آمنة جبران
أهم ما يجب معرفته
ناقش محمد الكو، نائب مجلس الأقاليم والجهات، أزمة البطالة في تونس، مشيراً إلى ضرورة إعادة توزيع الخارطة التنموية. وأكد أن التعليم والتكوين الحاليين لا يلبيان احتياجات السوق، مما يتطلب تغييرات جذرية في السياسات التنموية. كما دعا إلى تفعيل المناطق الصناعية في الداخل لتحقيق العدالة الترابية وتحسين الاقتصاد.
أفريقيا برس – تونس. قدم محمد الكو، النائب بمجلس الأقاليم والجهات ورئيس لجنة المخططات التنموية بالمجلس، في حواره مع “أفريقيا برس” رؤيته لمعالجة أزمة البطالة وتحسين مؤشر التنمية في البلاد.
ورأى أن “أزمة البطالة هي أزمة خلل هيكلي وليست مجرد نقص في الوظائف، حيث ما زالت منظومة التعليم والتكوين تنتج آلاف الخريجين في تخصصات نظرية لا يطلبها السوق المحلي أو العالمي”، مشيراً إلى “وجود خلل مجالي يؤثر سلباً على فرص التكوين والتشغيل، وهو ما يستوجب إعادة توزيع الخارطة التنموية عبر توزيع مجالات التكوين حسب خصائص كل إقليم.”
ولفت إلى أنه “بوسع المناطق الصناعية أن تدعم الاقتصاد الوطني إذا توقفت عن التمركز على السواحل، وبدأت في تحقيق العدالة الترابية بانتشارها في المناطق الداخلية، وتماهياً مع متطلبات الاقتصاد الحديث والعصري”، داعياً إلى ضرورة أن “تعمل الدولة فوراً على تفعيل المناطق المعطلة بتحويلها إلى مناطق صناعية ‘ذكية’ و’خضراء’ في الأقاليم الداخلية.”
واعتبر أن “البناء القاعدي هو القفزة السياسية الضرورية التي تكسر نموذج الحكم المركزي الذي فشل في تحقيق التنمية طيلة عقود، وهو المسار الوحيد اليوم الذي يمكنه تحقيق تنمية عادلة لأنه يعطي الصوت للمناطق المعنية”. وفق تقديره.
ومحمد الكو هو نائب بمجلس الأقاليم والجهات عن ولاية قابس، ورئيس لجنة المخططات التنموية والمشاريع الكبرى في المجلس.
كيف تقيم أداء المجلس، أي صعوبات وتحديات واجهتكم في مهامكم منذ انطلاقها؟
المجلس الوطني للجهات والأقاليم هو لبنة أساسية ودعامة محورية في مسار الإصلاح التونسي. إن مجرد وجوده يمثل إنجازاً سياسياً لأنه يؤسس لمبدأ العدالة الترابية، والعمل على محاربة التهميش الذي تعانيه المناطق الداخلية والذي طالما نادى به الشعب.
بالنسبة لأداء المجلس: في هذه المرحلة التأسيسية، المهمة الأولى هي بناء إطاره المؤسسي وتحديد آليات العمل وأدواته الرقابية والتخطيطية، إضافة إلى جانب التكوين المعرفي والتقني خاصة في الجوانب التنموية. أيضاً الإعداد للتداول ومناقشة المخطط التنموي 2026/2030، وهو المخطط التصعيدي الذي يبدأ لأول مرة من القواعد المحلية ويقوم على عدة محاور استراتيجية، لعل أهمها التقسيم الإداري الجديد، والذي يحدد الإقليم كحجر زاوية لهذا البناء، ثم المحاور الاقتصادية كالتعويل على الذات والانتقال الرقمي والانتقال الطاقي.
بالنسبة للتحديات والصعوبات فهناك:
التحدي المنهجي: الأصعب هو تجاوز عقلية المركزية المتجذرة في الإدارة التونسية على مدى عقود. يتطلب الأمر وقتاً وجهداً لضمان أن الوزارات المركزية تمنح الصلاحيات الفعلية وهامش الحركة المطلوب للمجالس المحلية كقوة اقتراح.
التحدي الإجرائي: رغم التأصيل الدستوري للمجلس فإننا نحتاج إلى تسريع بعض الأدوات القانونية والإجرائية للمجلس لتمكينه من ممارسة دوره الرقابي والتخطيطي بكفاءة وفعالية.
كذلك نعمل على مزيد الانفتاح خاصة مع الوظيفة التنفيذية لأننا نطرح أنفسنا كشركاء في هذا البناء السياسي والإداري الجديد لتونس.
ما هو تقييمك وقراءتك لقانون المالية للعام الجديد، هل يدعم الدولة الاجتماعية أم يزيد الأعباء على المواطن؟
بالنسبة لقانون المالية 2026 فهو قانون يأتي مع صعوبات مالية وإن كان يكرس الدور الاجتماعي للدولة في العديد من الفصول، إلا أن جانب الاستثمار فيه ضعيف، فالجانب الاجتماعي على أهميته يجب أن يرافقه خلق للثروة. كما إن هذا القانون محكوم بقيد الديون، حيث أن جزءاً مهماً من الميزانية (يصل إلى حوالي 23 مليار دينار لسنة 2026) يذهب مباشرة لخدمة الدين العمومي، وهذا المبلغ هو التزام من الدولة التونسية لكنه يحد من الهوامش المتاحة.
فعندما تكون الموارد المتاحة للاستثمار والتنمية محدودة جداً بسبب الديون، فإن الميزانية تضطر للاعتماد على إيرادات جباية إضافية أو تجميد الإنفاق. هذا يزيد الأعباء بشكل لا مفر منه على المواطن والقطاع الخاص، ويجعل الدولة الاجتماعية ضعيفة وغير قادرة على الاستثمار الكافي في القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة. ورغم كل هذا، الجانب الاجتماعي مهم جداً.
ذكرت مؤخراً أنه هناك خلل تنموي بين التكوين والتشغيل وأزمة البطالة، كيف ذلك؟
هذا كان في مداخلة مع وزير التشغيل والتكوين المهني حيث حاولت أن أبين أن أزمة البطالة في تونس هي أزمة خلل هيكلي وليست مجرد نقص في الوظائف.
لدينا أرقام صادمة، حيث تصل بطالة حاملي الشهائد العليا إلى نحو 25 بالمئة، وتصل بطالة الشباب تحت 25 سنة إلى نحو 40 بالمئة. ومازالت منظومة التعليم والتكوين لدينا تنتج آلاف الخريجين في تخصصات نظرية لا يطلبها السوق المحلي أو العالمي، بينما يعاني القطاع الصناعي وقطاعات القيمة المضافة العالية من نقص حاد في المهارات الوسطى والتقنية كاللّحام الصناعي المتقدم، وصيانة التجهيزات، والتكنولوجيا الدقيقة.
لذلك يجب ربط التكوين المهني مباشرة باحتياجات القطاع الخاص عبر التوسع الفوري في نظام التكوين بالتداول (Alternance)،واستخدام التكوين كجسر للهجرة المنظمة وتصدير الكفاءات المطلوبة في الخارج.
كذلك هناك خلل مجالي فالإقليم الخامس مثلا يحتوي على موارد طبيعية عديدة ومساحة هامة لكن أيضا يشهد بطالة مرتفعة، إذا يجب إعادة توزيع الخارطة التنموية بتوزيع مجالات التكوين حسب خاصيات كل إقليم.
أيضا تشريك القطاع الخاص في التكوين والمتابعة والتشغيل حسب حاجيات المؤسسات الاقتصادية.
كيف بوسع المناطق الصناعية أن تدعم الاقتصاد الوطني مثلما ذكرت ذلك مؤخراً؟
كنت تحدثت عن هذا مؤخرا فالقطاع الصناعي يمثل 90 بالمئة من الصادرات الوطنية، والمناطق الصناعية هي الحاضنة لهذا المحرك الاقتصادي. دعمها هو دعم للميزان التجاري.
لكن لدينا مشكلة تفاوت بين الجهات أيضا. هناك مناطق صناعية مهجورة ومُعطلة في الجهات الداخلية بسبب غياب أبسط مقومات البنية التحتية (الطرق، شبكات الصرف، الغاز الولوج إلى منافذ التصدير). وهناك أكثر من 60 بالمئة من المناطق الصناعية متمركزة في تونس الكبرى و الساحل، وهذا أيضا يسبب خلل تنموي صادم بين الجهات.
يمكن للمناطق الصناعية أن تدعم الاقتصاد فقط إذا توقفت عن التمركز على السواحل، وبدأت في تحقيق العدالة الترابية بانتشارها في المناطق الداخلية. وتماهيا مع متطلبات الاقتصاد الحديث والعصري، يجب على الدولة أن تعمل فوراً على تفعيل المناطق المعطلة بتحويلها إلى مناطق صناعية “ذكية” و”خضراء” في الأقاليم الداخلية، وهذا يجذب الاستثمار الأجنبي النوعي، الذي يبحث عن الاستدامة ويخدم أهداف المخطط التنموي القادم.
كرئيس للجنة المخططات التنموية، ما هي رؤيتكم للنهوض بالمشاريع المعطلة في الجهات وبالتنمية؟
في الفترة الأخيرة تم حلحلة العديد من الإشكاليات والمشاريع المعطلة داخل اللجنة العليا لتسريع انجاز المشاريع العمومية على المستوى الوطني والجهوي.
أما رؤيتنا في لجنة المخططات للنهوض بالمشاريع والتنمية تقوم على مبدأ التخطيط الموجه وتحديد الاحتياجات الفعلية، يعني بكل بساطة توجيه الاستثمار، والتمويل حيث الحاجة إلى التنمية بعيداً عن القرارات المركزية الفوقية.
بالنسبة للمخطط 2026-2030 الانطلاق كان من المجالس المحلية وهذا مفهوم البناء القاعدي،وأمام الظروف الصعبة التي يتم فيها إعداد المخطط يجب أن تكون المشاريع المقترحة ذات كلفة منخفضة، وذات مردود اجتماعي واقتصادي سريع، وذات أولوية قصوى للسكان المحليين.
كما يجب على اللجنة أن تفرض على المخطط التنموي مؤشرات أداء صارمة لقياس العدالة الترابية، لضمان أن يتم توجيه الحصة الأكبر من الاستثمار العمومي المتاح نحو الأقاليم الأكثر تضرراً من البطالة والتهميش. كذلك الأخذ بعين الاعتبار مدى جهوزية المشاريع وقابليتها للانجاز.
كيف تقيم تجربة البناء القاعدي في تونس، هل بوسعها تحقيق تنمية عادلة أم يصعب ذلك على أرض الواقع؟
تقريبا نتفق جميعا بانتهاء صلوحية النموذج الاقتصادي، الذي كان قائما لعقود بعد فشله في القضاء على التهميش خاصة الجهات الداخلية. البناء القاعدي هو القفزة السياسية الضرورية التي تكسر نموذج الحكم المركزي الذي فشل في تحقيق التنمية طيلة عقود. مبدئياً، هو المسار الوحيد اليوم الذي يمكنه تحقيق تنمية عادلة لأنه يعطي الصوت للمناطق المعنية. وهي تجربة جديدة علينا أن ندفع بنجاحها رغم الصعوبات.
والرهان يكمن في قدرتنا على ترجمة هذا البناء السياسي إلى تمكين إداري ومالي فعلي. واندماج اقتصادي واجتماعي..إذا لم تتنازل الإدارة المركزية عن سلطتها التقريرية، ولم يتم دعم المجالس المحلية والجهوية والإقليمية، فستظل التجربة مجرد إطار نظري. نجاحها مرتبط بـالإرادة السياسية لتوزيع التنمية حسب الحاجة وحسب نقاط قوة كل جهة. وطبعا المقاومة تجاه هذا النموذج الجديد كبيرة جدا.
هل برأيك الرهان على التنمية الجهوية قادر على تخفيف الفوارق الاجتماعية بين التونسيين؟
ليس قادراً فحسب، بل هو الخيار الاستراتيجي الوحيد لضمان الاستقرار الاجتماعي والسياسي على المدى الطويل في تونس. إن تخفيف الفوارق الاجتماعية يمر حتماً عبر فك الارتباط بين الجغرافيا والفرصة الاقتصادية. يجب أن تتاح فرص التعليم والتكوين والتشغيل في الداخل بنفس جودة وكثافة الشريط الساحلي.
التنمية الجهوية يجب أن تؤدي إلى تنوع القاعدة الاقتصادية في الأقاليم الداخلية، وخلق الثروة محلياً، وليس فقط الاعتماد على التحويلات المركزية. عندما يجد المواطن في كل جهة نفس جودة المرافق الصحية والتعليمية، ستتراجع الفوارق الاجتماعية تلقائياً.
في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، ما هي تصوراتكم لتحسين الواقع المعيشي للتونسيين؟
في ظل القيود المالية الهائلة، لا يمكن تحسين الواقع المعيشي عبر الحلول الظرفية. يجب أن نركز على الإصلاح الهيكلي والتنمية المنتجة:
التركيز على الإنتاجية: يجب ضخ استثمارات ضخمة وموجهة في إصلاح منظومة التكوين المهني والتعليم العالي لزيادة الإنتاجية وتقليل البطالة الهيكلية، وبالتالي زيادة الأجور الحقيقية.
الحد من التضخم (الحوكمة): يجب العمل على تحسين حوكمة الأسواق وتقليل البيروقراطية ومكافحة الفساد للحد من ارتفاع الأسعار (التضخم) الذي يلتهم القوة الشرائية للمواطن، وهذا لن يتم إلا بالرقمنة وهو أيضا محور استراتيجي للمخطط القادم.
تحسين القدرة الشرائية للتونسي يمرّ عبر الارتقاء بخدمات الصحة والتعليم والنقل، فهذه الاستثمارات ليست مجرد سياسة اجتماعية بل آلية اقتصادية مباشرة تُخفّض نفقات المواطن وتُعزّز جودة حياته بشكل مستدام، وذلك من خلال رفع مردودية المالية العمومية عبر حسن الحوكمة وترشيد الموارد.





