جلال الورغي
أفريقيا برس – تونس. تمرّ هذه الأيام أربعة أعوام على الانقلاب في تونس، والذي أقدم عليه الرئيس قيس سعيد، وأنهى بمقتضاه العملية الديمقراطية في البلاد، وحل المؤسسات التي انبثقت عن مسار ديمقراطي دستوري استمر لعشر سنوات.
مسار جعل من تونس حسب العديد من المهتمين بالتحولات الديمقراطية “استثناء ديمقراطيًا” في منطقة طاردة للديمقراطية، بينما اختار قيس سعيد أن ينهيه ويفكك كل مؤسساته، معتبرًا أن تلك العشرية الذهبية للمسار الديمقراطي هي عشرية سوداء.
ومع استمرار الجدل بشأن هذه التجربة اللافتة التي استقطبت اهتمام العديد من الخبراء والباحثين عربًا وأجانبَ، يأتي كتاب المفكر التونسي عزالدين عبدالمولى “الانتقال الديمقراطي في تونس (2011- 2021) مراجعات نقدية للمسار والأدوار” ليقدم لنا سردية موثقة، عبر قراءة نقدية لتجربة الانتقال الديمقراطي، أطرها كلها ضمن ثلاثة مفاهيم أساسية جدلية، وهي: مفهوم الثورة، ومفهوم الانتقال الديمقراطي، ومفهوم الانقلاب. ويمكن القول إن هذه المفاهيم الثلاثة هي المؤطّرة للعشرية، ثورة ومسارًا وانقلابًا.
وإذا كان الجدل المثار لم يستمر طويلًا بشأن ما حصل في تونس 2010-2011، هل هو ثورة أم انتفاضة بعد أن حسمت الطبقة السياسية الأمر، وانعكس ذلك الحسم دستوريًا باعتماد فكرة الثورة.
وأثبتت تجربة “الانتقال الديمقراطي”، بما حققته من توافقات، وما أفرزته من مؤسسات، وما أشاعته من ثقافة سياسية أنها فعلًا خطت خطوات في الانتقال باتجاه الثقافة الديمقراطيّة رغم الارتباكات والتعثرات ثم الانتكاسات.
لذلك خلص الكاتب في هذا الصدد إلى القول إنه “بعد مراجعة مسار الثورة التونسية، وأدوار الفاعلين فيها وفي المرحلة الانتقالية مراجعة نقدية، يمكن القول دون مبالغة: إن عشرية الانتقال الديمقراطي التي عاشتها تونس بين عامي 2011 و2021، بإنجازاتها وإخفاقاتها تمثل ذروة ما وصل إليه الاجتماع العربي الحديث على صعيد الإدارة السياسية التشاركية السلمية للشأن العام”.
أما بالنسبة لمفهوم “الانقلاب” فالجدل الذي أثاره، جاء على خلفية إنكار قيس سعيد أن ما فعله كان انقلابًا وإنما هو تصحيح مسار، وهو موقف ساندته فيه بعض القوى السياسية والمنظمات، بدوافع سياسية حزبية لا ترتكز إلى تفسير دستوري أو مؤسساتي.
ولم تمر أشهر على تاريخ 25 يوليو/ تموز 2021، حتى أكد وبرهن قيس سعيد- من خلال إجراءات قوّض من خلالها كل المؤسسات الدستورية والمكتسبات السياسية والحقوقية، مكرّسًا نفسه سلطة مطلقة- أن ما أقدم عليه كان انقلابًا مكتمل الأركان، لا صلة له بمفهوم تصحيح المسار، أو إنقاذ الثورة.
في تقييمه لتجربة الانتقال الديمقراطي، اعتبر عبدالمولى أن النخبة في تونس بعد أن اندرجت متشاركة في تأسيس إطار واعد للانتقال الديمقراطي، من خلال توافقاتها وتفاهماتها وتقديم المصلحة المشتركة على خلافاتها السياسية والفكرية، ونجحت في التأسيس لديمقراطية ناشئة ورسم خارطة طريق نجحت إلى حد كبير في وضع لبنات نموذج سياسي تشاركي قابل للحياة، فقد انقلب هذا التمشّي في مرحلة لاحقة، إلى مقاربة خلق الأزمات بدل الحوار، وتعطيل المسار بدل دفعه.
انقسمت النخبة، وغلّبت الحسابات الضيقة على المصلحة العامة، ما خلق بيئة هشة منذ البداية لاستفحال الأزمات التي وجد فيها قيس سعيد مبررًا للانقلاب على التجربة وإعادة تشكيل النظام السياسي وفق أفكار ورؤى فردية أبعد ما تكون عن الديمقراطية وقيمها المشتركة.
فالنخبة التونسية، بكل أطيافها السياسية والاجتماعية والإعلامية والفكرية، أسهمت حسب الكاتب في إفشال الانتقال الديمقراطي، وفي تهيئة الأرضية للانقلاب عليه بعد أن كانت مساهمة في تأسيسه ودفعه إلى الأمام.
بيد أن الكاتب نبّه لعاملين أساسيين إضافيين ساهما في هشاشة ثم توقف مسار الانتقال الديمقراطي، وهما عاملان يحتاجان إلى اهتمام أكبر من الفاعلين السياسيين وأيضًا من المختصين في دراسة حركات التغيير والإصلاح في العالم العربي.
ويتعلق الأمر بالسياق ما بعد الاستعماري (ما بعد كولونيالي) الذي جاءت فيه الثورة التونسية وتجربة الانتقال الديمقراطي. إذ تعيش أغلب البلدان التي خرجت من حالة الاستعمار المباشر قبل أكثر من نصف قرن وضعًا هجينًا تختلط فيه مظاهر الاستقلال بأسباب التبعية، فلا هو وضع استقلال كامل، ولا هو وضع استعمار ظاهر.
ولذلك تعيش هذه البلدان ومنها تونس في ظل هذا السياق وتتأثر به سلبيًا في سياستها واقتصادها وتعليمها وعلاقاتها الدولية. ولهذا كما يقول الكاتب تعد عملية بناء ديمقراطية راسخة، أو بناء اقتصاد قوي أو تعليم متين في سياق ما بعد كولونيالي، معركةً من معارك استكمال التحرر الوطني.
كما أن الهيمنة الخارجية تستمر في إعاقة محاولات النهوض بأساليب مختلفة، كثيرة ليست ظاهرةً. إنما قد نجدها في خطابات النخب “الوطنية” وأيديولوجياتها وارتباطاتها، وفي هشاشة التعليم وتخلّفه، وفي تبعية الاقتصاد واختلال توازنه، وفي الكثير من الأشكال الثقافية السائدة وفي “رموزها”.
يبقى السؤال في التعاطي مع هذا المعطى، ما هو حجم وثقل تأثير هذا السياق في تجربة الانتقال الديمقراطي، خاصة إذا ما عطفناه على العامل الخارجي، كمعطيَين متساندَين ومتكاملَين في التأثير والضغط على التجربة الناشئة؟
ولا شك أن فهم العوامل وحجم تأثيرها في تجربة الانتقال الديمقراطي يساعد أيضًا على إدراك شروط الاستئناف إن كان الاستئناف ممكنًا، أو خيار إعادة التأسيس إن اقتضى المشهد ذلك.
ولا شك أن ما يمرّ به التونسيون في ظل حكم قيس سعيد الفردي والمطلق من ضغوط وأزمات على جميع الأصعدة وما خلّفه من خيبة أمل بعد رهان خاسر عليه، يعيد اليوم لتلك العشرية بعض الاعتبار، ويعزّز حجة القائلين إن البديل عن الديمقراطية لا يمكن أن يكون أفضل منها. وبالتالي الحاجة لعودتها مصيرية للبلاد.
بيدَ أن عبدالمولى يرى أن مسار تجربة الانتقال الديمقراطي من بدايته حتى نهايته 25 يوليو/ تموز 2021، يستوجب نقدًا مزدوجًا.
أولًا؛ نقد جماعي للتجربة من أجل الوقوف على عيوبها وأسباب تعثرها ثم توقفها. وكذلك بهدف إبراز نقاط قوتها وتثمين ما أنجزته في الواقع وما أضافته للحياة السياسية التونسية ولتجارب التغيير عامة.
وثانيًا؛ نقد لحملة التشويه الممنهجة التي استهدفت تلك التجربة، فطمست الكثير من الحقائق، وغطت على الكثير من الإنجازات، وروّجت لسردية مضللة، تمثل اليوم أحد التحديات أمام جهود الاستئناف، أو إعادة تأسيس لعملية ديمقراطية.
وفي هذا الصدد، يعتبر عبدالمولى أن الديمقراطية من جديد أو العودة للتأسيس لا تعني التخلي عن منجزات عشرية الانتقال الديمقراطي ومكتسباتها بأية حال، بل تعني تصحيح أخطائها وتجاوز إخفاقاتها وتجديد نخبها بعد استخلاص دروسها.
فبناء ديمقراطية جديدة لن يأتي هذه المرة من فراغ، بل سيتأسس على تجربة مسنودة بخبرة في تدبير شؤون الدولة وإدارة الاختلاف بين الشركاء واعتراف الجميع بالجميع.
ويقترح الكاتب مجموعة من شروط والمتطلبات يستوجب توفرها والتهيؤ بها، لإعادة الديمقراطية، تبدأ بالتعلّم والاعتبار من دروس التجربة الأولى والمراجعات المستوجبة.
ثم التسلّح بمقاربات وروحية جديدة تتجاوز الأفق الأيديولوجي وتجترح أفقًا سياسيا وطنيًا، يتعالى عن الصراعات الحزبية الضيقة. وتتطلب هذه المقاربة الجديدة المطلوبة من القوى والنخب السياسية رفع مستوى التنسيق والتعاون إلى ما يشبه ميثاق ديمقراطي إستراتيجي (أشبه بالكتلة التاريخية)، يؤسس لديمقراطية مستدامة، لا تخضع للأهواء الحزبية ولا يخلخلها التنافس السياسي.
كما يفرض التأسيس للديمقراطية إعادة ترتيب الأولويات الوطنية، بما يقتضيه ذلك من التوافق على أولويات وطنية حيوية، ستساعد وستخفف بالضرورة من الصراعات والانقسامات الحادة والمعارك الصغيرة، وترشّد الاختلاف ضمن رؤية وطنية مشتركة.
ولا شك أن هذا التأسيس الجديد للديمقراطية يجب حمايته من خلال سد ثغرات المؤسسة الدستورية التي أُتيت منها التجربة السابقة، بما يقتضيه من إقامة كل مؤسسات الحكم الدستورية لضمان استقرار النظام، وتمكينه من تجاوز الأزمات في إطار دستوري، عبر الاحتكام لمحكمة دستورية يتوجّب تركيزها بعيدًا عن الحسابات السياسية.
ولا شك أن إشاعة ثقافة سياسية ديمقراطية تحتفي بالاختلاف والتعدد والحوار من شأنها أن تجعل الثقافة الديمقراطية حالة ذهنية، وثقافة سياسية، وموقفًا أخلاقيًا، تساعد على حماية القيم الديمقراطية والدفاع عنها عند الأزمات السياسية الطارئة.
ونشر هذه الثقافة الديمقراطية وإشاعتها، يحتاجان إلى رافعة إعلامية وطنية، تنبع من مشروع التأسيس الديمقراطي، وتتبناه، ولا تكون معول هدم وتشكيك به.
ولا شك أن منظومة الإعلام على حيويتها تحتاج مراجعات عميقة، لتكون جزءًا من هذا التأسيس الديمقراطي، لتكون هي أكثر المستفيدين منه تنوعًا وتعددًا وحرية.
هذه الشروط والمتطلبات التي أشار إليها عبدالمولى كخلاصة لكتابه، لا شك أنها تحتاج للاستجابة لها والتفاعل معها نخبة وكفاءات وكوادر وطنية نوعية عجزت التجربة السابقة عن استيعابها، أو فشلت في الاستفادة منها، بسبب معايير الولاء أو التسويات السياسية والحزبية.
كما يتطلب هذا التأسيس الحاجة لقراءة حضارية جيوسياسية لتونس، تاريخًا وموقعًا ومكانة وأهمية، وبلورة سردية إيجابية، مرتكزًا لرؤية نهضوية واعدة ورائدة، تعبر بتونس إلى المستقبل على أرضية صلبة وبروح واثقة من المستقبل.
تبدو تونس اليوم رغم منظومة الحكم الفردية المطلقة التي فرضها قيس سعيد أمام فرصة تاريخية لتجاوز هذه المنظومة القائمة؛ منظومة فشلت في تحقيق الأدنى من الوعود التي بنت عليها سرديتها بعد الانقلاب على المسار الديمقراطي، فاستحالت اليوم خيبة أمل للتونسيين، وأكدت لهم أن الحل لأزمة الديمقراطية ليس الانقلاب عليها، وإنما إصلاحها واستئنافها. ولعل تلك أيضًا كانت خلاصة الكاتب والكتاب.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس