حرب 1967 بين بورقيبة والبشير بن سلامة

37
حرب 1967 بين بورقيبة والبشير بن سلامة
حرب 1967 بين بورقيبة والبشير بن سلامة

مالك التريكي

أفريقيا برس – تونس. عاد الأستاذان محمد مزالي وفتحيّة مختار إلى تونس عام 1950 بعد أن أحرز كلاهما إجازة الفلسفة من السوربون. إلا أن إدارة الاستعمار الفرنسي قدّرت، كما روى لي الأستاذ البشير بن سلامة في حوار متشعب أجريته معه في بيته في تونس، أن الفلسفة غير مأمونة العواقب إلا إذا بقيت حكرا على الأساتذة الفرنسيين، ففرضت على مزالي أن يدرّس العربية وعلى زوجته أن تقنع بوظيفة أمينة مكتبة! وفي 27 أكتوبر 1950، أياما فقط بعد بدء مزالي العمل في المدرسة الصادقية، أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل إضرابا، فخرج التلاميذ في مظاهرات ثلاث يقود كلا منها أستاذ. وكتب مزالي أنه كان كلما التفت لاحظ تناقص عدد التلاميذ، حتى لم يبق عند بلوغ نهج روما إلا خمسة، كان بينهم شاب نابه اسمه البشير بن سلامة. وكان ظني أن تلك الواقعة هي مبتدأ صداقة العمر بين الرجلين. لكن الأستاذ بن سلامة، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى الأسبوع الماضي، قال لي إن صداقتهما انعقدت بعيد ذلك في جريدة الصباح التي أسسها الحبيب شيخ روحه عام 1951، حيث كانت سلطات الاستعمار تمنع الحزب الدستوري الجديد من إصدار جريدة، فصارت الصباح، بمقتضى الأمر الواقع، لسان حال الحزب رغم أن شيخ روحه لم يكن سياسيا بل رجل أعمال. وكان معظم الوطنيين، مثل علي البلهوان ومحمود المسعدي ومصطفى الفيلالي والشاذلي القليبي ومزالي الخ، من كتّاب الصباح، وكان التلميذان بن سلامة والحبيب بولعراس مكلفين بتحرير صفحة «شباب اليوم».

ولما أتى طه حسين إلى تونس عام 1957 لرئاسة لجنة امتحانات السنة الأولى في دار المعلمين العليا (التي كانت نواة للجامعة التونسية الوليدة) كان بن سلامة ضمن الفائزين الستة الذين شرفوا بمصافحة الأديب الفذ. وروى لي بن سلامة أن طه حسين ألقى يومها في الفائزين خطابا استبشر فيه بنجابتهم، وحضهم على الاضطلاع بمسؤولية تدعيم ركائز الثقافة العربية في تونس عقب ليل الاستعمار الثقافي الطويل.

وقد تجسمت صداقة العمر بين مزالي وبن سلامة في إشرافهما، طيلة إحدى وثلاثين سنة، على إدارة مجلة «الفكر» التي كانت أهم الشهريات الفكرية في المغرب العربي. وكان بن سلامة هو رئيس التحرير والدينامو المحرك. وقد فتح الصديقان مجلتهما، بليبرالية نادرة، لتيارات الأدب المتمرد، مثل «في غير العمودي والحر» ولمختلف الكتّاب الشباب الناقمين على أبويّة النظام البورقيبي القامعة. فكانت «الفكر» بذلك مجلة بدعا: من صلب النظام، ولكنها مشرعة على الرياح التي تريد اقتلاع النظام!

وقد ظل اسما مزالي وبن سلامة مقترنين طيلة عقود ليس عند النخبة فقط، بل وحتى في أذهان الجمهور العام لأن كثيرا من التلاميذ والأولياء لم يطلعوا على تاريخ البلاد إلا بفضل الترجمة التي أنجزها الصديقان، أواخر الستينيات، لكتاب شارل أندري جوليان المرجعيّ «تاريخ إفريقيا الشمالية» (في جزءين). وعلاوة على ما أنتجه الأستاذ بن سلامة في المجال الروائي، خصوصا رباعية «العابرون» وفي الترجمة المتنوعة من الفرنسية، فإن له نظريات ومقاربات طريفة في مجالات الأدب، واللسانيات، والفكر الحضاري، والتنظير الاجتماعي، كما أنه حقق إنجازات هامة دعم بها الصناعات الثقافية في تونس لما تولى وزارة الثقافة من عام 1981 حتى 1986. وريثما يتاح لنا الأسبوع القادم الإلماع إلى بعض من هذه المقاربات النظرية والإنجازات المؤسسية، يجدر أن نذكر من سيرة بن سلامة أن مزالي اتخذه مديرا لديوانه لما كلفه بورقيبة، منتصف الستينيات، بإدارة الإذاعة ثم بإنشاء التلفزة الوطنية. وروى لي بن سلامة أن بورقيبة، المعروف بشغفه بالإذاعة (كما يفصّل الأستاذ عبد العزيز قاسم في كتابه الصادر هذا العام بعنوان «المستمع الأكبر») قد اتصل بالإذاعة يوم 5 يونيو/حزيران 1967. كان يتوقع أن يكون «سي محمد» هو المجيب. سأل: ما حقيقة ما يقع في مصر؟ رد بن سلامة: سيدي الرئيس، لا صحة للأسف لما يقوله راديو «صوت العرب». لقد دمر الإسرائيليون كامل سلاح الجو المصري. لم يصدق بورقيبة ما سمع. عبّر عن ارتيابه وقطع المحادثة متشنجا مستاء من هذا الذي أتى بأفجع الأنباء.

لم يكن بورقيبة يعرف بن سلامة عهدئذ. أما لمّا عرفه، بعد أن صار وزيرا للثقافة في حكومة مزالي، فإنه لم يكن يرتاح لمرآه. لماذا؟ لأنه كان يذكّره بمن يكره: كان يرى فيه شبها بالغا بخصمه اللدود صالح بن يوسف!

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here