ناصر جابي
أفريقيا برس – تونس. أخافتني كثيرا تلك السهرة الانتخابية التي نظمتها القناة الأولى للتلفزيون التونسي، بمناسبة الاستفتاء على الدستور الجديد، بنوعية ضيوفها، التي يغلب عليهم اللون السياسي الواحد، لدرجة أنني تخيلت نفسي أمام التلفزيون الجزائري، وليس التلفزيون التونسي، الذي عاش انفتاحا فعليا في بعض المحطات، منذ التغيير الذي عاشته تونس في 2011، فقد صعقت وأنا أشاهد كيف كان الضيوف يبررون الغلق السياسي، ليس في تونس فقط، بل في كل بلدان العالم، وهم يستشهدون بالتجربة الصينية التي نجحت اقتصاديا، رغم الغلق السياسي، واختها الروسية، الذي برره الضيف المشرقي، اعتمادا على المعرفة التي يدعيها بالعالم، هو الصحافي الكبير، وهو يطمئن المشاهد التونسي أن الخير آتٍ، وأن بعد العسر السياسي، سيكون هناك أكيدا يسر اقتصادي، كما حصل عند الرفاق الصينيين والروس من قبل.
سهرة انتخابية، قدمت مؤشرات، عما يمكن أن ينتظر التونسيين من غلق سياسي وإعلامي، وربما تضييق أكبر على الحريات، بعد الاستفتاء على دستورهم الجديد الذي لم تكن طريقة هندسته موفقة، ولا توافقيه، فقد غاب الحوار السياسي المنتظر بين التوانسة، في قطيعة تامة مع تجربتهم في الحوار وتعدد الآراء التي كان ينتظر أن تكون حاضرة وهم مقبلون على تغيير دستورهم القديم، الذي دام الحوار حوله سنوات، شاركت فيه قوى سياسية عديدة من داخل وخارج المؤسسات، على الرغم من أنه لم يوفق في إنتاج مؤسسات سياسية صلبة وشرعية تساعد تونس في الانتقال إلى بر الأمان.
دستور 2014 الذي نقل تونس نحو نظام برلماني غير فعال، تدهورت صورته مع الوقت في عيون التوانسة – وهم يعيشون وضعا اقتصاديا أكثر من صعب – لم تساعد النخب السياسية والحزبية التي كانت وراء التجربة في إنجاحه ومنحه مصادر الفاعلية والشرعية، وتونس تحاول القطيعة مع نظام رئاسي مفرط، تحول إلى نظام الفرد الواحد، أخذ شكلا بوليسيا واضحا مع بن علي، نخب لم تراع الثقافة السياسية الشعبية التي ما زالت، رغم – تجربة بن علي سيئة الذكر ـ تراهن على الفرد أكثر من المؤسسة، كان يجب مراعاتها مؤقتا على الأقل، وعدم القطيعة معها بهذا الشكل الحاد الذي اقترحه دستور 2014. ناهيك من الأخطاء التي كانت وراءها النخبة البرلمانية الفاقدة للتجربة، ما أدى بها إلى السقوط في ابتذال كبير للعمل البرلماني، الذي طغت عليه الصراعات الأيديولوجية، زاد في منسوبه، ترشح الشيخ الغنوشي لرئاسة البرلمان، الذي لم يكن ضروريا ولا مطلوبا خلال تلك الفترة القلقة من حياة تونس السياسية، وكان يمكن أن يقلص كثيرا من الاستقطابات ذات المنحى الأيديولوجي، التي عاشها البرلمان التونسي، في حال بقاء الشيخ بعيدا عن قبة البرلمان، لأداء أدوار أخرى داخل مؤسسات حركة النهضة، تكون في متناوله وهو في هذا السن المتقدمة، لصالح تقديم وجوه سياسية جديدة أفرزتها حركة النهضة، التي ما زالت تتمتع بعمق شعبي أكيد. رجل سياسي آخر يمكن أن يتسبب لتونس في الكثير من العثرات ويتعلق الأمر بالرئيس قيس سعيد، الذي حصل بموجب الدستور الجديد على صلاحيات لم يكن يملكها رؤساء تونس الذين وصلوا إلى قصر قرطاج قبله، كالمرزوقي الذي كان حسب دستور 2014، من دون صلاحيات فعلية، هو الذي تم التعامل معه برفض واضح، من قبل الدولة العميقة، التي استمرت نخب النظام القديم في السيطرة عليها، بكل قيمها الاجتماعية وأصولها الجغرافية، بعداوة تجاوزت في الكثير من الأحيان المستوى السياسي إلى مستويات أخرى تكاد تكون ذاتية في أكثر من محطة، رغم الماضي النضالي للرجل في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات، لغاية عودة النخب القديمة ممثلة في شخص الرئيس السبسي، الذي تمكن من امتصاص الكثير من الهزات السياسية والضغوط، كما لم يفعل المرزوقي، رغم نزعته القوية في إعادة إنتاج النظام التونسي القديم، التي برزت بشكل واضح وهو يستدعي البعد العائلي للحكم في قرطاج، كما ساد تونسيا في الكثير من الفترات، ليتم خلال فترة ما بعد 2011 تكريس تحالف تاريخي مع بعض القوى التي أفرزها التغيير، مثّلها كعنوان سياسي كبير التيار الإخواني وبعض القوى السياسية الهامشية التي أرادت اقتناص فرصة التغيير لصالحها كشُلل محدودة العدد، نحو تقسيم الكعكة مع الفئات الحاكمة تقليديا في تونس، بعيدا عن عيون المواطن التونسي، عبر الكثير من الاستراتيجيات، التي اعتمدت على البعد الجهوي والعائلي والمؤسساتي، بعد أن تمكنت هذه القوى من الولوج داخل المؤسسات، مستغلة حالة الاضطراب التي عاشتها تونس، في وقت كانت تونس تستأهل إنجاز تحالف شعبي مع قوى الثورة الفعلية، التي وجدت نفسها خارج اللعبة، كما عبرت عنه حالة الكثير من القوى الشعبية – بما فيها الفئات الوسطى – والجهات المحرومة تقليديا التي لم تعرف وضعيتها تحسنا، في الوقت الذي طفى فيه على السطح أثرياء جدد من حديثي النعمة، بين هذه الفئات الحاكمة الجديدة، رغم أصولها الشعبية في بعض الحالات، عبروا عن أشكال متنوعة من الفساد الذي استشرى، في وقت كانت تستأهل تونس أن تتم محاربته بلا هوادة، كإحدى نقاط التحالف السياسي الشعبي، الذي كان يجب أن تبنى عليه تونس ما بعد 2011، وهو ما استغله قيس سعيد، الذي بنى كل شعبيته كرجل سياسي على نظافة يده ورفضه للفساد ومحاربته للنخب السياسية وأجهزتها الحزبية، يمكن أن يوصل تونس إلى نظام حكم شعبوي يعود بالبلد إلى حكم الفرد، تستأهل تونس أحسن منه بكل تأكيد، ليفضل الرجل التركيز على العلاقة المباشرة مع «الشعب» عبر لغة عربية مستوردة، من قرون بعيدة، تفضح أصوله المهنية كأستاذ جامعي، وصل إلى قرطاج لتصفية الكثير من الحسابات التي راكمها طول مساره المهني والسياسي المحتشم، في حين كان المطلوب منه بدل ذلك الانطلاق في بناء مؤسسات، تبقى تونس وتجربتها الديمقراطية الفتية في حاجة أكيدة لها، كان على رأسها مشروع الدستور المجهض، اعتمادا على الشعبية الأكيدة التي ما زال يتمتع بها قيس سعيد لحد الساعة، على الرغم من الهفوات الكثيرة التي يرتكبها يوميا كانعكاس لقلة تجربته وقناعاته السياسية، التي ما زالت غير واضحة المعالم ومبهمة، إذا استثنينا بعض ملامح الشعبوية المفرطة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس