هذا الانتقال الديمغرافي في تونس

1
هذا الانتقال الديمغرافي في تونس
هذا الانتقال الديمغرافي في تونس

المهدي مبروك

أفريقيا برس – تونس. مرّ على أوّل تعداد عامّ للسكّان عرفته تونس ما يزيد عن قرن. كان ذلك سنة 1921 تحت الاحتلال، حين عمدت السلطات الاستعمارية الفرنسية، في نطاق إحكام سيطرتها على المجتمع وضبط هياكله الاجتماعية، إلى إجراء هذا التعداد الأوّل من نوعه. وحين استقلّت البلاد عمدت مباشرة إلى إجراء أوّل إحصاء للسكّان سنة 1956، واستمرّت هذه العملية تقريباً وبشكل دوري. ففي كلّ عقد تجري هذه العملية بشكل يكاد يكون منتظماً. كان آخر إحصاء في 2014، أي بعد ثلاث سنوات تقريباً من الثورة، وها هي تونس تعود، بعد ما يناهز عقد، إلى تكرار أكبر عملية إحصائية دقيقة تسمّى رسمياً “التعداد العام للسكّان والسُكنى”. انطلقت عملية التعداد هذه في إبريل/ نيسان 2024، ليتم بعد سنة تقريباً تقديم أبرز النتائج. اعتمد هذا التعداد لأوّل مرّة، وبشكل مكثّف، على تكنولوجيات رقمية متطوّرة، من شأنها أن تعزّز دقّة المعطيات في كامل مسارها، من الجمع إلى المعالجة، فضلاً عن التثبّت من صحّتها ومراقبتها في جلّ مراحلها. لم تقابل (كالعادة) النتائج بتشكيك رغم تحفّظات بعضهم على المؤسّسة الوطنية التي تشرف عليه بشكل مباشر، وهي المعهد الوطني للإحصاء، وقد خضع بشكل كبير إلى هيمنة السلطة التنفيذية، وحُدّ من استقلاليته، ويتجلّى ذلك من خلال التعيينات المتتالية لمديره العام على خلفية صدور أرقام بين حين وآخر لا ترضي السلطة السياسية، تعلّقت عموماً بنسب التضخّم والعجز التجاري… إلخ. ومع ذلك، حظيت نتائج التعداد بقبول واسع نتيجة عدّة اعتبارات، لعلّ أهمها ما رافق جلّ الخطوات من رقابة تقنية وعلمية أمّنها خبراء يشهد لهم بالخبرة والحياد.

كان عدد السكّان (بحسب هذا التعداد) يناهز 11 مليوناً و900 ساكن تقريباً، في حين كان سنة 2014 في حدود 11 مليونَ ساكنٍ، أي بمعدّل نموٍّ منخفضٍ كان في حدود 0.87 %. غير أن مؤشّرات عديدة (ونتائج أخرى) شكّلت مفاجأةً لفئات واسعة من الرأي العام، والحال أنها ظلّت متوقّعة لدى المختصّين والخبراء، سواء في الديمغرافيا أو الاقتصاد. وقد أمكن التنبّه لها من خلال إسقاطاتٍ عديدة كانت منذ أكثر من عقدَين تتوقّع حدوث مثل هذه السيناريوهات. لعلّ أولى تلك النتائج الهرم السكّاني الذي ضرب الهيكل العمري العامّ للتركيبة السكانية. لقد دخلت البلاد انتقالها الديمغرافي الحادّ، إذ تراجعت نسب الولادات وتوسّعت قاعدة كبار السنّ. وذلك ناجم من عدّة عوامل، لعلّ أهمها ارتفاع مأمول الحياة عند الولادة نتيجة الخدمات الصحّية، التي شملت هذه الفئات، فإذا كانت النسبة سنة 1966في حدود 5.6%، فإنها بلغت سنة 2014 ما يناهز 17%.

النتيجة الثانية، تراجع نسبة الخصوبة لدى النساء، إذ بلغت حدود 1.6%، وهي النسبة التي لا تسمح بتجدّد الأجيال وفق النسق الطبيعي، وهي نتيجة ناجمة من عدّة عوامل، لعلّ أهمها تأخّر سنّ الزواج لدى النساء (العزوبة) المرتبط مباشرة بمسألة الخصوبة لديهن، فالنساء في هذه الفترة الفضلى للإنجاب عادةً ما يكنَّ (منذ أكثر من عقدَين) بصدد بناء مسارهن الدراسي أو المهني، ممّا يدفعهن إلى تأجيل الزواج، خصوصاً وقد نمت لديهن قناعات متزايدة (وراسخة) أن ذلك المنهج يحقّق لهن عماد استقلالهن واعتمادهن على الذات.

النتيجة الثالثة، وظلّت محل استغراب الرأي العام، تقلّص حجم الأسرة والانتقال بلا مواربة إلى أسرة نووية متقلّصة الحجم، فقد بيّنت الأرقام أن حجم الأسرة الحالي في حدود 3.45، وهي أسرة قليلة العدد عادة، إمّا تكون زواجية تحتضن ابناً أو بنتاً أو أسرةً تتكوّن من عائل وحيد، قد يكون الأب أو الأم، مع ابنَين ضمن أشكال متعدّدة لم تكن مألوفةً سابقاً، وهو ما يفيد بأن المجتمع التونسي يغادر بشكل سافر العائلة الممتدّة، رغم تواصلها في مناطق داخلية، وإن كان بشكل متقلّص، وضمن تمثّلات وممارسات مختلفة عمّا عهدناه قديماً في هذا النوع من العائلة التقليدية.

وأخيراً، النتيجة التي ظلّت حاضرةً في أذهان الناس أن الهوّة العميقة ظلّت تحفر أكثر أخدوداً عميقاً بين السواحل والدواخل من حيث حجم السكّان، إذ كانت المدن الأكثر سكّاناً تونس وبن عروس ونابل وسوسة وصفاقس، وكلّها مدن ساحلية تتوزّع شريطاً يستأثر بجلّ الاستثمارات الاقتصادية، والمرافق الصحّية والاجتماعية، في حين تدفع مناطق الداخل سكّانها إلى الهجرة، طاردة لهم، بسبب الإقصاء والتهميش اللذين عانتهما (ولا تزل)، ولا تبدو في الأفق القريب أو المتوسّط لتفادي هذا الشرخ الاجتماعي الحادّ.

تدخل تونس بحدّة انتقالها الديمغرافي، الذي عادة إمّا أن يكون مريحاً وإما عسيراً، بحسب ما تم التخطيط له، وتوفير ما يسنده من سياسات اقتصادية وتنموية واجتماعية دقيقة، ضمن ما يطلق عليه هندسات اجتماعية استباقية، ولكن لا يبدو أن البلاد بإمكانها إدارة هذا الانتقال بشكل يسير وسلس. فهذا الهرم السكّاني ستعانيه البلاد في ظلّ أعباء كبيرة تثقل كاهل صناديق الحماية الاجتماعية، ممّا يجعلها عرضةً لصعوبات جمّة تخصّ ميزانياتها، خصوصاً في ظلّ التفكّك الأسري المتواصل، الذي سيفاقمه تراجع حجم الأسر كما أشرنا سابقاً. كما أن تراجع الولادات بحدّة، رغم بعض مزاياه، سيفقد المجتمع قدرته على التجدّد، خاصّة قوّته العاملة والمنتجة، ممّا يجعل إمكانية الاستعانة قادماً بيد عاملة أجنبية أمراً وارداً، وهو سيناريو ستعارضه بشدّة إرادة سياسية شعبوية، ترى في ذلك مؤامرةً تستهدف تغيير هُويَّة البلاد.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here