بقلم: شكري بن عيسى، باحث في القانون وفي الفلسفة
تتسم مواقف النهضة منذ سنوات بتذبذب كبير، فلا تكاد تطرح أيّ قضية الاّ لتبقى معلّقة في الانتظار، ولا يقضى فيها الاّ في آخر اللحظات، ان لم يكن في “الوقت الضائع”، تغيب الرؤية والاستراتيجيا ليحضر الظرفي التكتيكي، سياسة لا تستبق الأحداث وتفتقد للمبادىء الحاكمة، والحركة ذات المرجعية الاسلامية صارت مختصة في المشي على الحبال، معرضة دوما للسقوط، وما تكاد تسلم من حبل لتجد نفسها على حبل جديد، وهو الامر الذي ينطبق على مقاربتها لقضية موقفها من الانتخابات الرئاسية، الذي اتسم منذ بدايته بالغموض الى حد التخبط، لتنتهي بهزيمة مزعزعة، لكن مونبليزير امتصت بسرعة الصدمة لتقفز على جواد المتأهل الأول قيس سعيّد، وتركب الموجة الصاعدة وتحاول ترميم ما تداعى.
طبعا الى حدّ اللحظة لم تتخذ الحركة الحائزة على المرتبة الثالثة موقف من دعم سعيّد من عدمه، ورحّلت الامر لسلطة قرارها المتمثلة في مجلس الشورى، ولكن كعادتها لا بد بعد الانتكاسة محاولة السطو وقرض ما يمكن من منجز غيرها، والأمر تمّ عموما في ثلاثة مراحل متناسقة، أولها انطلقت مباشرة اثر اعلان تقديرات سبر الآراء للنتائج مساء الانتخابات، قبل أن تبدأ التصريحات على لسان قيادات الحركة حول سعيد، لتختم باشارات فضفاضة مائعة كالعادة توحي بوجود دعم لمرشح الثورة، في محاولة لركوب الشعار الذي فرطت فيه لسنوات.
منذ الثامنة مساء لحظة اعلان تأهل سعيد، وحتى قبل ذلك بقليل، انطلقت الماكينة الالكترونية الزرقاء، بالترويج لدعم نهضوي لاستاذ القانون الدستوري، ثم تم فبركة وثيقة فيها شعار النهضة متضمنة لدعوة لقواعد مونبليزير باعطاء اصواتهم مبدئيا لمورو وثانويا لسعيد، صمتت عن تكذيبها حركة النهضة برغم معرفتها بعدم صحتها، وتمت الاستفادة منها بشكل مزدوج، لتبرير الهزيمة المذلة للنهضة، ولابراز الفضل في تفوّق سعيد بالمرتبة الاولى، والامر لم يكن يخلو من دهاء سياسي، لأنّ الأخلاق السياسية ومبادىء الشفافية، تقضي باصدار نفي صريح لوجود هذه الورقة المزيفة، خاصة وانها سرت على شبكة التواصل الاجتماعي سريان النار في الهشيم، واساءت أيّ اساءة للمترشح المستقل.
طبعا لا يمكن لعاقل أنّ يصدّق ويقبل وجود دعم نهضوي مباشر او غير مباشر لسعيد، فالحركة ذات المرجعية الاسلامية استنفرت كل قدراتها ومواردها في دعم مورو، ونزلت بكل ثقلها وبكل قياداتها يمينا ويسارا للتعبئة الشاملة، والمناشط كانت في كل الساحات، فضلا عن السوشيال الميديا التي كانت تغلي بصور مورو وشعارات حملته، والنهضة التي دخلت بقوة في الرئاسية، كانت تطمح لتأهٌل معتبر يمثّل رافعة للانتخابات التشريعية، ولا يمكن لوهلة ان تكون فرطت في اصواتها لسعيد اللهمّ اصوات الاشخاص الذين تخلّوا عنها، كما لا يمكن استساغة وجود تساهل لفائدة غيرها، وقد سجّلنا حالة الامتعاض والمرارة عند صدور النتائج وفق تقديرات الاستبيانات، وحتى التشويش عليها واثارة جملة من التعلاّت، قبل الاقرار النهائي بالامر، ولكن لم يمنع سعيد في الاثناء من تعريضه لتوظيف بالتوازي.
فالقيادي البارز بمواقفه الزئبقية (في علاقة بدرجات الحرارة) الوريمي، ظهر علينا بتدوينة كلها تلبيس، لاعادة الهمز والايحاء بوجود دعم نهضوي لسعيد، مدعيا انه لو تم استفتاء داخل القواعد النهضوية لكان “العصفور النادر” هو سعيّد، في تصريح غير مسؤول على اكثر من صعيد، بمحاولة سرقة انجاز المتأهل الاول سعيد، وابراز ان حركته بمؤسسات قرارها لا تحسن الاختيار، وكأنّ اختيار مورو كان مختلا في جوهره، وحركته أساءت الاختيار في الصدد، المهمّ بالنسبة له هو تلبيس الامور للتغطية على الفشل، ومن اخرى لركوب موجة قيس سعيد الرابحة، والانعطاف في ثنايا شعاراتها الثورية، لنسبتها لحركته برغم طلّقتها منذ سنوات الثورة الاولى، في الوقت الذي لم تفكر مونبليزير مطلقا في دعم سعيد، وانحازت في البداية لخيارات الشاهد والزبيدي، قبل الاستقرار على مورو.
الغنوشي هو الآخر وبعد أن ادعى أنّ مخلوف والمرزوقي غنموا من أصوات النهضة، يدخل من جديد بالاستثمار في فوز سعيد ليدعي استمالته لعديد الاصوات النهضاوية وصفها بـ”القواعد الهامة”، في ركوب جديد لموجة المترشّح المستقل الرابحة، ويبدو أنّه نسي أو تناسى قبل أيّام تصريحه بأنّ الاصوات النهضاوية لا يمكن أن تذهب لأحد، ولكن اكراهات السياسة يبدو انها تجعل السياسي يتلوّن في أسابيع بعدة ألوان، المهمّ أن يتحاشى الغضب، ويحصد ما يمكن ان يحصد من تعاطف مهما كانت الوسيلة، والغنوشي صار متجذرا في الميكيافيلية السياسية، لتصبح الغاية مبررة للوسيلة بشكل لا يوصف.
قبل أن يتواصل الركوب على الموجة، لتنويم القواعد المحبطة من النتائج، سواءمن رئيس النهضة أو نائبه العريض، بادعاء الاخير الاصطفاف وراء المترشح “الأقرب إلى حماية الثورة والمصداقية ونظافة اليد” في تلميح لسعيد، أولا لادعاء الانخراط في المقولات الثورية، في بيع للشعارات الرنانة للقواعد، وللاستفادة من هكذا تصريحات، ولكن الامر لم يتأكّد بعد في قرار نهائي، فالنهضة يجب أن تقوم بكلّ الحسابات قبل الدعم في اتجاه او في آخر، فاعتبار أساسي يحسم الاتجاه هو حظ كل من المترشحين، ومن أخرى المكاسب المحققة من الدعم بطريقة المقايضة، ومن ثالثة الخسائر من الطرف المقابل، ومن رابعة الخسائر التي يمكن ان تحصل داخل القواعد.
فالاقرب للدعم مصلحيا هو القروي، الذي يمتلك قناة فضائية تحتاج منصاتها النهضة، وسيحقق كتلة قد تكون الاولى في البرلمان، وهي الوحيدة التي يمكن ان تضمن لمونبليزير الدخول للحكومة، بل ويمكن أن لا تتعرض حركة النهضة للاستهداف السياسي في وجودها، ولكن في المقابل يبدو ان الميزان الرئاسي يميل لسعيد، فضلا عن انّ كلّ دعم للقروي سينجرّ عنه ضرر معنوي جسيم، بالاتهام بدعم مرشّح يوصف بالمافيوزي، كما سينجرّ عنه عدم التزام قواعدها، وربّما والامر مرجّح جدا تفكك داخلي حاد، قد يفاقم التداعي الحاصل من جراءالنتائج السيئة، والاغلب أنّ الامور ستسير في اتجاه ترك حرية القرار، وتقديم وعود وراء الستار للمتأهلين للدور الثاني بدعم كل منهم في الخفاء.
وفي العموم لئن استفاد سعيّد في المنطلق من عدم دعم النهضة له، حيث كان سيعتبر مرشّحها ويفقد دعما واسعا كان سيتلقاه، فانّه لم يمنع من استثمارها غير الاخلاقي فيه، أولا من خلال توظيف كذبة الدعم وخاصة اعطاء اوامر التصويت، المتضمنة في تلك الورقة المفبركة دون نفيها، وثانيا من خلال الايحاء بدعمه لركوب موجة مقولاته الثورية الرابحة، دون نسيان الاشاعة الكاذبة التي انطلقت الليلة السابقة ليوم الانتخاب، المتضمنة لعنوان ان سعيد هو مرشّح حزب التحرير وتداولها قواعدها بكثافة قصد التشويه، وترشيح مورو في المنطلق الذي كان على الاغلب بطلب من الشاهد، لقرض قاعدة واسعة من ناخبي سعيد، ولا شك أنّ النهضة بهكذا مواقف اذ تبرز عدم ارتباطها بمبادىء الاخلاق السياسية، فهي تزيد على الاغلب في تآكل مصداقيتها التي تتداعى في كل محطة انتخابية!!