كيف يواجه المجتمع التونسي تعقيدات الحرب في الشرق الأوسط

3
كيف يواجه المجتمع التونسي تعقيدات الحرب في الشرق الأوسط
كيف يواجه المجتمع التونسي تعقيدات الحرب في الشرق الأوسط

إلهام اليمامة

أفريقيا برس – تونس. مع تصاعد الحرب الإسرائيلية على غزة والتصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل، وجد المجتمع المدني التونسي نفسه في قلب معادلة إقليمية معقدة، تتجاوز مجرد التضامن الإنساني لتلامس أسئلة الهوية والسيادة وموقع تونس من الصراعات الإقليمية، وتسلّط الضوء على دور المجتمع المدني في تأطير هذا “الموقع” بعد أن أعاد التصعيد الأخير طرح إشكاليات قديمة أبرزها الاصطفاف مع “محور المقاومة” وما إذا كان دعم طرف في هذا النزاع يُحتسب ضمن الولاء العقائدي أو السياسي له، أم أنه نابع من موقف مبدئي ضد الاحتلال والعدوان.

يعكس هذا الانقسام في التفاعل الشعبي حجم الاستقطاب الحاصل بين المواقف المبدئية الرافضة للتطبيع والداعمة لفلسطين، وبين التخوّفات من التوظيف الطائفي والسياسي، خاصة وأن المجتمع المدني في تونس منخرط بشكل كبير في القضية الفلسطينية المتداخلة مع الحرب بين إيران وإسرائيل ويجد نفسه اليوم أمام مشهد يفرض عليه الموازنة بين رفض التطبيع والتضامن مع غزة، وبين الحذر من الانخراط العاطفي في محاور إقليمية.

وبمتابعة تصريحات شخصيات ومؤسسات من المجتمع المدني والنقابات والأحزاب، يظهر توازن في خطاباتها وتصريحاتها من جهة رفض صريح للتطبيع. وأصدرت منظمات مثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بيانات تندد باستمرار الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين، داعية إلى موقف عربي موحد يضع حدا للاحتلال. وتجنبت تلك المنظمات في الغالب إبداء موقف صريح من إيران.

في المقابل، عبّر عدد من الناشطين الشباب والمجموعات المناهضة للتطبيع عن تضامنهم مع أي طرف يواجه إسرائيل عسكريا، معتبرين أن ما يجري “يضعف الكيان الصهيوني ويكشف هشاشته”، دون أن يعني ذلك، في نظرهم، تبني سياسات إيران أو نموذجها السياسي. كما عبّر نواب وقيادات من أحزاب مثل حركة الشعب والتيار الشعبي عن دعمهم لما وصفوه بـ”حق الرد على الكيان الصهيوني”.

وتعقيبا على ذلك، يشدّد الكاتب والناشط الحقوقي رياض الشرايطي على أهمية دور المجتمع المدني، قائلا في تصريحات لـ”أفريقيا برس”: “في ظلّ الموقف الرسمي الحذر الذي تتبناه الدولة تجاه الحرب، غالبا تحت ذرائع “الحياد” أو “الحكمة الدبلوماسية”، يبرز دور المجتمع المدني الجذري كقوة مقاومة معرفية وشعبية تتجاوز الخطابات الرسمية المهادنة”.

عند تصاعد التوتر في غزة ثم في إيران، نظّمت منظمات المجتمع المدني وقفات احتجاجية رمزية، تعبر فيها عن رفض الحرب وتندد بالاعتداءات على المدنيين. في هذه التحركات، يتجلى بوضوح استقلال المجتمع المدني عن الخطاب الرسمي.

وبرزت في تونس العديد من المبادرات الشعبية والمنظمات المدنية التي عبّرت عن رفضها للتطبيع مع إسرائيل، وأعادت التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية في الوجدان التونسي. وهذا الرفض لم يقتصر على الوقفات الاحتجاجية، بل ترجم أيضا من خلال حملات إعلامية ووقفات احتجاجية رفعت شعار المقاومة دون تفصيل أو إقصاء.

وكان عضو الهيئة المديرة لجمعية أنصار فلسطين مراد اليعقوبي قال، خلال الوقفة الأسبوعية المناصرة لغزة في تونس العاصمة السبت الماضي: “نعتبر أن المواجهة الصهيونية الإيرانية هي امتداد للمواجهة بين إسرائيل وغزة وهي من نتائج طوفان الأقصى”. وأضاف اليعقوبي: “شعاراتنا مناهضة لهذا العدوان ومناصرة لموقف إيران التي تم الاعتداء عليها”.

أيضا من هذه التحركات لقاء “تقاطع المقاومات من أجل فلسطين” الذي جمع مشاركات ومشاركين من مختلف الحركات والتوجهات ومنهم مشاركين في قافلة الصمود. وقدّ شدّد المشاركون في اللقاء، الذي نظّمته مجموعة التضامن الأفريقي، على “أهمية الزخم الذي يشهده العالم اليوم في سياق دعم القضية الفلسطينية ومناصرتها من المسيرة العالمية نحو غزة إلى قافلة الصمود المغاربية وأسطول مادلين لفك الحصار برا وجوا وبحرا، حيث تكتب شعوب العالم لحظة تاريخية جديدة تحاول فيها التنظيم ضد الاستعمار والتطهير العرقي ومن أجل الحرية والكرامة والعدالة”.

وقالت هندة الشناوي، من منسقي اللقاء: “هدفنا المساهمة في توسيع فضاءات دعم هذه الحركات ونقاش تحدياتها ومكاسبها والبحث في إمكانيات تقاطعها في إطار نضال جنوبي عابر للحدود و مناهض للاستعمار والامبريالية والعنصرية”.

يعتبر رياض الشرايطي أن “المجتمع المدني، في صيغته العضوية غير المُمَولة ولا المُرتهنة، مطالب بأن يتحوّل إلى منصة تعبئة شعبية، ومنبر توعية سياسية، ورافعة وعي طبقي وقومي، تفضح جوهر المشروع الصهيوني-الأمريكي باعتباره مشروعا إمبرياليا يعمل على تفكيك المنطقة ونهب مواردها وتكريس التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية”.

ويضيف: “لا يكفي أن يظلّ المجتمع المدني حبيسا للدورات التدريبية والبيانات الرمادية، بل ينبغي أن ينخرط فعليا في معركة الوعي، من خلال:

– تنظيم ندوات شعبية تتناول الربط بين الحرب على إيران واستهداف عموم الشعوب.

– إنتاج محتوى ثقافي وفني مقاوم، يُعرّي الصهيونية بوصفها أداة استعمارية لا مجرّد خصم جغرافي.

– بناء تحالفات مع النقابات والحركات الطلابية والنسوية لتوسيع قاعدة الفهم والممانعة”.

ووفق الشرايطي: “إن الصّمت أو التردّد في هذه اللحظة يُعدّ شكلا من أشكال التواطؤ، لأن ما يُخطَّط لإيران ليس سوى مدخل لتفكيك ما تبقّى من استقلال منطقتنا، وإعادة تشكيلها وفق هندسة استعمارية جديدة. ولهذا، فإنّ واجب المجتمع المدني أن يكون صوتا للمستقبل، لا صدى للسّلطة، وأن ينقل المعركة من نخبة مغلقة إلى وعي جماهيري قادر على الربط بين الغلاء، والبطالة، والحروب، والتطبيع، والاستغلال الكولونيالي المعاصر”.

ويستشهد رياض بما كتب إدوارد سعيد: “المثقف الحقيقي هو من يربط بين القصف في الخارج والقهر في الداخل، ويقاومهما معا”، مشدّدا على أن المعركة ليست عسكرية فقط، بل معركة على الوعي، والمجتمع المدني هو خندقها الأهم.

وهنا يلفت خبراء إلى أن دور المجتمع في تونس يتضاعف اليوم في ظل ما تم تسجيله من انقسامات في المواقف. وتلخّص تدوينة تناقلتها صفحات الكثير من التونسيين عبر موقع فايسبوك، تقول: “وقوفك مع إيران لا يجعلك شيعيّا لكنّ وقوفك ضدّها يجعلك صهيونيّا”.

من بين من نشر التدوينة الأستاذ أحمد مال، الذي سألناه إن كانت هذه التدوينة تعود له فقال: “تلك التدوينة تناقلها كثيرون قبلي.. وليتني كنت أول من نزّلها”. يختزل هذا التمني، كما التدوينة، واقع حال الكثير من التونسيين الذين انخرطوا بشكل فطريّ في دعم المقاومة ومباركة كل صاروخ إيراني يقصف إسرائيل، بعيدا عن حسابات السياسة. في المقابل، هناك من يسعى إلى فتح ملفات قديمة ظهرت حلال فترة حكم التروكيا في علاقة بمساعي نشر التشيع في تونس ومحاولات اختراق إيرانية.

من بين هؤلاء الذين يتحدّثون عن ذلك الباحث أنس الشابي، الذي قال في تصريح لـ”أفريقيا برس”: لا شكّ أنّ الحرب القائمة بين إسرائيل وإيران ستكون لها تبعات على جلّ البلاد المحيطة والعربيّة، وفيما يخصّ تونس أرى أن التمدّد الشيعي الذي عرفناه منذ أن انتصرت الثورة في إيران آخذ في الازدياد والتوسّع. كانت بدايته مع جماعة اليسار الإسلامي التي خصّصت مجلتها 15/21 للترويج للخميني، أمّا بعد أحداث سنة 2011 والضعف الذي عرفته المؤسّسة الأمنية بجانب انفلات الخطاب الديني في الجوامع وانحراف الجامعة الزيتونية عن أداء وظيفتها العلمية”.

في المقابل يقلل رياض الشرايطي من هذا الحديث عن نشر التشيع وما يتردّد عن أجندات إيرانية، معتبرا أن الشارع التونسي واع بكل ما يجري وأن المجتمع المدني بدوره سيكون جدار الصدّ لأي محاولات إن وجدت. وفي ذات السياق يذهب الكاتب والصحفي شادي الزريبي معتبرا بدوره أن “بعض المواقف تقوي الجانب الإسرائيلي حتى لو كان من أطلقها من أكبر أعداء الكيان الصهيوني… “.

ويضيف الزريبي: “هنا يجب أن نمسك العصا من الوسط لكن ليس في سياق مع من نقف، بل نؤيّد المقاومة ونقف مع إيران ضدّ إسرائيل، دون ضرورة الانخراط الفكري والعقائدي والسياسي”، ما تجمعنا هي غزة وفلسطين وعدو مشترك هو إسرائيل”.

وسط هذا المشهد المتشابك يبدو أن المجتمع المدني في تونس واع بحساسية الموقف دوره كفاعل ضروري لتأطير النقاش العام، والتمسك بمبادئ واضحة تقوم على رفض الاحتلال والدفاع عن حقوق الشعوب، ورفض الارتهان لمحاور إقليمية لا تعبّر عن إرادة التونسيين. ولا شكّ في أن الحفاظ على هذا التوازن الدقيق هو التحدي الأكبر اليوم، في زمن تتداخل فيه المعارك الجيوسياسية مع المعارك الهوياتية، ليغدو الصوت المدني صمام الأمان وواجهة الحقيقة.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here