أفريقيا برس – تونس. شكل مرور سنتان على انطلاق تدابير 25 جويلية الاستثنائية التي شملت تجميد عمل البرلمان وإقرار دستور جديد للبلاد، فضلا عن إجراءات أخرى، فرصة لتقييم المشهد التونسي في ظل خطوة سياسية “جريئة “قادت لتغيير نظام الحكم من شبه برلماني إلى رئاسي والدخول بذلك نحو مرحلة سياسية جديدة تحت مسمى” الجمهورية الثالثة”.
وتتباين آراء السياسيين والمحللين منذ أن نجح الرئيس قيس سعيد في قلب الطاولة على خصومه من الأحزاب والمنظمات واستفراده بالحكم موظفا فشل نخبة ما قبل 25 جويلية في إدارة أوضاع البلاد بعد عجزهم عن الوفاء بوعود ثورة يناير 2011 وتحقيق المطالب الاجتماعية للتونسيين المتمثلة في توفير الشغل والكرامة والتنمية العادلة بين الجهات.
ورغم اختلاف وجهات النظر بين مؤيد ورافض لمسار 25 جويلية، إلا أنه هناك إجماع بأن حالة عدم اليقين السياسي الذي يتسم به المشهد في ظل عدم استكمال المسار لمشروعه وتطبيق أهدافه يضع مستقبل البلاد على شفا المجهول، كما يدفع الاقتصاد المترنح والذي يعيش أسوأ أزمة مالية في تاريخه، ثمن حالة عدم الاستقرار والتوتر السياسي السائد.
لحظة تاريخية
ساد الانقسام تونس منذ تطبيق الرئيس سعيد لهذه الإجراءات حيث وصفتها المعارضة بـ”الانقلاب”على الشرعية والدستور وتعدي على الديمقراطية وما حققته البلد من مكاسب في مجال الحريات، في حينها يرى المؤيدون لهذا المسار أنه بمثابة لحظة تاريخية فارقة قاد إلى إنقاذ التونسيين من براثن أزمة أشد وأعمق بسبب استشراء الفساد لدى الطبقة الحاكمة السابقة في ظل التهاء الأحزاب بمعارك السلطة والنفوذ على حساب مشاغل الشارع.
ويشير المحلل السياسي باسل ترجمان في حديثه لـ”أفريقيا برس” أنه “مما لا شك فيه أن اللحظة التاريخية التي تجسدت يوم 25 جويلية 2021 كانت علامة فارقة في الوضع الذي شهدته تونس، وكانت عبارة عن نهاية مرحلة مازال الشعب التونسي يذكر كل مساوئها وكل ما جرى فيها من عبث دفع ثمنه غاليا ومازال يدفع ثمن هذا العبث الذي ابتليت به تونس في العشرية الأخيرة. ”
ويتابع” بعد سنتين من إعلان الرئيس سعيد من إجراءات 25 جويلية كانت هنالك جملة من القضايا تحققت والتي لم تتحقق حيث هناك الكثير من البطء الذي يعاب على منظومة 25 جويلية لعدم السير بها وتنفيذها لكن هذا طرح بدوره واجه جملة من التحديات”.
وحسب ترجمان يتمثل التحدي الأول في “مواجهة المنظومة السابقة وكيف نجحت تونس في أن تقوم بتفكيك منظومة الفساد التي عبثت بالبلاد.”
أما القضية الثانية “كانت العلاقات مع المجتمع الدولي وكيف كانت هناك مقاربة جديدة فرضت نفسها في العلاقة مع الدول الأوروبية حيث كان هناك احترام وتقدير كبيرين وتعاون واستيعاب لما جرى لتونس بعد 25 جويلة، وبالنسبة للقضية الثالثة هي أن تونس تواجه تحديات كبرى اقتصادية واجتماعية حقيقية”، حسب تقديره.
واستنتج ترجمان أن “هذه التحديات تلقي بضلالها على الأوضاع الداخلية، لكن من المؤكد أن هناك قوى من داخل المنظومة التي تغلغلت في منظومة الحكم تحاول تعطيل ما تشهده تونس من محاولات لكسر هذا الحصار ومساعيها تغيير الأوضاع إلى الأفضل.”
وعلى غرار الأوضاع الاقتصادية التي يحذر الخبراء من تداعياتها الاجتماعية في حال لم تجد السلطة القائمة الحلول خاصة لنقص المواد الأساسية وغلاء المعيشة وانهيار القدرة الشرائية في آجال قريبة، تتجه الأنظار إلى الدبلوماسية التونسية على ضوء أداءها للملفات الخارجية الحارقة منها أزمة الهجرة غير الشرعية، وعلاقات البلد مع حلفاءها التقليديين وما إذا كان قرار توجهها نحو شركاء جدد صائبا أم لا.
وبين أحمد ونيس وزير الخارجية الأسبق في حديثه لـ”أفريقيا برس” أن “الدبلوماسية تعاني لأنها مرآة لقضايا المجتمع التونسي والمجتمع يعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية وإلى حد ما سياسية لأن الطبقة السياسية لم تتجاوب مع متطلبات الساحة بحيث السياسة الخارجية مرآة لهذه الأزمات”.
مستدركا بالقول “لكن في قدر المستطاع تسعى الدبلوماسية التونسية إلى حشد الصداقات والتعاون الدولي وهي إلى حد ما نجحت في سد الفراغ حيث تجتهد بشيء من المصداقية لكن هذا لا يمنع أنها تعاني لما يعانيه المجتمع من أزمات..هذا هو الواقع التونسي اليوم”.
وأبدى طيف سياسي وشعبي واسع منذ إعلان الرئاسة لتدابير استثنائية يوم 25 جويلية 2021 تأييده لها حيث علقت آمالهم على هذه الفرصة لتجاوز حصيلة الفشل السياسي والاقتصادي إبان العشرية الأخيرة، فيما يؤكد الرئيس سعيد أنه “لا عودة إلى الوراء وأن إجراءاته الاستثنائية “ضرورية وقانونية” لإنقاذ الدولة “من انهيار شامل”.
وأكد مرارا أنه “يتعقب كل من يتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، وأنه لن يتسامح مع كل من ينهب قوت التونسيين، ويختلق الأزمات في البلاد، ويحاول إسقاط الدولة”.
لكن للمعارضة التونسية رأي آخر، حيث ترى أن الرئيس سعيد لم يحسن اقتناص فرصة 25 جويلية وبدل تحسين الأوضاع قادت سياساته إلى مزيد من التأزم، كما عمل على استغلال أوضاع البلاد المتردية لتحقيق مشروعه السياسي، حيث انتهج حكما فرديا تعمد فيه إقصاء وتهميش دور الأحزاب والمنظمات الوطنية الوسيطة مستفيدا من نفور الشارع من نخبه ومن الشأن العام عموما.
مسار فردي وغامض
يعد استحواذ سعيد على الصلاحيات وفق ما ينصه الدستور الجديد وتقليصه لصلاحيات البرلمان من أبرز المآخذ على هذا المسار، كما أن هذا المسار لم ينجح بعد في استكمال مؤسساته الدستورية ومازالا غامضا من حيث توجهاته وخططه المستقبلية لكيفية تسيير شؤون البلاد أمام غلق الرئاسة لباب الحوار مع بقية الأطراف الأخرى الفاعلة في الساحة وفتور العلاقة مع المنظمات الوازنة وعلى رأسها الاتحاد الوطني للشغل حيث نجح في تقليص نفوذه وثقله وهو ما عكسه تراجع الاحتجاجات النقابية وتراجع الاصطفاف الشعبي حولها، حسب محللين.
ويلفت المحلل السياسي منذر ثابت في حديثه لـ”أفريقيا برس” أن “تونس في مسار جديد في سردية الجمهورية الثالثة بعد الإجراءات الاستثنائية المعلنة منذ 25 جويلية 2021 مطبوعة بدخول دستور جديد حيز التنفيذ وانتخابات أفرزت برلمان جديد، هذه الجمهورية الثالثة لم ترسي بعد كل مؤسساتها”.
ويضيف “السمة الغالبة على هذا النظام تركيزه حول وظيفة رئيس الجمهورية، ويمكن فهم هذا التمشي أو هذه الهندسة السياسية كردة فعل على الجمهورية الثانية المطبوعة بهيمنة الأحزاب وتشتت سلطة التنفيذية، لكن هذا النظام يتجه بصفة معاكسة إلى إضعاف مختلف كل الوظائف داخله مقابل تمركز السلطات لدى رئيس الجمهورية”.
ويلاحظ ثابت أن “المشهد يتسم بتهميش الأحزاب، كما أن كل التكتلات والتنظيمات فقدت الفاعلية مقابل غياب تنظيم سياسي يمثل رئيس الجمهورية تنظيم في المعنى الحزبي أو الجبهوي أو المجالسي.. هذا غائب بما يفسح المجال للتأويلات وحالة من الانتظار بالنسبة للإعلام والمتابعين لفهم وتفسير خطاب السلطة وتوجهاتها وخططها”.
ورأى ثابت أنه “على الصعيد الاجتماعي اتسم الوضع بتراجع الاحتجاجات النقابية خاصة والاجتماعية بصفة عامة، حيث تراجعت حدة المعارضة الاجتماعية بصفة ملحوظة، وهذا التراجع يفهم بمعنى أنه ثمة حالة من الانتظار وترقب لما ستقود إليه السياسات الرسمية الجديدة بعد 25 جويلية. لكن أيضا يمكن أن يفهم هذا التراجع في سياق اصطفاف أو خروج الاتحاد من التحالف التقليدي مع المعارضة الديمقراطية العلمانية تحديدا.”
وتنتقد المعارضة التونسية باختلاف عائلاتها الفكرية احتكار الرئيس سعيد للسلطات وتوظيفه القضاء لاستهداف خصومه السياسيين بعد حملة إيقافات واسعة شملت قيادات بارزة بينهم زعيم حزب النهضة والرئيس السابق للبرلمان راشد الغنوشي.
كما تستنكر المعارضة تضييقات السلطة المستمرة على ملف الحريات وسياسة القمع التي تنتهجها مستندة في ذلك إلى المرسوم 54 المثير للجدل والذي يترصد بالحريات حسب منتقديه، الأمر الذي يهدد أبرز مكاسب الثورة التي كافحت لأجلها الطبقة السياسية والمتمثلة في ضمان حرية التعبير والاحتجاج.
وأعرب زبير الشهودي عضو المكتب السياسي لحزب العمل والانجاز في حديثه لـ”أفريقيا برس” أثناء تقييمه للمشهد التونسي بعد سنتان من انطلاق إجراءات 25 جويلية بالقول “كل ما نقوله: ما أسرع الهدم وأصعب البناء، فعلا استطاع قيس سعيد هدم جزء لا بأس به من المنجز السياسي خلال عشرة سنوات من الانتقال الديمقراطي على علات السنوات العشرة”.
وأردف “لكن يبقى المنجز على مستوى الحريات وعلى مستوى الدستور وعلى مستوى الانتظام السياسي أمر لا يختلف فيه اثنان حيث استطاع قيس سعيد هدم كل المؤسسات التي كانت تشكل ضمانة لهذا الانتقال الديمقراطي، والذي كان يبذل جهدا حتى يتغير ويتحسن يكفي أن نذكر هدم المؤسسة القضائية وهدم استقلالية القضاء وتحويله إلى وظيفة كما نصص هو في دستوره على ذلك”.
وزاد بالقول “يكفي أن نرى حالات المس من الحريات ومحاكمة الصحفيين والسياسيين والمعارضين عامة كل هؤلاء حُكموا، كما هناك مسجونين بتهم كلها تمس حرية التعبير وحقهم في التنظم والفعل السياسي”.
وفي تقييمه لمستوى العلاقات الخارجية، يعتقد الشهودي أنه ” تقريبا تغيرت ولم يعد بوسعنا تمييز حلفائنا من منافسينا آو خصومنا وخلاصته في النهاية اتفاق مشبوه بين تونس والإتحاد الأوروبي يحمل في طياته الكثير من الشكوك حول استقلالية السيادة الوطنية ”
أما “بالنسبة للتنمية والاقتصاد وكل الوعود الواهية بجلب الأموال ليست إلا في أذهان صانعي انقلاب 25 جويلية، وهذه المنهجية من قبلهم أدت إلى هذا الانسداد.. للأسف دمرنا الجمهورية وللأسف لم نستطيع أن نبني جمهورية أخرى كما أوهمنا بذلك سعيد”.
وخلص بالقول “الأمل مازال معقودا في أن تظل المعارضة تكابد على خياراتها وتصارع أمام هذه الانتكاسة التي تعيشها البلاد، ونأمل أن تكون السنة القادمة أفضل سياسيا مقارنة بهذه السنة خاصة إذا كان فيها الرهان الانتخابي وهي أحد الفرص التي يجب على المعارضة الاشتغال عليها لإرساء عملية ديمقراطية رغم المعوقات الكثيرة من خلال توسيع دائرة التحالفات وهو ما سيحدث في الفترة القادمة.”
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس