محمد خليل برعومي
أفريقيا برس – تونس. منذ انطلاق أعماله في دورته الماضية (2023 – 2028) وممارسة مهامّه وظيفةً تشريعيةً بدلاً من دوره سلطةً تشريعيةً، بعد التنصيص على ذلك في الدستور الجديد (2022)، لم يظهر مجلس النواب التونسي سوى جناحاً تابعاً للسلطة التنفيذية، وواحدةً من غرفها الخلفية، يأتمر بأوامرها ويصادق على مشاريع قوانينها، بعيداً من أدواره الأصلية، التعديلية والرقابية والتشريعية، إذ بانتفاء صفته وصلاحياته سلطةً انتفت أدواره الرئيسة.
يعكس هذا التغيير في صفة البرلمان (وصلاحياته) توجّهاً مع حكم الرئيس قيس سعيّد نحو مفهوم توزيع الوظائف بدلاً من مبدأ الفصل بين السلطات، كما كان معتمداً في الدساتير السابقة، إذ أصبح الحديث عن وظائف تنفيذية وتشريعية وقضائية بدلاً من السلطات الثلاث التقليدية، ويعزّز الدور المركزي لرئيس الجمهورية في النظام السياسي الجديد، إذ لم يعد البرلمان سلطةً قائمةً بذاتها، بل يمارس وظيفةً تشريعيةً محدّدةً ضمن إطار يحدّده الدستور.
باعتبار أن مجلس الشعب التونسي صار واحدةً من جملة الوظائف التابعة للدولة المركزية وبيروقراطيتها، كان منتظراً أن يكون في أقلّه تعبيراً تنفيذياً عن خطابات رأس الدولة المنادي بفرض السيادة الوطنية عبر رفض التبعية المالية للخارج، والغرب أساساً، والامتناع عن عمليات الاقتراض التي تتبعها ديون مشطّة، وشروط في غالب الأحيان، وهو ما دفع سعيّد (في الأعوام الماضية) إلى إغلاق أبواب حكوماته المتتالية أمام فرص التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ومطالبته مراراً بضرورة التعويل على الذات، لكن من دون تقديم خططٍ أو برامجَ لذلك.
على عكس ذلك تماماً، تفيد التقارير الصحافية، والمداخلات البرلمانية، بأن المجلس النيابي التونسي صادق على نحو 25 اتفاقية قرض خلال عام 2024، بقيمة إجمالية تُقدَّر بنحو 14.5 مليار دينار تونسي (نحو خمسة مليارات دولار)، بنسب فائدة مضاعفة، مقارنةً بقروض صندوق النقد، وقد أفاد النائب ورئيس لجنة المالية بالمجلس، عبد الجليل الهاني، بأن حوالي 30% فقط من هذه القروض جرى توجيهها نحو دعم الاستثمار، في حين يُستخدَم الباقي في دعم ميزانية الدولة والنفقات الجارية، ممّا أثار جدلاً واسعاً حول أولويات التمويل الوطني، ودفع بعض النواب إلى تسمية مجلسهم “الموقر” ببرلمان القروض، وحفّز النائب ثابت العالم للتصريح بأن نتائج الشعبوية ستكون كارثيةً، احتجاجاً على السياسات المتّبعة، وحضور النواب الشكلاني صلب مؤسّسات الدولة، من دون قدرة على التأثير في دوائر القرار.
إلى جانب تناقض سياسة السلطة مع خطابها الرسمي، وليس هذا الأمر استثناءً في سلوكها، فإن النسبة الكبرى من القروض تُستخدَم لتمويل عجز الموازنة الوطنية، وتغطية النفقات التشغيلية والالتزامات المالية المتراكمة، ما يساعد في سدّ فجوة الموارد، لكن على حساب حصص الاستثمار. تواجه تونس عدّة تحدّيات نتيجة هذا التمشّي، من أهمها زيادة عبء الدَين، فيؤدي ارتفاع حجم القروض إلى زيادة خدمة الدَين العام، ما يضع ضغوطاً على الميزانية العامّة، ويضطر الجهاز المالي لتخصيص نسبة كبيرة من المداخيل لسداد الفوائد والأقساط، بدلاً من الاستثمار في التنمية الاقتصادية، هذا التوجّه يؤثّر سالباً في النمو الاقتصادي، فعندما تُستخدَم القروض بشكل رئيس في تغطية النفقات الجارية والاستهلاك، بدلاً من تمويل مشروعات تنموية حقيقية، يفقد الاقتصاد فرصةَ تحسين إنتاجيتها، ويتسبّب في تباطؤ النمو وتقويض القدرة على خلق فرص عمل جديدة.
إن زيادة الاقتراض مع ارتفاع تكاليف خدمة الديون يؤدّي إلى ضغوط نقدية وتضخمية، ما يؤثّر سالباً أيضاً في الأسعار، ويقلّل من القدرة الشرائية للمواطنين. كما أن استخدام القروض بمزيج من النفقات الاستهلاكية والاستثمارية من دون آليات رقابية كافية، يزيد من خطر هدر الموارد وسوء استخدامها، وهو ما يُفاقم من معدّلات الفساد، ويقلّل من فعّالية الإنفاق العام.
عيّن الرئيس التونسي قيس سعيّد ستة رؤساء حكومة، منذ تولّيه الرئاسة في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2019، منهم أربعةٌ “وزراء أوّلون” عُيّنوا بعد انقلاب 25 يوليو (2021)، لم ينجحوا جميعهم في تقديم حلول لمشاكل التونسيين، وعُلّق فشلهم على شمّاعة المؤامرات الداخلية والخارجية، وتكتيك اللوبيات لتعطيل الإنتاج وخلق الثروة وزيادة الاحتكار، في محاولة للقفز على مسؤولية سياسات الدولة، وغياب نموذج اقتصادي فعّال وخطط تنموية مدروسة في ارتفاع نسبة البطالة وغلاء الأسعار وندرة عديد المواد الأساسية في الأسواق.
لقد أدّت عملية الاستحواذ على السلطة ومركزتها، وتراجع الشفافية في إدارة الأموال العامّة، واستهداف الهياكل الرقابية والتعديلية لسياسات الدولة، إلى التحوّل من إدارة الشأن العام ومصالح الناس، عبر سياسات عمومية، إلى هيمنة الفشل، ومن ثمّ إدارته، وتدوير للأزمة من دون ابتكار حلول، زد عليها إثقال النظام القائم كاهلَ الدولة والموازنة بتشكيل علاقات اقتصادية سياسية زبونية، ممتدّة في كلّ محافظة ومحلّية في تونس، تحت غطاء الشركات الأهلية، التي تمثّل أطراً لخلق الولاء للرئيس عِوَض خلق التنمية، بأموال دافعي الضرائب من الشعب التونسي ومقدرات وطنهم، تتمثّل في تسهيلات مضرفية، ووضع اليد على ثروات زراعية وحيوانيّة، وتوزيع لغنائم السلطة بين أهل السمع والطاعة، هذا إلى جانب إصدار قرار في الرائد الرسمي (أخيراً) يضبط قيمة المنحة المالية التي يتحصّل عليها كلّ من أعضاء المجالس المحلّية والجهوية والإقليمية، وهي مجالس تضمّ أنصار النظام ورئيسه، تحت مسمّى البناء القاعدي، في دولة تحكمها سلطة مركزية مطلقة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس