آمنة جبران
أفريقيا برس – تونس. أصدرت محكمة تونسية مؤخرًا أحكامًا بالسجن تراوحت بين 12 و35 عامًا بحق عدد من الشخصيات السياسية، من بينهم راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، وذلك في إطار ما يُعرف بـ”قضية التآمر على أمن الدولة”، وقد أثارت هذه الأحكام استنكارًا وتنديدًا من المعارضة والأوساط الحقوقية في البلاد.
واعتبر بشير السكرافي، الناشط السياسي المعارض، في حواره مع “أفريقيا برس”، أن “ما يحصل هو محاولة ممنهجة لتفكيك المعارضة وتجميد دورها، وإفراغ الساحة السياسية من أي صوت معارض مؤثر، من خلال تلفيق قضايا لا أساس لها من الجدية، وهو ما ينطبق على ما يسمى بقضية التآمر، التي تؤكد أننا أمام توظيف سياسي فاضح للعدالة”، وفق تعبيره.
ورأى أن “ما يحدث اليوم لا يُضعف المعارضة التونسية، بل العكس تمامًا، فالتأثير السلبي الحقيقي يرتدّ على نظام قيس سعيّد، لأن المعارضة، بكل أطيافها، تمتلك من الخبرة والاحترافية ما يتيح لها تحويل ممارسات التنكيل والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان إلى ملفات موثقة وأدوات ضغط فاعلة، على المستويين الوطني والدولي”.
وأشار إلى أن “تعدد مبادرات المعارضة في الفترة الأخيرة دليل على صحوة سياسية جدية، واستعداد متزايد للبحث عن حلول واقعية ومنطقية من أجل الخروج من الأزمة الراهنة وتصحيح المسار الديمقراطي، حيث ما زالت المعارضة مؤمنة بضرورة استعادة الديمقراطية رغم الضغوط والصعوبات”.
وفي تقديره، “لا يمكن الحديث عن حوار وطني أو استقرار سياسي حقيقي في ظل الوضع الراهن، حيث يسود خطاب الكراهية والتحريض ضد المعارضين، إذ يستوجب أي حوار جاد ومسؤول أولًا وقف الممارسات الاستبدادية، وضمان حرية التعبير، وحماية رموز المعارضة من محاولات الاستهداف السياسي والإعلامي”.
وبشير السكرافي هو مهندس وناشط سياسي، وعضو منسق في الائتلاف الوطني للمعارضة التونسية.
كناشط سياسي تونسي، ماهي قراءتك لأحكام قضية “التآمر 2″، التي استنكرتها المعارضة التونسية واعتبرتها مبنية على توظيف سياسي؟
أولاً، من الضروري التذكير بأن الحديث عن قضية عادلة أو عن حكم شرعي لا يمكن أن يتم في ظل غياب شروط المحاكمة العادلة، وهو ما نددت به بوضوح معظم المنظمات الوطنية والدولية، إلى جانب عدد من المحامين وحتى بعض القضاة. وعند التعمق في تفاصيل القضية والأشخاص المتهمين فيها، يتّضح أنهم لا تجمعهم أي صلة تنظيمية أو حتى معرفة شخصية. فعلى سبيل المثال، ما الذي يربط ريان الحمزاوي، رئيس بلدية الزهراء الشاب، بحركة النهضة؟ لا انتماء مشترك، ولا تقاطع سياسي، ورغم ذلك تم إدراجهم جميعًا ضمن نفس الملف وتوجيه نفس التهم لهم.
أما ما يُقدَّم كأدلة، فهي في الغالب مجرّد شهادات إثبات لا يمكن الركون إلى مصداقيتها، إلى جانب وثائق متناثرة ممنوع تداولها أو نشرها إعلاميًا، في حين يُسمح لإعلام السلطة بالترويج لروايته الرسمية. وفي جوهرها، هذه ‘الأدلة’ لا تتعدى كونها أوراقًا تحتوي على أفكار ومبادئ لعمل سياسي معارض، هدفه التغيير السلمي والديمقراطي، دون أن تتضمن أي تحريض على العنف أو نية للاغتيال. وعندما نضع هذه المعطيات في سياقها العام، ونقارن بين مضمون الحكم والتهم الموجهة، من جهة، وخطابات قيس سعيّد التحريضية، من جهة أخرى، يصبح من الواضح من أبجديات المنطق السياسي والقانوني أننا أمام توظيف سياسي فاضح للعدالة. ما يحصل هو محاولة ممنهجة لتفكيك المعارضة، وتجميد دورها، وإفراغ الساحة السياسية من أي صوت معارض مؤثر، من خلال تلفيق قضايا لا أساس لها من الجدية. وما ينطبق على هذه القضية ينطبق أيضًا على قضايا أخرى، مثل ما يسمى بـ’قضية التآمر على أمن الدولة 1’، التي تمثل بدورها مثالًا صارخًا آخر على هذا النهج القمعي في التعامل مع الخصوم السياسيين.
أي تأثير لهذه الأحكام على المعارضة التونسية، وكيف يمكن أن تسترجع أن حضورها ووزنها بالمشهد السياسي خاصة أنها باتت غير قادرة على تعبئة الشارع؟
ما يحدث اليوم لا يُضعف المعارضة التونسية، بل العكس تمامًا. فالتأثير السلبي الحقيقي يرتدّ على نظام قيس سعيّد، لأن المعارضة، بكل أطيافها، تمتلك من الخبرة والاحترافية ما يتيح لها تحويل ممارسات التنكيل والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان إلى ملفات موثقة وأدوات ضغط فاعلة، على المستويين الوطني والدولي. وزجّ قادة المعارضة في السجون لا يُفكّك بنيتها، بل يشكّل تحدّيًا يُسرّع من بروز قيادات الصف الثاني، ممن أثبتوا امتلاكهم للكفاءة والقدرة على الدفاع عن المعتقلين، وعن الدولة الوطنية، دولة القانون والمؤسسات، وعن ثوابتها وأهدافها. والمراقب للمشهد التونسي يدرك جيدًا حجم التحوّلات الجارية، والتشكّل المتسارع لنخب جديدة داخل هذا الصراع القائم.
تعددت المبادرات في الآونة الأخيرة بهدف توحيد المعارضة لكن مع ذلك لم تنجح في ذلك، برأيك كيف يمكن معالجة هذا الانقسام العميق داخل صفوف المعارضة التونسية؟
ما تزال المعارضة التونسية، بكل أطيافها، مؤمنة بحلم استعادة مسار الدولة الديمقراطية، رغم ما مرّ به من مخاض عسير وأخطاء جسيمة. هذا الإيمان ينبع من قناعة راسخة بضرورة بناء دولة يكون فيها المواطن في صلب القرار، قائمة على القانون، والمؤسسات، واحترام الحريات والحقوق الكونية.
وفي هذا الإطار، يظل المعارض لسياسات قيس سعيّد حاضراً في كل بيت تونسي، وصوته لا يزال قادراً على ملء الشوارع، متى توفرت دولة تحترم كرامته وتكفل له حق التعبير بحرية. غير أن الواقع الحالي، في ظل النظام المطلق الذي يقوده قيس سعيّد، لا يسمح بتجسيد هذا الحضور الشعبي في الفضاء العام. فالمراسيم الزجرية والتشريعات القمعية التي تُسنّ لمعاقبة المعارضين، جعلت الشوارع لا تعكس نبض الشعب كما كانت، لا لأن التونسيين تخلّوا عن مطالبهم، بل لأن أمنهم وسلامتهم باتا على المحك. وانطلاقًا من هذا الوضع، يصبح من الطبيعي أن تتراجع مظاهر المقاومة العلنية. وكما قلت وأكرر: في غياب دولة القانون، ووسط مناخ يُقمع فيه الرأي وتُخنق فيه الحريات، يصعب أن تظهر التحركات الشعبية بشكل علني وواسع.
ومع ذلك، فإن خطاب سعيّد التحريضي وقوانينه القمعية، رغم تأثيرها الترهيبي، لم تُخمد جذوة المعارضة، بل دفعتها إلى تطوير أدواتها، لتصبح أكثر وعياً وتنظيماً وفاعلية. ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى تعدد المبادرات داخل المعارضة التونسية كمؤشر إيجابي. فهو لا يعكس تشتّتاً كما يعتقد البعض، بل يدلّ على وجود صحوة سياسية جدية، واستعداد متزايد للبحث عن حلول واقعية ومنطقية، من أجل الخروج من الأزمة الراهنة وتصحيح المسار الديمقراطي. وهذا التعدد يُظهر تقديراً حقيقياً لتعقيدات المشهد السياسي، وحرصاً جماعياً على تحمّل المسؤولية الوطنية. صحيح أن أغلب تلك المبادرات لم تحقق النجاح المنشود، لكن هذا الفشل لم يكن نهاية الطريق. بل على العكس، وفّر فرصة ثمينة للمراجعة والتقييم، وللتفكير بعمق في الأخطاء التي وقعت فيها المعارضة. ومن خلال هذه القراءة النقدية، يمكن صياغة مبادرة جديدة، تكون أكثر نضجاً، وأوضح أهدافاً، وأقدر على إحداث التغيير المطلوب، بما يعيد الأمل في إنقاذ التجربة الديمقراطية في تونس.
ماهي مقترحات الائتلاف الوطني للمعارضة التونسية لحماية الحريات والخروج من حالة الانسداد السياسي؟
1- إنهاء المسار الفردي والانقلابي: المطالبة بإنهاء العمل بالدستور المعدّل في 2022: العودة إلى الشرعية الدستورية والمؤسسات الديمقراطية المنتخبة. رفض المسار الأحادي الذي أسّسه قيس سعيّد بالمراسيم الاستثنائية.
2- إطلاق سراح المعتقلين السياسيين: اعتبار ملف المسجونين السياسيين ومعتقلي الرأي أولوية وطنية. المطالبة بمحاكمات عادلة، وإلغاء التتبعات القضائية القائمة على آراء وتعبيرات سلمية.
3- الدعوة إلى حوار وطني شامل: تنظيم حوار واسع يضم كل القوى المدنية والسياسية بدون إقصاء. إشراف محايد (قد يكون دوليًا أو من داخل المجتمع المدني التونسي) لضمان نزاهة الحوار.
4- العودة إلى مسار انتخابي ديمقراطي حقيقي: تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، بضمانات قانونية ورقابية شفافة. إصلاح هيئة الانتخابات لتكون مستقلة فعلًا. 5.
5- حماية حرية التعبير والإعلام: إلغاء المراسيم القمعية مثل المرسوم 54. وقف التضييق على الصحفيين والمدوّنين ونشطاء الرأي.
6- بناء جبهة مدنية موحدة: توسيع التنسيق بين الأحزاب، والنقابات، والمجتمع المدني، والجاليات التونسية في الخارج.
لذلك، فإن نجاح هذه المقترحات لا يتوقف فقط على وجاهتها من حيث المضمون، بل يتطلب شروطاً عملية لتحقيقها على أرض الواقع، وفي مقدّمتها: خلق ضغط شعبي موحّد ومنظّم، يُعبّر عن رفض جماهيري واضح لمسار الانغلاق والاستبداد. تأمين دعم دولي حقوقي وسياسي، يُواكب تحركات الداخل ويُشكّل رافعة لحماية الحريات والديمقراطية في تونس. وتطوير أدوات المعارضة، لتكون أكثر جماهيرية، وأكثر قرباً من المواطن التونسي البسيط، حتى تستعيد ثقة الشارع وتُترجم ذلك إلى قوة فعلية. وهو ما نعمل من أجله ونسعى إليه بكل وعي وإصرار، إيماناً منا بأن التغيير الحقيقي لا يُفرض من فوق، بل يُصنع من عمق الشارع، وعبر تراكم الفعل السياسي الواعي والمنظم.
هل تعتقد أن الحاجة إلى حوار وطني شامل تزداد أكثر لتخفيف حالة الاحتقان والوصول إلى تهدئة واستقرار سياسي وللالتفات أكثر لمشاغل الشارع؟
لا يمكن الحديث عن حوار وطني أو استقرار سياسي حقيقي في ظل الوضع الراهن، حيث يسود خطاب الكراهية والتحريض ضد المعارضين، وتُرتكب انتهاكات جسيمة بحق قيادات بارزة وفاعلة في صفوف المعارضة، من قبل نظام الحكم نفسه. فالحوار لا يُبنى على التخويف، ولا يُدار تحت التهديد. وهو لا يمكن أن يكون مجرّد واجهة شكلية في مناخ يسوده القمع والتضييق وتوظيف القضاء لتصفية الخصوم. التمهيد لأي حوار جاد ومسؤول يستوجب أولاً وقف الممارسات الاستبدادية، وضمان حرية التعبير، وحماية رموز المعارضة من الاستهداف السياسي والإعلامي، بما يخلق مناخاً آمناً وثقة متبادلة، لا وهمية.
هل تعكس الدعوات الأوروبية لفرض عقوبات على الرئيس التونسي فيما يخص ملف الحريات، تخوفًا حقيقيًا من تدهور الوضع الحقوقي في تونس، أم أنها تُستخدم كأداة ضغط على النظام في تونس؟
في هذا السياق، يجب أن نأخذ في الاعتبار كيف أن الاتحاد الأوروبي يتعامل مع الوضع في تونس، باعتباره شريكًا وجارًا يهتم بأمن واستقرار المنطقة. منذ البداية، عبر الاتحاد الأوروبي عن رفضه لسياسات انتهاك حقوق الإنسان والحريات في تونس، من خلال ممثليه في تونس، وكذلك عبرت ممثلة الشؤون الخارجية المسؤولة عن منطقة شمال إفريقيا، كيا كلاش، حيث كانت هناك مراسلات تثبت هذا الموقف. لكن من المعروف أن طبيعة عمل الاتحاد الأوروبي تتبع منهجًا تدريجيًا. يبدأ بالتنديد، ثم الانتقال إلى الرفض، وأخيرًا فرض العقوبات. هذا النهج يتبعه الاتحاد الأوروبي والدول الديمقراطية الأخرى في محاولاتها لمعالجة الأزمة دون تكبد خسائر كبيرة. وفرض العقوبات يُعتبر جزءًا من هذه الإستراتيجية، كإجراء للضغط على الحكومة التونسية لتحقيق التغيير.
هل سينجح البرلمان التونسي في تعديل المرسوم 54 المثير الجدل استجابة للضغوط المعارضة والأوساط الحقوقية؟
المشكلة الأساسية لا تكمن فقط في تنقيح المرسوم 54 سيئ الذكر، بل في آليات تطبيقه وأساليب اعتماده. فالإشكال الجوهري في تونس يتمثل في تطويع السلطة القضائية لخدمة السلطة التنفيذية. ومن هذا المنطلق، فإن أي شكل من أشكال التنقيح لن يُجدي نفعًا، لأن الحكم الفردي هو الغالب، وهو الذي يحتكر التأويل القانوني ويوظفه بما يخدم مصالحه ويعزز طموحاته السلطوية. فالمرسوم 54، في حد ذاته، لو وُجدت آليات تطبيق ديمقراطية وقضاء مستقل، لكان من الممكن أن يؤدي دورًا مشروعًا في حماية الفضاء الرقمي من الجريمة السيبرانية. لكن في ظل سلطة تنفيذية تستأثر بالتأويل، وسلطة قضائية مقيّدة وتابعة، يتحول هذا المرسوم إلى أداة للقمع وتكميم الأفواه، بدلًا من أن يكون أداة لحماية الحقوق والأمن الرقمي.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس