الفعل أمام أي رأي مخالف يشتم منه رائحة المزاحمة على الحكم، واتهامه بتهم جاهزة عنوانها الأبرز الخيانة والولاء للخارج وضعف الانتماء الوطني!
إننا نطوي سنة إدارية عرفت منعرجًا خطيرًا وغير مسبوق في مجال محاكمات الرأي، اتسمت بغياب تام لأبسط قواعد المحاكمة العادلة، حيث تراوحت الجلسات من شكلها الافتراضي المرفوض من أغلب “المتهمين”، خاصة في قضايا التآمر، حيث كان من الضروري كشف كل ملابسات هذه القضايا الخطيرة أمام الرأي العام، حتى يتبين فعلاً ما ينسب للموقوفين على ذمة هذه القضايا الشائكة، قبل أن يتم الزج بهم في السجون.
ولكن، وهذا هو الأخطر، أن تلك المحاكمات عرفت سرعة غير معهودة (محاكمة أحمد صواب دامت 7 دقائق) في طي ملفاتها واختصار الجلسات، وعدم تمكين لسان الدفاع من حقه الطبيعي والدستوري في الدفاع عن منوبيه.
ووصل الأمر إلى حد منع حتى الموقوفين من الدفاع عن أنفسهم في أغلب القضايا، وهو سعي محموم من طرف قضاء 25 جويلية في إغلاق القضايا وإنهاء الإجراءات القانونية بشكل عاجل، للإسراع بإصدار بطاقات الإيداع للمعارضين و”المناوئين” الذين من الممكن أن يمثلوا منافسين محتملين للحكم!
لم تشهد تونس في عصرها الحديث رغبة أشد من السلطة الحالية في محاكمة أصحاب الرأي ونشطاء المجتمع المدني، لأن إرادتها في إزاحة كل مقاوم لها ترتكز على تهميش وتجاوز كل ما سبق 25 جويلية 2021، مولدة لدى العامة روحًا جديدة على الشعب التونسي تغذي التشفي والانتقام، وعملت مباشرة على تغيير النظام السياسي الذي يفصل بين السلطات ويعطي للقضاء الاستقلالية، ويحترم الحقوق والحريات، بنظام حكم فردي استبدادي لا يعطي قيمة للعدالة وللقضاء الناجز والعادل، بل ينزع منه سلطته ويحوله إلى وظيفة تأتمر بأوامر السلطة التنفيذية، وأساسًا رئيس الدولة الذي حل المجلس الأعلى للقضاء، وعوضه بآخر سرعان ما همشه وتركه جانبًا، ليخلو لوزارة العدل التحكم في الشأن القضائي برمته.
إن العدل أساس العمران، والعدالة ركيزة من ركائز تطور الأمم، وعنوان حضارة الشعوب ورقي مجتمعاتها، ولكن ذلك تم نسفه منذ 22 سبتمبر 2021 عن طريق مسار انقلابي أنهى الانتقال الديمقراطي، وأسس لاستبداد نسف العدالة، وأقام الجور والظلم بالمحاكمات المتتالية، والتي عرفت خلال سنة 2025 رقمًا مفزعًا تجاوز حدود العقل والمنطق.
وسيواصل نظام الاستبداد سياسات القمع، وإيقاف كل ناشط أو حزب أو جمعية يقرر أنها تمثل خطرًا عليه وعلى بقائه في السلطة، وستظل المرسوم 54 سيفًا مسلطًا على رقاب الصحفيين والمدونين، وكل كاتب ناقد لإرادة السلطة، وتبقى التهم جاهزة لكل سياسي ينوي المنافسة على الحكم.
ولن يتراجع هذا المسار عن ذلك إلا متى وجدت القوى الجمهورية، اليسارية والديمقراطية والاجتماعية، طريقها للمقاومة ودحر الظلم، ورفع الجور، وإيقاف المحاكمات الجائرة. ولن يكون ذلك ممكنًا إلا بنضالها الموحد من أجل بديل سياسي ديمقراطي يمتلك مشروعًا وطنيًا ذا مضمون اجتماعي يقيم العدل، ويعلي قيمة الفكر الحر والمختلف، ويحترم الحقوق والحريات، ولا يجرمها، حتى تصبح حقوقًا غير قابلة للنقض والمراجعة.
انتهت السنة الإدارية الحالية بمحاكماتها الكثيرة والمتنوعة، وسنستقبل سنة جديدة نرجو أن تكون بوابة أمل للشعب التونسي، تنسيه المآسي التي ارتكبتها سلطة 25 جويلية، بما خلفته لمساجين الرأي من قهر وإحساس بالغبن، ولعائلاتهم وذويهم من تعب جسدي ونفسي، وشعور بالظلم والجور.. فهل ذلك ممكن؟





