إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. ينهي أكثر من عشرة آلاف تونسي إجراءات سفرهم إلى البقاع المقدسة شهر جوان – حزيران المقبل وسط جدل وانتقاد كبيرين للتكلفة المرتفعة للحج هذه السنة، وقد وصل الأمر إلى حد إطلاق دعوات لإلغاء موسم 1444 هـ /2023 م، نظرا للوضع الاقتصادي للبلاد.
بلغت تكلفة الحج هذه السنة بالنسبة للحجيج الذين يسافرون ضمن البعثة التابعة لوزارة الشؤون الدينية 19400 ألف دينار (حوالي 7 آلاف دولار). تشمل هذه التسعيرة الإقامة والخدمات وتذكرة السفر، دون احتساب المصروف الخاص، مسجلة ارتفاعا بحوالي 3 آلاف دينار تونسي (970 دولار) مقارنة بالموسم الماضي.
وتبلغ التسعيرة الضعف بالنسبة للحجيج ضمن ما يعرف في تونس بـ”الحج السياحي”، وهم حجيج لم تدرج أسماءهم ضمن القائمة التي تصدرها وزارة الشؤون الدينية كل سنة يسافرون إلى البقاع المقدسة عبر وكالة أسفار خاصة.
وحدّدت حصّة تونس من الحجيج لموسم 1444هـ/2023م بـ 10982 حاجا. ورغم أن الزيادة في تكلفة الحج أمر طبيعي ويحدث كل سنة، وبمعدّل لا يتجاوز ألفي دينار (646 دولار) كل سنة، وقد دفع الوضع الاقتصادي للبلاد والظروف المعيشية الضاغطة بعضا من الحجيج ألغى مشاركته بسبب التكلفة.
وكان ذلك سببا في إثارة جدل تجاوز هذا الإطار الخاص إلى قضية أكبر خاصة بعد أن دعت النقابة الوطنية للإطارات الدينية في تونس إلى “إلغاء المشاركة في موسم الحج هذه السنة” وطالبت مفتي الديار التونسية بإجازة “إعلان تأجيل موسم الحج إلى حين تحسن وضعية الاقتصاد التونسي”.
الدولة أولى بأموال الحج
قال فاضل عاشور رئيس النقابة (هيئة مستقلة) في تصريحات إذاعية إن “الظرفية الاقتصادية والاجتماعية وواقع المالية العمومية تفترض على الدولة توظيف أموال الحج لصالح البلاد”.
وأضاف أن “المالية العمومية تشكو انحسارا في العملة الصعبة، وبالتالي، لا بد من حسن توجيه الأموال التي ستُنفق في الحج”، وقال إنّ “الالتزام بالفرض الديني شعيرة من أعظم الشعائر الدينية، لكن يجب أن يقابل ذلك فهم لوضعية البلاد… الأولى هو توجيه هذه الأموال كصدقات أو للدولة ويكون الأجر حاصلا”.
رغم أنها مرتفعة نسبيا، لكن تبدو التكلفة منطقية مقارنة بتراجع الدينار التونسي مقابل الدولار وارتفاع الأسعار في المملكة العربية السعودية، وهذا ما أكد عليه نائب رئيس الجامعة التونسية لوكالات الأسفار والسياحة سامي بن سعيدان، لافتا إلى أن “تسعيرة الحج لهذا العام ليست باهظة تماما بالنظر إلى إجمالي تكلفة الحج في السعودية التي ارتفعت خلال السنوات الأخيرة”.
وكان هذا الجدل محور أخذ ووردّ على صفحات التواصل الاجتماعي، خاصة فايسبوك، وتجاوز الشارع العادي ليكون محل نقاش بين مثقفين تونسيين من ذلك تصريحات الفنانة المسرحية ليلى طوبال، التي ردت في تدوينة على الداعين إلى مقاطعة الحج معتبرة أن زيارة بيت الله حرام هي حلم للكثيرين خاصة من كبار السن الذين يقضون سنوات في جمع الأموال وانتظار أن يظهر اسمهم في قائمة ضيوف الرحمان.
وأضافت طوبال في تدوينتها التي كتبتها باللهجة التونسية الدارجة: “إلي ماشين (الذاهبون) للحجّ أعطيتوهم فلوسكم باش يحجّوا (حتى يحجّوا)؟؟؟ هل طلبوا منكم سلفة، قرض، إعانة مثلا، هبة؟ استنفعوا مالمال العمومي وفرغوا خزينة الدولة؟؟؟”.
في ذات السياق، قالت الباحثة ألفة إن “الظروف تغيرت والأسعار معقولة مقارنة بالتغيرات الاقتصادية، وإن كانت تكلفة الحجّ في تونس الأعلى في البلدان المغاربيّة”. واعتبرت ألفة يوسف في تصريح لأفريقيا برس أن “الحج، مهما كانت تكلفته، حرية شخصية وكل شخص له حرية صرف أمواله بالطريقة التي يراها مناسبة”، لافتة على أن الحديث عن تأجيل الحج وغلاء التكلفة “أغنية” تتردد كل سنة.
في المقابل، كتب الباحث التونسي أنس الشابي مقالا، في صحيفة الشارع المغاربي، عنوانه بـ”أدعو الدولة إلى تأجيل فريضة الحج هذا العام رعاية لله في هذا الوطن”، جاء فيه … “أن الاستطاعة التي اشترطها القدامى وتسمّى استطاعة بالنفس لم تعد كافية اليوم لوجود متدخّل آخر هو الدولة لتصبح الاستطاعة استطاعة بالغير وهو ما يجعل من شرط الوجوب شرطا غير متحقّق إلا بموافقة الدولة التي عليها أن تقدّر المنافع والمخاطر وما قد ينتج عن صرف الأموال والجهد لتحدّد على ضوء ذلك السماح بأداء الفريضة وضمن أي حدود عدديّا وماليّا أو المنع المؤقّت بما يحفظ للدولة توازناتها المالية ولا يهدّدها بالانخرام لأنها مكلّفة وفق العرف والقانون بالحفاظ على سلامة الأمّة والتصرّف الحكيم في ثرواتها…”.
وأوضح الشابي موقفه في تصريح لأفريقيا برس قائلا: “العبادة علاقة خاصة بين الإنسان وربّه لكن إذا انتقلت هذه العلاقة إلى الشأن الخاص وجب أن نتدخل وإلا سادت الفوضى”.
وأوضح: “لما طلبنا بإلغاء الحج هذا العام لم نتدخل في الشعيرة نفسها بإبدال أو تغيير أو إلغاء أحد أركانها بل تناولنا ما له علاقة بالشأن العام وما له تأثير على الموازنات الماليّة للدولة التي تخصنا جميعا كمواطنين وليس مسلمين فقط “.
سبيل مكلف ولكن…
رغم ما أورده أنس الشابي من تأكيدات مبنية على تصريحات مختصين وشيوخ، إلا أن رأي أغلب الشارع التونسي يميل إلى الرأيين السابقين وهذا ما عكسته ووجوه المئات ممن كانوا واقفين في طوابير أمام جامع مالك بن أنس بضاحية قرطاج قادمين من مدن وجهات مختلفة من تونس ليكملوا إجراءات حجّهم بالشباك الموحد المخصص لخدمة التسجيل للحج.
وتقول السيدة رفيقة، التي تبلغ العقد السادس من عمرها، “لسنوات طويلة كنت أنتظر هذه اللحظة، منذ أكثر من عشر سنوات كل سنة أسجل اسمي وأنتظر حتى يحين دوري، وكنت خلالها أجمع ثمن “حجتي”، صحيح المبلغ كبير هذه السنة وتجاوز توقعاتي والمبلغ الذي ادخرته لكن لن أفوّت هذه الفرصة مهما كلفّت”.
يذهب السيد محمد، الذي سيسافر إلى البقاع المقدسة رفقة زوجته. ويلفت محمد في تصريح لـ أفريقيا برس إلى أن “الحج مكلف لفرد واحد فما بالك عندما يكون زوج وزوجته، لكن مع ذلك ليس أمامنا من حلّ خاصة وأن التكلفة ترتفع كل سنة من جهة، ومن جهة أخرى من يضمن لنا أن الحظ سيحالفنا ويرد اسمينا في القائمة السنة القادمة”.
وفي ردها على هذا الجدل تلفت المكلفة بالإعلام في وزارة الشؤون الدينية إلى أن مساعي إفشال موسم الحج الغاية منها استهداف وزير الشؤون الدينية بشكل شخصي لافتة في تصريح لأفريقيا برس إلى أن “وزارة الشؤون الدينية هي جهة تسيير ومتابعة ولا تقبض مليما واحدا من التسعيرة…لكن هناك من يستكثر على التونسيين الحج بحُر مالهم..”.
وتواصل موقع أفريقيا برس مع الجمعية التونسية للتفكير الإسلامي والشؤون الدينية لبيان أمرها في هذا الجدل، فكان ردها: “نعم، اطلعنا على تصريح كاتب عام نقابة الأئمة وكتبنا ردا عليه نشرناه قبل أيام في صفحة الجمعية وهذه نسخة منه مع العلم أننا لم نوجه منها أي نسخة إلى وسائل الإعلام عدا وسائل الاتصال الاجتماعي”.
وأشارت الجمعية في بيانها الذي عنوته بـ”كلمة باطل يراد بها الباطل!”: كلما كانت بلادنا في أزمة مالية، حقيقية أو متوهمة، إلا وارتفعت الأصوات من بعض الأطراف ذات التوجه الفكري المعلوم إلى إلغاء الحج، حفاظا على العملة الصعبة. ونحن مستعدون لتأييدها بشرط إلغاء كل أصناف السياحة الخارجية باستثناء تلك التي تتعلق بالتزامات الدولة على كل الأصعدة أو الدراسة أو التداوي أو الأنشطة الاقتصادية أو التجارية. لكن أن يكون الحج وحده كبش الفداء فهذا ما لا نقبل به”.
ويلفت البيان إلى أن “الأموال المطلوب تخصيصها لما هو أولى وأجدى هي أموال خاصة وليست تحت يد الدولة لتصرفها في غير الحج… أن تطلب من ذلك المسلم المتواضع الذي اقتصد لسنوات عديدة وانتظر ما لا يعلمه إلا الله لتأدية فريضة الحج ، وتتغاضى عن غيره ، فهذا ليس من الإنصاف في شيء”.
“الحج لمن استطاع إليه سبيلا”، وفي تونس يسعى التونسيون إلى هذا السبيل مهما كلّف الأمر من سنوات انتظار وادخار، هو حلم يقول البعض إن احتكار الدولة لقطاع تسييره يجعله باهظا فيما يؤكّد آخرون أن ذلك يجعله أكثر تنظيما خاصة وأن فكرة الخوصصة مازالت تثير محلّ ريبة لدى كثير من التونسيين الذين يرون أنها مجال للتربّح على حساب الجودة.
وبين هذا وذاك يبقى الحج فريضة يتطلّع إليها كلّ مسلم ويسعى إليها بكل السبل الممكنة وقد يطول انتظار تحقيقها لسنوات لكن شوق الانتظار وطوله ينتهي بمجرّد أن تصل الحاج تلك الإرسالية القصيرة على هاتف تطلب منه الالتحاق بأقرب معتمدية لمحل سكنه من أجل إتمام إجراءات الحج.
مع قرب انطلاق الرحلات وانتهاء حجّاج بيت الله الحرام من التونسيين من إجراءات السفر، بدأ يخفت الجدل حول موسم الحج ليفتح المجال لجدل آخر يدور في نفس الفلك وبنفس الحجج والأسباب وهو الحديث عن دعوات بالإفتاء بإلغاء عيد الأضحى لهذا العام.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس