أفريقيا برس – تونس. مرة أخرى، تعود زيارات رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إلى واجهة الجدل في الساحة السياسية التونسية، بعد لقاء مفاجئ جمعها بالرئيس قيس سعيّد في قصر قرطاج. زيارة قصيرة في مدتها، لكنها كثيفة في دلالاتها السياسية، أشعلت نقاشا واسعا حول توقيتها، أهدافها الحقيقية، وما إن كانت تعبّر عن انخراط تونس في مسارات إقليمية تُدار من خارج حدودها.
تأتي هذه الزيارة بعد أيام قليلة من إحياء الذكرى الثالثة لـ25 جويلية 2021، التي مرّت بهدوء نسبي ودون تحركات شعبية تُذكر ضد السلطة. وسط هذا المشهد السياسي المائل للاستقرار الظاهري، استقبل قصر قرطاج ميلوني في لقاء بدا أكثر رمزية منه مؤسساتي، وأثار تساؤلات حول خلفياته، خاصة أنه لم يعلن عنه مسبقا، ولم يُرفق بأي توضيحات رسمية موسّعة من الطرفين.
وفي هذا السياق، يقدّم النائب السابق والناشط الحقوقي مجدي الكرباعي، المقيم في إيطاليا، قراءة تحليلية لهذه الزيارة، لافتا، في تصريحات لـ”أفريقيا برس”، إلى أهمية “تسليط الضوء على هذه الزيارة لما تحمله من دلالات سياسية غير معلنة”.
الكرباعي: زيارة محمّلة برسائل سياسية
يرى مجدي الكرباعي أن “زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إلى تونس، بهذا الشكل المفاجئ والمحدود من حيث الوفد المرافق، لا يمكن فهمها فقط من خلال المواضيع المعلنة كملف الهجرة أو تنفيذ “خطة ماتّي” أو الشراكة في مشاريع تنموية. هذه الملفات، رغم أهميتها، لا تبرر وحدها هذا الشكل غير البروتوكولي للزيارة، خاصة وأنها لم تأتِ في إطار قمة رسمية أو لقاء مؤسساتي موسّع، بل كانت أقرب إلى زيارة “خاطفة” محاطة بالكثير من التحفّظ والغموض”.
ويفصّل الكرباعي قراءته للزيارة على عدة مستويات:
-أولا: الرسائل الموجّهة إلى الداخل الإيطالي: ميلوني تواجه ضغوطا داخلية متزايدة بسبب ارتفاع عدد الوافدين عبر البحر مؤخرا وتراجع نتائج خطتها المعتمدة على “وقف القوارب من المنبع”. وقد يكون الهدف من الزيارة هو إعطاء انطباع للرأي العام الإيطالي بأن الحكومة تتحرّك بنشاط وتتحمّل مسؤولية إدارة الملف عبر التواصل المباشر مع تونس، التي تُعتبر حاليًا شريكًا أساسيًا في سياسة “توطين الحلول” خارج الحدود الأوروبية.
ثانيا: البُعد السيادي والانفراد بالملف التونسي: الزيارة تعكس رغبة إيطالية في إدارة علاقتها مع تونس بمعزل عن الإطار الأوروبي، وربما حتى دون إشراك شركائها في الاتحاد الأوروبي بشكل واضح. ميلوني سبق أن حاولت تسويق نفسها كـ”جسر” بين أوروبا وتونس، لكنها اليوم تبدو وكأنها تسعى إلى علاقة ثنائية خالصة، بعيدة عن بيروقراطية بروكسل وتعقيدات الشراكة الأوروبية. اختيار وفد محدود قد يكون رسالة في هذا الاتجاه: تحرّك مباشر، سريع، ودون الحاجة للرضى الجماعي الأوروبي.
ثالثا: الحالة التونسية ومحدودية الاستجابة: يبدو الطرف التونسي في موقع الضعف السياسي والدبلوماسي، ما يسمح بإجراء زيارات من هذا النوع دون ضغوط بروتوكولية. السلطة في تونس، التي تعاني من عزلة إقليمية ودولية متزايدة، قد تكون مستعدّة للتجاوب مع مثل هذه المبادرات، خاصة إن كانت تحمل وعودًا بدعم مالي أو سياسي أو على الأقل “تبييض” دبلوماسي عبر استقبال رئيسة حكومة أوروبية.
رابعا: غياب الشفافية وتهميش المؤسسات: تطرح الزيارة أيضا أسئلة حول طبيعة النقاشات التي جرت، خاصة في ظل غياب التغطية الإعلامية التونسية أو الإيطالية الدقيقة، وعدم صدور بيانات رسمية واضحة ومفصّلة. هذا الغموض يفتح الباب أمام الكثير من التكهنات: هل تم التطرق إلى مسائل أمنية؟ اتفاقات غير معلنة حول الترحيل أو إدارة الحدود؟ دعم مالي مباشر؟ كل هذه السيناريوهات تظل ممكنة في ظل غياب الشفافية وتهميش دور المؤسسات التشريعية والإعلامية في البلدين.
ويخلص الكرباعي إلى أن “الزيارة لم تكن تقنية ولا رمزية فقط، بل كانت محمّلة برسائل سياسية تتجاوز عناوين الهجرة والتنمية. شكلها المفاجئ والمحدود يشير إلى أن هناك رغبة في تجاوز المسارات التقليدية للدبلوماسية، وفرض واقع جديد بعيدًا عن الأضواء. لكن هذا الأسلوب، رغم فعاليته على المدى القصير، قد يعمّق أزمة الثقة بين الشعوب ومؤسساتها، سواء في تونس أو في إيطاليا”.
وفي كل الأحوال، “من المهم أن تواصل الصحافة والفاعلون المدنيون والحقوقيون في البلدين مراقبة هذه التحركات، وطرح الأسئلة المحرجة، لأن ما يتم التفاوض عليه باسم “المصلحة المشتركة” قد يكون أحيانا على حساب الحقوق والمبادئ”.
دعم داخلي لهذا الطرح
تتفق الصحفية منية العرفاوي مع هذا التحليل، حيث اعتبرت، في تدوينة على فيسبوك، أن الزيارة جاءت ضمن سياق إقليمي ودولي معقّد، شمل لقاءات وتحركات أخرى في الجزائر والولايات المتحدة، ما يشير إلى أن الملف التونسي بات جزءا من ترتيبات أوسع.
وتذهب العرفاوي أبعد من ذلك، مشيرة إلى تنافس خفي بين ميلوني وترامب على إعادة تشكيل النفوذ في منطقة المغرب العربي، مؤكدة أن “ما يُطرح على الطاولة ليس فقط ملف الهجرة، بل مستقبل العلاقة مع أفريقيا ككل”، في ظل انتقال الخطاب السياسي الغربي من منطق المساعدات إلى منطق الشراكة والاستثمار.
وكتبت العرفاوي: “زيارة بُرمجت على عجل حسب ما تسرّب إلى الصحافة الايطالية، في توقيت له سياقاته ودلالاته الإقليمية والدولية.. تأتي بعد قمة رجال الأعمال (جزائر – ايطاليا) في روما ولقاء تبون بميلوني وزيارة المبعوث الأمريكي إلى تونس في جولته المغاربية وتقرير مسعد بولس الذي من المتوقع أن يكون قدّمه لترامب وهو الذي أتى بخطة “الكشّاف” الذي يريد أن يعاين عن قرب المواقف والرؤى وحتى طبيعة الأشخاص الذين ستتعامل معهم الولايات المتحدة في الأيام القادمة”..
وتضيف: “بعد أن قرّر ترامب أن تكون المنطقة المغاربية ضمن الاهتمامات الأميركية المباشرة أعتقد أن الأمر في الكواليس أعمق من “خطة ماتي” وأهداف ميلوني في أفريقيا ورؤيتها لطبيعة العلاقة.. فهذا نظريا قد حُسم مع تونس بشكل واضح منذ البداية و في تلك الاتفاقية الغامضة (…) الموسيلينة الصغيرة تريد أن تكون حليفة جيدا لترامب في حوض المتوسط ولكنها لن تقبل بسهولة أن يشفط ترامب لنفسه ما تعبت في تهيئته كل المدة الماضية وما خططت له جيدا.. بدء من الهجرة وصولا إلى جني الثمار!”.
كما لا تنفصل زيارة ميلوني عن السياقات الإقليمية حيث جاءت بعد أيام من لقاءها بتبون في روما، وبعد تونس كان لها قمة في تركيا مع الرئيسي رجب طيب أردوغان ورئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا عبدالحميد الدبيبة بحضور وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، ورئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن، ومستشار الرئيس التركي للسياسة الخارجية والأمن عاكف تشاغاطاي قليتش.
الاهتمام لم يكن تونسيا فقط؛ فقد رصدت الصحف الإيطالية الكبرى مثل La Repubblica وLa Stampa غياب الشفافية في تغطية الزيارة، معتبرة أن “مؤتمر ميلوني لم يكن صحفيا بحضور الإعلام، بل عبارة عن تصريحات مصوّرة أمام كاميرا فقط، ما أثار انتقادات بشأن شفافية اللقاء”. وأدلت صحيفة لوموند الفرنسية بدورها معتبرة أن زيارة ميلوني الرابعة إلى تونس خلال أقل من عام، (آخر زيارة أبريل 2024) تأتي في سياق الحسابات الانتخابية الأوروبية لرئيسة الوزراء الإيطالية.
في المحصلة، تكشف زيارة ميلوني سواء من حيث الشكل أو التوقيت، عن مشهد دبلوماسي جديد يتشكّل بهدوء في منطقة المغرب العربي، حيث تُعاد صياغة العلاقات بين دول الجنوب والاتحاد الأوروبي بناء على توازنات جديدة، ومصالح تتقاطع أحيانا وتتناقض أحيانا أخرى.
ورغم أن تونس تبدو ظاهريا طرفا مضيفا في زيارة ميلوني، فإن القراءة المتأنّية تشير إلى أنها كانت أشبه بساحة عبور لمصالح دولية متقاطعة، أكثر منها فاعلا في صياغة هذه المصالح. فالدولة التي كانت يوما ما تُقدّم كنموذج انتقالي، تجد نفسها اليوم أمام استحقاقات معقدة، تُدار عبر زيارات مباغتة وصفقات غير معلنة وضغوط تتكثف في صمت.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس