دور أحمد المستيري في تحرير العدالة التونسية من الوصاية الاستعمارية

41
دور أحمد المستيري في تحرير العدالة التونسية من الوصاية الاستعمارية
دور أحمد المستيري في تحرير العدالة التونسية من الوصاية الاستعمارية

أفريقيا برستونس. بمناسبة اربعينية الفقيد احمد المستيري

بقلم سهام بن سدرين

فقدت تونس أحد كبار رجالاتها في الدولة، أحمد المستري بعد أن وافته المنية يوم 23 ماي 2021. ترك لنا صفحات مشرقة من تاريخ تونس ورؤية للأخلاقيات في العمل السياسي كم نحن بحاجة اليها اليوم. هذه القيم التي لازمته طيلة كفاحه في المحطات الأساسية لبناء تونس الحديثة، من مرحلة النضال من أجل التحرر الوطني إلى ثورة الحرية والكرامة 2011، مرورا بمرحلة ببناء الدولة الوطنية وتأسيس الديمقراطية التونسية. ولا يزال احمد المستيري مرجعا للأجيال الجديدة من الذين يبحثون عن عمق تاريخي لبناء هويتهم.

يتميز احمد المستيري بإنجاز مسكوت عنه في السردية الرسمية وهو الدور الاساسي الذي لعبه في ” تَونَسة القضاء “؛ وقد كانت هذه العملية تتجاوز بكثير مجرد نقل للسلطات، لتتحول الى رهان انتزاع السيادة من فرنسا الاستعمارية. وقد جعل احمد المستيري من ذلك أولوية أولوياته، إدراكا منه بأن لا وجود لسيادة وطنية بدون سيادة الدولة على قضاء مستقل. وتشهد وثائق الارشيف الفرنسي بشكل ملفت على هذا الصراع الذي كان يخاض في قصر العدالة بتونس.

كان القرار الأول لأحمد المستيري: ” رفع الوصاية المشينة التي فرضها نظام الحماية على جهاز القضاء التونسي منذ ما يزيد على نصف قرن، والمتمثلة في وجود قضاة فرنسيين يشرفون على الدعاوي العمومية في المحاكم التونسية، على اختلاف درجاتها، بصفة وكلاء دولة.(1) ” واستمر هذا الصراع لمدة عام بعد استقلال تونس سنة 1956، حيث واصل القضاة الفرنسيون إقامة العدل في تونس.

وقد نصت الفقرة 6 من بروتوكول الاستقلال على ما يلي: “تعدل أو تلغى أحكام اتفاقيات 3 جوان 1955 التي تتعارض مع الوضع الجديد لتونس، وهي دولة مستقلة وذات سيادة.” وقد ارتكزت فرنسا على هذا البند من بروتوكول الاستقلال للقول بأن اتفاقيات عام 1955 لا تزال سارية المفعول ما لم يتم إلغاؤها واستبدالها باتفاقيات أخرى. ولن يفوت الفرنسيون الفرصة بأن يذكروا بذلك في جميع مراسلاتهم تقريبا، وعلى وجه الخصوص في المذكرة التي أرسلتها السفارة الفرنسية في 17 جوان 1959 إلى الخارجية بباريس، التي تؤكد على ان “بروتوكول الاستقلال يكتسي قيمة سياسة بحتة وليس له قوة قانونية ملزمة”، قائلين: “لم يكن له هدف او نتيجة إلغاء الاتفاقيات الفرنسية التونسية المبرمة في 3 جوان 1955. بل أهَل لمراجعة كاملة أو جزئية لجعلها متلائمة مع الوضع الجديد لتونس . (2)»

غير أن اتفاقيات 1955 لم تلغ منها سوى اتفاقية واحدة، وهي اتفاقية العدالة، وتمت الاستعاضة عنها باتفاقية أخرى في 9 مارس 1957 ، فضلا عن ثلاثة بروتوكولات إضافية نشرت في الرائد الرسمي للجمهورية الفرنسية ؛ وتم التوقيع على الاتفاقية من قبل جورج قورس Georges Gorce ، سفير فرنسا لدى تونس وأحمد مستيري، وزير العدل في أول حكومة لتونس المستقلة. إن التفاوض، ثم تطبيق هذه الاتفاقية، كان يمر بسلسلة من العراقيل من الجانب الفرنسي الذي كان يعتقد أنه منح تونس استقلالا صوريا، دون نتائج مؤسساتية. وهنا سيبذل الوزير البالغ من العمر 31 عاما كل موهبته ومثابرته “لانتزاع” سيادة قضائية متنازع عليها من قبل فرنسا.

فقد قام باستصدار “أمر عليّ” بتاريخ 24 جوان 1957، وقام احمد المستيري بفصل 11 وكيل دولة ورئيسهم الوكيل العام، وهم قضاة فرنسيون كانت لهم سلطة تتبع مطلقة ويتحكمون في سير القضاء ثم قام بتعيين قضاة تونسيين محلهم. واثار هذا الاجراء الجريء حفيظة الفرنسيين، حيث احتج بشدة بيريت، Perret ، المستشار القانوني للسفارة الفرنسية، على طابعه المناوئ لروح اتفاقيات عام 1955 والدعوة إلى تغييره .

وتشهد وثائق الارشيف الدبلوماسي على هذه المعركة الطويلة لكسر طوق الوصاية الذي سعت فرنسا الاستعمارية إلى التمسك بها بكل الوسائل. وتروي المراسلات الطويلة هذه المعركة التي دارت أساسا حول أربع قضايا: الارشيف، والمحاكم الفرنسية التي تفرضها الاتفاقية، ومعالجة قضية اليد الحمراء، واستخدام اللغة العربية في وثائق العدالة الرسمية.

1 – في 27 مارس 1957، اكتشفت وزارة العدل أن شاحنة عسكرية فرنسية جاءت إلى المحكمة لتحميل عدة صناديق، بعضها يحتوي على “المحجوز” (أسلحة). وكان رد الفرنسيين على الاحتجاج التونسي بأنه كان ذلك عملا “عاديا” لاستعادة هذه القطع من قبل الجيش!

اين ذهب ارشيف العدالة التونسية؟ نجد اشارة في حاشية في مذكرات (3) سي أحمد مستيري تخبرنا عن طريق تعليق للصحفي الهادي العبيدي في صحيفة “الصباح” اليومية يفيد بأن “مسؤولا فرنسيا أخذ المبادرة بنفسه (؟)، واحرق الأوراق والمحفوظات، طيلة أربعة أيام، من مكتب الوكيل العام.» (ما يضاهي الوكيل العام للجمهورية). بالإضافة إلى ذلك، قامت وزارة الخارجية الفرنسية بالضغط على تونس من أجل إخلاء السجلات الجنائية للمواطنين الفرنسيين المولودين في تونس ونقلها إلى فرنسا قبل دخول الاتفاقية القضائية حيز التنفيذ.

كما نجد اليوم معلومة على الموقع الإلكتروني للأرشيف الدبلوماسي الفرنسي في القسم الخاص برصيد الاقامة العامة الفرنسية بتونس أن “ملفات ادارة الإقامة العامة في تونس أعيدت الى فرنسا على عدة دفعات، بعد الاستقلال” (4).

2 – وفي نفس سياسة فك الارتباط، قام وزير العدل بإصدار الامر المؤرخ في 13 نوفمبر 1956 الذي يجعل الرعايا الفرنسيين والأجانب خاضعين للمحاكم الجزائية التونسية. وتطبيقا لهذا الامر أحيلت على محكمة “الدريبة” (المحكمة الابتدائية بتونس) قضية تورط فيها متهمان فرنسيان من اجل مسك سلاح بدون رخصة وأودع المتهمان السجن. “فقامت زوبعة في البرلمان الفرنسي وفي الصحافة الفرنسية، واندلعت ازمة حادة في العلاقات بين الدولتين.” كما يروي ذلك المستيري في مذكراته. (5)

ارادت الحكومة الفرنسية اضفاء صيغة “المحاكم المختلطة” على المحاكم التونسية وإبراز صفة القاضي الفرنسي، وفي هذا الصدد يقول المستيري في مذكراته (6): ” آل الامر الى النقاش حول القبّعة التي يرتديها القاضي الفرنسي المعين للجلوس مع القاضيين التونسيين في المحاكم التونسية الجديدة. وكانت لهذه المسألة الشكلية اهميتها الرمزية لأنها تشير الى المحاكم المختلطة”. ولكن دون جدوى حث رفضت الجهة التونسية هذه التنازلات. وتم في النهاية الاتفاق على إلحاق عدد من القضاة الفرنسيين في المحاكم المدنية مدة خمس سنوات، بعنوان التعاون الفني.

واتهم المستشار القانوني للسفارة وزير العدل بعدم الالتزام بالتعايش المتفق عليه، كما اتهمه صراحة بتجاهله”. وفي مذكرة طويلة من 30 صفحة مؤرخة في 24 فيفري 1958، وجه المستشار القانوني “بيريت” إلى السفارة، ما يمكن اعتباره بمثابة لائحة لوم لما اعتبره: “انتهاكات للاتفاقية القضائية الممضاة في 9 مارس” والتي لم يتردد في وصفها بأنها “خدعة بونيقية “، في إشارة إلى التعبير الروماني لوصف “حيلة البونيقيين” في صد الإملاء الروماني. وامام هذا الهيجان الفرنسي، يرد المستيري بمقاومة هادئة تألفت من احتلال المواقع والمضي قدما في سياسته من خلال الجمع بين الدبلوماسية والامر الواقع والحجة القانونية.

3- في مذكرة المستشار القانوني في 7 ماي 1957، بعنوان “السفر إلى باريس ” مكتوبة بخط اليد في الصفحة 4، يلاحظ أن الفرنسيين كانوا يخططون إلى اخلاء سبيل القتلة التابعين لليد الحمراء المعتقلين في تونس وتسفيرهم الى باريس. فقد حاولوا في البداية الإفراج عنهم بقرار من محكمة فرنسية عشية توقيع الاتفاقية القضائية، لكن عناصر من الحرس الوطني التونسي اعتقلوهم مرة ثانية عند إطلاق سراحهم من باب السجن، كما يكتشف ذلك من مذكرة 7 مارس 1957 . أعلن وزير الدولة للإعلام، بشير بن يحمد للصحافة المحلية، خبر اعتقال القادة الرئيسيين لليد الحمراء في ماي 1956، وهي مجموعة تابعة لأجهزة المخابرات الفرنسية، التي تشكلت في ربيع عام 1952، وكانت لها امتدادات في الجزائر بقيادة رئيس مركز امن (جيليت Gillet) وتقوم بالعبث بأرواح الأبرياء متحصنة بالإفلات من العقاب. وفي 4 سبتمبر 1957، “رحلوا” إلى فرنسا دون محاكمة. ويبدو أن هذه العملية كانت(7) “نتيجة ترتيب بين الحكومة التونسية والمفوض السامي الفرنسي الذي لم يرغب في ان تداعيات هذه القضية تصل إلى “أعلى”.

4 – كما أن استخدام اللغة العربية كلغة رسمية سيكون أيضا موضوع تنازع كبير. حيث كان الفرنسيون متمسكين بموقفهم القائم على أن ” اللغة الفرنسية تعتمد كلغة عمل، على الرغم من أن المادة 7 من الاتفاقية تنص على أن اللغة الرسمية هي اللغة العربية، إلا أن اللغة الفرنسية هي التي لا تزال تستخدم كلغة رسمية في التبادلات الإدارية والنصوص القانونية”. في حين أن الجانب التونسي سيجادل بأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية لتونس المستقلة وأن الوثائق يجب أن تكون مكتوبة باللغة العربية. وسيذهب الفرنسيون إلى حد المطالبة بكتابة محاضر المحاكم باللغة الفرنسية حتى يتم تنفيذ البطاقات القضائية.

ولم يكتف أحمد المستيري بانتزاع السيادة القضائية من فرنسا الاستعمارية، بل كان يقود مشروع إصلاح المؤسسة القضائية وإعادة هيكلتها وتحديثها. فقد شرع ايضا في اصلاح التشريع والنظام القضائي بمكوناته المدنية والجنائية والإجرائية وملائمته مع استحقاقات الدولة المستقلة وسعيه الى “ازالة القضاء الاجنبي وجعل المواطنين، على اختلاف اديانهم والمتساكنين على اختلاف اجناسهم، يخضعون للقضاء الوطني الموحد. هذا ومن المعلوم ان النظام القضائي القائم حتى سنة 1956 كان يشتمل على خمسة اصناف من المحاكم: المحاكم الفرنسية، المحاكم التونسية المدنية، المحاكم الشرعية الاسلامية (بفرعيها المالكي والحنفي) والمحاكم اليهودية (مجلس الاحبار)” (8).

وفي الفترة الوجيزة بين 1956 و1958 قام المستيري بتوحيد التشريع وسن قانون الجنسية، وتعديل المجلة الجزائية، ومجلة العقود والالتزامات، ومجلة المرافعات المدنية وخاصة مجلة الأحوال الشخصية.

كما أصدر القوانين المنظمة للمهن القضائية: تنظيم مهنة المحاماة، وتنظيم مهنة عدول التنفيذ. كما انه قام بتأسيس محاكم جديدة تغطي كامل التراب: محكمة الاستئناف في صفاقس وسوسة، والدوائر الجنائية والمحاكم الابتدائية في بنزرت، وجندوبة، والمهدية، ومدنين، ونابل وعدد من محاكم النواحي..

وهكذا ظهرت مؤسسة قضائية مستقلة للنور في سياق رفع الوصاية الفرنسية. ولكن للأسف، وفي الوقت نفسه، أنشئت سلطة قضائية موازية، وهي سلطة المحاكم الاستثنائية، بقيادة محمد فرحات (شقيق رئيس ديوان الرئيس بورقيبة)، الذي عين رئيسا لمحكمة القضاء العليا، المكلف بالحكم على المعارضة اليوسفية وعائلة البايات.

إن التقدم الذي أحرزه أحمد المستيري لم يكن كافيا للأسف لضمان استقلال القضاء التونسي. وكان لبورقيبة وجهة نظره الخاصة حول هذا الموضوع. واستغل رئيس الحكومة إنشاء المحاكم الاستثنائية لتعزيز صعود محمد فرحات، الذي أصبح فيما بعد وكيلا عاما، وهو الذي سيمسك بالقضاء بقبضة من حديد لأكثر من عشرين عاما.

وفي 29 جويلية 1966، برر الحبيب بورقيبة استخدام المحاكم الاستثنائية في تصريحه بمناسبة اختتام السنة القضائية ” يصعب على القضاة أن ينسجموا مع الظروف الجديدة أو أن يسايروا الفترة الانتقالية الحرجة أنهم اقتصروا على تكوينهم القانوني الذي تحصلوا عليه في دراستهم أو المبادئ التي درجوا عليها. وعندئذ لا مناص للمسؤولين من أن يلجؤوا إلى إحداث المحاكم الاستثنائية تفاديا لإضاعة الوقت، إذا لا فائدة ترجى في اقناع القضاة فردا فردا بوجوب تغيير مناهجهم.”

باسم التضامن الحكومي، سيتحمل أحمد المستيري المسؤولية: “كنت جزءا من أول حكومة استقلال كانت لترسيخ سيادة البلاد. لقد اخترنا عمدا التوجه الذي اخذه بورقيبة في حزب الدستور الجديد، باعتباره استمرارا منطقيا لنضالنا من أجل التحرر الوطني… لقد كان خيارا. متروكا للتاريخ أن يفصل ما إذا كان هذا الاختيار جيد أو سيئ. بعد مرور الزمن يمكننا أن نحكم على الأحداث. كان هناك سوء معاملة، كانت هناك تجاوزات، ضحايا أبرياء. ولكن علينا أن نضع أنفسنا في السياق حيث لم نتخلص من الوجود الاستعماري تماما. كانت الدولة خارجة من المجهول. بناء جهاز الدولة في ظل هذه الظروف يؤدي حتما إلى تجاوزات مؤسفة… صحيح أن هذه صفحة مؤلمة لتونس المستقلة، لكنني واحد من أولئك الذين ساهموا في طيها. »(9)

—————

1 احمد مستيري: شهادة للتاريخ – دار الجنوب 2011. ص.99

2 Les Archives diplomatiques de Nantes Aide-mémoire du 17 juin 1959- FP/CG. CJU. P2-

3 Ahmed Mestiri, Témoignage pour l’histoire, Sud éditions 2011. P 112

4 fonds du protectorat français en Tunisie

5 احمد المستيري، شهادة للتاريخ، دار الجنوب 2011. ص 103

6 احمد المستيري، شهادة للتاريخ، دار الجنوب 2011. ص 104

7 مقتبس في مذكره موجهة إلى فرنسا من قبل هيئة الحقيقة والكرامة

8 احمد المستيري، شهادة للتاريخ، دار الجنوب 2011. ص 104

9 احمد المستيري، شهادة للتاريخ، دار الجنوب 2011. ص 396.

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here