إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. أعلنت وزيرة المالية التونسية عن تسديد نصف ديون البلاد الخارجية بنهاية شهر فبراير الماضي، وستسدد بقية أقساط القروض خلال النصف الثاني من سنة 2024″. قد يبدو هذا الخبر في ظاهره جيّدا ومبشّرا وسط الأزمة الاقتصادية الخانقة لكنه يحمل في باطنه بالنسبة للتونسيين زيادات قادمة في الأسعار وترفيع في الضرائب في ظل علاقة شدّ وجذب متواصلة مع صندوق النقد الدولي تدفع تونس للبحث عن بدائل إما من خلال الاستدانة من البنوك الأوروبية والعالمية أو عبر إعادة توزيع الأوراق وتطويع السياسات وفق المتغيرات الدولية.
وقالت وزيرة المالية التونسية سهام البوغديري في جلسة عامة في البرلمان يوم الثلاثاء 2 جويلية/يوليو، إن الدولة سددت 54 بالمئة من إجمالي الدين الخارجي البالغ 12.3 مليار دينار (3.9 مليار دولار أمريكي)، وأبرز القروض التي تم سدادها حتى الآن، القرض الرقاعي (سلفة) بـ850 مليون يورو في فبراير الماضي وأقساط من قرض صندوق النقد الدولي بقيمة 305 مليون دولار.
ونقلت وكالة تونس أفريقيا للأنباء عن البوغديري أن “تونس ستسدد بقية أقساط القروض خلال النصف الثاني من سنة 2024”. وأعقبت تصريحات الوزيرة، مناقشة البرلمان التونسي لاتفاق تمويل بين الدولة وعدد من البنوك المحلية لتمويل الموازنة العامة.
وتبحث الحكومة التونسية عن حلول ترقيعية لمواجهة الأزمة الاقتصادية وخلاص ديونها في ظلّ تعثّر مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي. وقد راجت مؤخرا تدوينة على صفحات موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك تقول إن “تونس تقطع التعامل مع صندوق النقد الدولي وقروضه المجحفة”.
وربط متابعون بين التدوينة وتصريح للنائب بمجلس نواب الشعب، نبيل الحامدي، لإذاعة جوهرة أف أم الخاصة، جاء فيها: “تم القطع مع صندوق النقد الدولي، لكن سنواصل الاقتراض نظرا للوضع الراهن الذي تعيشه الدولة التونسية”. وأضاف أن “الجميع كانوا على علم بأن تونس ستلجأ للقروض خاصة بعد المصادقة على الميزانية بعجز قدّر بـ 10 مليار دينار”.
وتواجه البلاد صعوبات في تعبئة الموارد لسد النقص في السيولة مع تعثر اتفاق قرض بقيمة 1.9 مليار دولار مع صندوق النقد الدولي يعود إلى أكتوبر 2022، بسبب خلافات حول حزمة الإصلاحات المطلوبة. اشترط صندوق الدولي على تونس التقليص من الدعم ومراجعة الأجور في القطاع العام وإعادة هيكلة المؤسسات العمومة لمنح تونس القرض. لكن، رفض الرئيس قيس سعيّد، وأيضا المؤسسات النقابية على رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، الاتفاقية نظرا لأن ذلك قد يتسبّب في اضطرابات اجتماعية وخيمة.
القروض الثنائية
حول تأثير سياسات صندوق النقد الدولي على الأبعاد الاجتماعية والسياسية لتونس بعد الثورة، يقول المحلل السياسي المقيم بباريس، نزار الجليدي، إن علاقة تونس بصندوق النقد الدولي منذ 2011 وإلى اليوم مرت بمرحلتين هامتين على الأقل تميزت كل منهما بخصوصياتها وتأثير السياسي على المالي فيها.
ويوضح الجليدي لـ”أفريقيا برس”؛ “امتدت المرحلة الأولى منذ 2011 وإلى حدود بداية 2021 وتميّزت باعتماد شبه كلي للمالية العمومية والموازنة العامة للدولة على قروض الصندوق. وكان آخر قرض تحصلت عليه في عام 2016، بقيمة 2.88 مليار دولار، تم صرفه على مدى 4 سنوات”.
ومع التغيير السياسي في تونس في 25جويلية 2021 تعثرت المفاوضات بخصوص التحصل على قرض يبلغ 1.9 مليار دولار بسبب رفض تونس للشروط التي اعتبرتها مجحفة وأهمها الرفع التدريجي على دعم المواد الغذائية والمحروقات وكذلك التفويت في بعض المؤسسات العمومية التي تعاني صعوبات مالية فضلا عن المطالبة بالتقليص من كتلة الأجور.
ورغم نجاح تونس في تسديد كل ديونها الخارجية لسنة 2023 والسداسية الأولى من سنة 2024، فإنها أعلنت عن قطع تعاملها مع صندوق الدولي بتلك الشروط، وبالتالي فقد تم التوجه إلى القروض الثنائية مع دول ومؤسسات مالية أخرى.
والهدف من هذا التوجه هو رغبة الدولة في استعادة دورها الاجتماعي وهو ما يتنافى مع شروط صندوق النقد الدولي التي ذكرنا. ورغم أن نسب الفائدة في القروض الثنائية وخارج إطار صندوق النقد الدولي تعتبر مشطة إلاّ أنها تحقّق السيادة الوطنية ولا تمنح بشروط تكاد تكون استعمارية.
جهل بالشارع التونسي
قد تنجح سياسة الإصلاح الاقتصادي مع بعض الدول الأخرى، لكن بالنسبة لتونس الوضع مختلف. بل إن شروط البنك الدولي، التي يصفها بالإصلاحات الهيكيلية، تبيّن عدم معرفة عميقة بالشارع التونسي، خاصة على مستوى دعوته إلى خوصصة بعض المؤسسات الكبرى، مثل الشركة التونسية للكهرباء والغاز أو الخطوط الجوية التونسية وغيرها، أو انتقاد سياسة التعامل مع أجور القطاع العام، وهو أمر وقفت له النقابات والاتحاد العام التونسي للشغل بالمرصاد، مثلما وقف التونسيون لأي دعوة لرفع الدعم عن المواد الأساسية مثل الطحين والخبز والزيت والسكر.
ما يراه خبراء صندوق النقد الدولي، إصلاحات اقتصادية طموحة وضرورية وإن كانت قاسية، يعتبره التونسيون “تهديدا” لمقدرتهم الشرائية ومساسا بقوتهم. وهم يقبلون بالوقوف طوابير لشراء الخبز رغم الحر أو البرد، المهم أن لا تكون هناك زيادة في سعر الخبزة (200 مليم)، وإن اضطر التونسيون للقبول، وإن على مضض، بزيادات في أسعار بعض المواد الأخرى لكن يبقى رفع الدعم الكلي أمرا غير مقبول.
وكلما دار حديث عن رفع الدعم باعتباره من أكثر المواد الاستهلاكية التي تحصل على الدعم، يستحضر التونسيون ذكرى أحداث الخبز (1984) التي أرغمت الزعيم الحبيب بورقيبة وهو في أوج قوته على التراجع عن الترفيع في سعر الخبز ولو بزيادة بسيطة. وهو أمر يبدو أن الرئيس قيس سعيّد يضعه أيضا في الحسبان، فـ”الخبزة” عند التونسيين (وهي هنا استعارة للتدليل على كل ما يتعلق بمصدر الرزق والمعيشة من عمل ولقمة العيش) شيء مقدّس.
وكان سعيّد استحضر في تصريحات سابقة له أحداث الخبز وقال، في تأكيد على رفضه إصلاحات صندوق النقد الدولي القائمة على تحديد الدعم عن المواد الأساسية، “الدولة التونسية لن تتخلى عن دورها الاجتماعي لأن الفقراء والبؤساء في تونس هم الذين قاموا بالثورة وانتفضوا ضد الظلم والاستبداد”.
ونستحضر هنا الصورة الشهيرة خلال ثورة 14 يناير 2011 لرجل تونسي يحمل خبزة وكأنها “رشاش” يتوجه بها لرجال الشرطة في دلالة عميقة عن سبب قيام الثورة وغضب الشارع. من هنا، ينزّل البعض التصريحات الأخيرة بخصوص قطع العلاقة مع صندوق النقد الدولي، وإن لم تكن رسمية ومؤكدة، في سياق الحملة الانتخابية للرئيس قيس سعيّد مع تحديد موعد الانتخابات في 6 أكتوبر 2024.
أغلب ناخبي الرئيس قيس سعيّد من الطبقات المتوسطة والفقيرة وهي تمثل الأكثرية في المجتمع التونسي اليوم ولم تعد قادرة على استيعاب المزيد الضغوط الاقتصادية، بل إنها تحمّل صندوق النقد الدولي، الذي رفض إقراض تونس إلاّ بشروطه، مسؤولية وقوع البلاد في مستنقع ديون البنوك الأوروبية والعالمية، واللجوء إلى السياسات المالية الترقيعية في ظل غياب موارد كافية.
يجد التونسيون أنفسهم، نتيجة سياسيات البنك الدولي، بين مطرقة الترفيع في الضرائب وارتفاع الأسعار وغياب بعضها بسبب عدم التمكن من استيرادها وتراجع سعر الدينار، وسندان شروط مؤسسة الإقراض الدولية التي تهدد نهجا تسير عليه الدولة منذ الاستقلال.
ووفق بيان للمرصد الاجتماعي التونسي، حصل موقع “أفريقيا برس” على نسخة منه، انتهت السداسية الأولى لسنة 2024، بتسجيل 655 تحركا احتجاجيا، قادها العمال والسكان والعاطلون عن العمل. ومثلت المطالب المهنية وتحسين ظروف العمل وصرف الأجور المطالب الأكثر تداولا. كما حافظ مطلب الحق في التشغيل على مكانته المتقدمة ضمن الشعارات المرفوعة من قبل الفاعلين الاجتماعيين.
وفي ظل هذه الضغوطات، يتطلع التونسيون بأمل إلى المتغيّرات الدولية وتغير موازين القوى العالمية مع ظهور تكتلات جديدة وتحرك البوصلة نحو الشرق بما قد يساعد تونس في تعديل كفة الميزان، على الأقل وإن كان التوجه شرقا لا يعني حلولا جاهزة أو أموالا ستتدفق على البلاد.
ويفند الخبير الاقتصادي المختص في المخاطر المالية، مراد الحطاب، فكرة أن لا بدائل عن صندوق النقد الدولي بالنسبة لتونس، حيث يمكن للكتل الاقتصادية الصاعدة في العالم أن تكون بديلا. وأوضح في تصريحات لإذاعة جوهرة أم ف أن “الشبكات العالمية المعروفة باسم الشبكات العالمية للأمان المالي، تشكل بديلا محترما للتمويل والاستثمار”.
ويضيف أن هذه الشبكات “تتكون من عدة مستويات على غرار المستوى الثنائي من خلال اتفاقيات تبادل العملات الثنائية والمستوى الإقليمي من خلال آليات مالية إقليمية يضاف إلى ذلك إمكانية النفاذ للسيولة عن طريق الأرصدة المالية الإقليمية واتفاقيات التبادل الثنائي فضلا عن وجود صناديق استثمارية لديها نفس الإمكانيات المتاحة لصندوق النقد والتي تخول لتونس ولغيرها من الدول الصاعدة تنويع مصادر تمويلها بعيدا عن مخاطر الصدمات الخارجية وفي سياق يدعم خطوط دفاع الاتفاقيات المالية الإقليمية بشكل واضح”.
في ذات السياق، يقول نزار الجليدي “أنه لا مشاكل لتونس في تسديد قروضها وهي دولة تتمع بثقة الدائنين وحتى صندوق النقد الدولي لا تزال أبوابه مفتوحة أمامها وهو ما أكده أكثر من مسؤول بالصندوق”، بينما يشدّد الشارع التونسي، بمختلف أطيافه، أن لا مجال للامتثال الأعمى لخطة صندوق النقد الدولية “الإصلاحية”، رغم كل التداعيات الاقتصادية والاجتماعي التي انجرت عن رفض هذه الخطة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس