حين تٌسجن ذاكرة تونس السياسية

حين تٌسجن ذاكرة تونس السياسية
حين تٌسجن ذاكرة تونس السياسية

محمد خليل برعومي

أفريقيا برس – تونس. يمثل اعتقال المعارض التونسي البارز أحمد نجيب الشابّي لتنفيذ حكم بالسجن 12 سنة فيما تعرف بقضية “التآمر على أمن الدولة” لحظة كاشفة في مسار التحول السياسي الذي تعرفه تونس منذ 2021، لأنه يطاول شخصيةً رافقت بناء المعارضة المدنية منذ مطلع الثمانينات، وشاركت في تأسيس خطاب ديمقراطي، قاوم أحادية الحكم 40 سنة متواصلة. ولا يتعلق الأمر بإيقاف سياسي عابر، بل باستهداف رصيد نضالي وفكري شكّل جزءاً من الذاكرة التي جعلت السياسة ممكنة في البلاد حتى قبل الثورة.

بدأ الشابي نشاطه السياسي في سياق كانت فيه التعدّدية محدودة والفضاء العام مغلقاً، إذ أسّس في سبتمبر/ أيلول 1983 “التجمّع الاشتراكي التقدّمي” الذي عمل سنواتٍ من دون ترخيص، قبل أن يحصل على الاعتراف القانوني سنة 1988 مع بداية حكم بن علي. وفي 2001 تحوّل الحزب إلى “الحزب الديمقراطي التقدّمي”، بعد مراجعة خطّه وبرنامجه، ليصبح أحد أبرز التنظيمات المدنية المعارضة في العقد الأخير من نظام الرئيس بن علي. وقد أتاح هذا الإطار الحزبي مساحة للعمل القانوني المنظم داخل بيئة سياسية كانت السلطة تتحكّم فيها على نحوٍ شبه كامل.

وبالتوازي، أسّس الشابّي في مايو/ أيار 1984 صحيفة “الموقف” التي صدرت لسان حال الحزب، لكنها تحوّلت، بمرور الوقت، إلى منبر فعلي للمعارضة الديمقراطية، إذ نشرت مقالاتٍ نقدية لسياسات الحكم وفتحت الباب أمام أصوات حقوقية وسياسية متعدّدة. وتعاقبت على الصحيفة فترات من الحجب والتضييقَين الإداري والمالي، ما جعلها قناة صعبة، لكنها ثابتة في مواجهة احتكار الدولة الإعلام، وشكّل أرشيفها لاحقاً جزءاً من ذاكرة المعارضة المدنية. غير أن المحطة الأكثر تأثيراً في مسار الشابي قبل الثورة تمثلت في مشاركته الفاعلة في هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات سنة 2005، والتي انطلقت بإضراب جوع نفّذته قيادات في المعارضة داخل مقر الحزب الديمقراطي التقدّمي، قبل أن تتحول إلى إطار حواري منتظم جمع إسلاميين وديمقراطيين، ويساريين، وشخصيات نقابية، وحقوقية. وقد أنتجت الهيئة وثائق مرجعية حول نظام الحكم والحرّيات الدينية وحقوق المرأة والعلاقة بين الدين والدولة، وأسّست لأول تقاطع سياسي وفكري بين تيارات متخاصمة تاريخياً. وبفضل هذا المسار، أصبحت “18 أكتوبر” مرجعاً سياسيّاً مهمّاً في النقاش الوطني ومحطّة انتقالية ساعدت، لاحقاً، على بناء أرضية مشتركة في بداية الثورة.

شارك الشابّي بعد 2011 فترة قصيرة في الحكومة الانتقالية وزيراً للتنمية الجهوية، ثم انخرط في مشروع إعادة تجميع العائلة الديمقراطية عبر تأسيس الحزب الجمهوري سنة 2012، في محاولة لبناء قطبٍ مدنيٍّ قادرٍ على موازنة القوى الصاعدة. ورغم أن النتائج الانتخابية للحزب لم تكن قوية، ظلّ الشابّي فاعلاً في نقاشات الدستور والنظام السياسي، ودافع عن أهمية الوساطة والمؤسّسات والحوار بوصفها أدواتٍ ضرورية لإنجاح الانتقال الديمقراطي.

ومع الانقلابَين، الدستوري والسياسي، اللذين عرفتهما تونس منذ 25 يوليو/ تموز 2021، حين ركّز الرئيس قيس سعيّد السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية عبر المراسيم والدستور الجديد، دخلت البلاد مساراً سياسيّاً، يقوم على تقليص دور الأحزاب والحد من الوسائط المدنية. في هذا السياق، برز دور الشابّي مجدّداً مع إعلان تأسيس جبهة الخلاص الوطني في 31 مايو/ أيار 2022، وهي مبادرة جمعت أطرافاً مختلفة من أحزاب وشخصيات مستقلة وناشطين، في محاولة لبناء إطار معارض قادر على استعادة التوازن السياسي. وقد لعب الشابي دوراً محوريّاً داخل الجبهة، سواء في تنظيم عملها أو في الحفاظ على توجّهها نحو الحلول السياسية التفاوضية.

لكن السلطة تعاملت مع الجبهة بوصفها تهديداً مباشراً، وجرى إدراج عدد من قياداتها ضمن ملفات قضائية واسعة انتهت في الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) بأحكام قاسية تراوحت بين خمس سنوات و45 سنة سجناً، من بينها الحكم على الشابّي بـ 12 سنة، وعلى شيماء عيسى بـ 20 سنة، وعلى العياشي الهمامي بخمس سنوات، إضافة إلى عشرات المتهمين الآخرين. وقد رأت منظّمات محلية ودولية أن هذه المحاكمات شابتها خروقات إجرائية، واعتماد مفرط على تقارير أمنية ومحاكمات عن بعد، وهو ما اعتبرته مؤشّراً على انغلاق سياسي يتجاوز حدود الخلاف الحزبي، ليصل إلى مستوى إعادة تشكيل المجال العام عبر القضاء.

وتكشف قائمة الموقوفين اليوم أن السجون التونسية تجمع تقريباً كامل الطيف المعارض، من قيادات حركة النهضة إلى يساريين وقوميين وليبراليين ومستقلين وإعلاميين ومحامين ونشطاء مجتمع مدني، ما يعزز الانطباع أن إدارة الخلاف انتقلت من المؤسّسات المنتخبة إلى قاعات المحاكم، وأن السجن أصبح مرآة للمشهد السياسي أكثر مما هو أداة قانونية لمعالجة التجاوزات.

في هذا السياق، يكتسب اعتقال نجيب الشابّي دلالة خاصة، لأنه يمسّ شخصية تجمع بين التجربة الحزبية المبكرة والعمل الإعلامي المعارض والمبادرات الحوارية العابرة للتيارات مثل تجربة 18 أكتوبر، ثم مسار بناء مساحات سياسية مشتركة بعد الثورة. واستهداف شخصية بهذا الرصيد يطرح سؤالاً بشأن طبيعة العلاقة التي تريد السلطة ترسيخها مع المعارضة، وحول مدى استعدادها للحوار أو القبول بالتعدّدية التي شكلت أساس التجربة الديمقراطية بين 2011 و2021، كما أثار الاعتقال موجة غضب داخل الأوساط السياسية والمدنية، باعتباره دليلاً على توسع دائرة الاستهداف، بحيث تشمل الفاعلين التاريخيين والناشطين الجدد على حد سواء، ما يعزّز شعوراً بأن سجن قيس سعيّد لم يعد توصيفاً رمزياً، بل هو تعبير عن واقع يضيق فيه المجال العام وتتقلص فيه إمكانية العمل السياسي السلمي.

وكان الشابّي قبل اعتقاله يدعو باستمرار إلى بناء مشترك ديمقراطي يتجاوز الانقسامات القديمة، وهو المبدأ نفسه الذي عبر عنه موقوفون من مختلف الخلفيات. واليوم يبدو أن هذا النداء لم يعد جزءاً من خطاب المعارضة فحسب، بل أصبح ضرورة تفرضها بنية الأزمة نفسها، لأنّ استمرار الانغلاق يضع الدولة أمام تحدّيات لا يمكن حلها بالأدوات الأمنية أو القضائية، ويجعل مستقبل الاستقرار السياسي مرتبطاً بقدرة الفاعلين على إعادة بناء قنوات التفاوض وآليات التغيير المدني والسلمي.

… لا ينهي اعتقال أحمد نجيب الشابّي مساره السياسي، لكنه يختصر الصراع بين تصوّرَين لتونس؛ دولة تقوم على مؤسّسات ووساطة وتعدّد، أو دولة تُدار من مركز واحد يحدّد مجال السياسة وحدودها. ومهما كانت مآلات الملف القضائي، ستبقى الرسالة السياسية التي حملها هذا الاعتقال جزءاً من النقاش في سبل استئناف الحياة الديمقراطية في البلاد، وحول قدرة التونسيين على استعادة مشترك وطني يحمي الدولة من الانقسام والانغلاق وتكريس الحكم الفردي.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here