هكذا تكلم حشاد: تحرير العامل مرهون بتحرير الوطن

هكذا تكلم حشاد: تحرير العامل مرهون بتحرير الوطن
هكذا تكلم حشاد: تحرير العامل مرهون بتحرير الوطن

صهيب المزريقي كاتب صحفي و محلل سياسي

أهم ما يجب معرفته

يتناول الكاتب التونسي صهيب المزريقي في هذه المقالة فكر فرحات حشاد ودوره في تأسيس النقابة في تونس، حيث اعتبر أن تحرير العامل مرتبط بتحرير الوطن. يبرز حشاد كفيلسوف وطني، حيث ربط بين النضال النقابي والنضال الوطني، مشددًا على أهمية استقلالية النقابة لضمان حقوق العمال ومراقبة السلطة. تعود أهمية فكره اليوم في سياق التوازن بين الدولة والمجتمع.

أفريقيا برس – تونس. في زمن تعود فيه الأسئلة الكبرى حول موقع النقابة داخل الدولة وحول حدود العلاقة بين السلطة السياسية والحركة الاجتماعية، يبرز اسم فرحات حشاد بوصفه أحد أبرز العقول التي صاغت تصورًا متكاملاً لهذه الإشكالية.

فلم يكن حشاد مجرد زعيم نقابي يطالب بتحسين ظروف العمل، بل كان مفكرًا وطنيًا بامتياز يرى أن تحرير العامل جزء من تحرير الوطن وأن النقابة ليست مجرد جهاز للمطالب بل مؤسسة من مؤسسات الشعب لها شرعية مستقلة ومكانة ثابتة لا تنتهي بانتهاء الاستعمار. لهذا تبدو العودة إلى فكره اليوم ضرورة، ليس من باب التاريخ بل من باب السياسة والاجتماع، ومن باب البحث عن توازن جديد بين الدولة والمجتمع.

فعندما أسس فرحات حشاد الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946، كان من رحم الحاجة الوطنية قبل أن يكون استجابة لحاجة اجتماعية.

فالاستعمار الفرنسي لم يكن يستغل الثروة دون أن يستغل الإنسان، ولم يكن يقسم المجتمع دون أن يقسم العمل.

ولذلك كان من الطبيعي أن يرى حشاد في النضال النقابي امتدادًا عضوياً للنضال الوطني.

فلم يكن تحسين الأجور أو ساعات العمل أو التغطية الاجتماعية مجرد “مطالب مهنية” بل رموزًا لمعركة أوسع تتعلق بحق الشعب في تقرير مصيره.

وقد عبر حشاد في أكثر من صياغة فكرية عن هذا الوعي حين أكد أن تحرير العامل لا يمكن فصله عن تحرير الوطن، وأن الكرامة لا تُمنح من سلطة أجنبية بل تُنتزع من خلال القوة المنظمة للشعب.

لهذا كانت الإضرابات التي قادتها الحركة النقابية في تلك الفترة أعمالًا سياسية بقدر ما كانت احتجاجات اجتماعية، إذ كانت تهزّ أركان النظام الاستعماري وتعري هشاشته.

وبفضل هذا التلاقي بين الاجتماعي والوطني، تحول الاتحاد إلى قوة تعبئة وطنية حقيقية وإلى صوت يربك الاستعمار ويمنحه صورة شعب متحد خلف مصالحه. لذلك كان اغتيال حشاد سنة 1952 دليلاً على أن الاتحاد تجاوز دوره المهني، وأصبح في نظر المحتل خطرًا وجوديًا.

فالرجل لم يكن يجادل المستعمر فقط، بل كان يهدد مشروعه نفسه من خلال خلق وعي اجتماعي جديد، ووعي سياسي أكثر جرأة وصلابة.

لكن ما يميز فكر حشاد حقًا هو قدرته على التفكير فيما بعد التحرير. فالرجل لم يكن أسير لحظة المقاومة، بل كان يقرأ المستقبل من خلالها. كان يعرف أن سقوط الاستعمار، مهما كان عظيمًا، فهذا لا يعني ضرورة انتهاء أسباب الظلم أو اختفاء مخاطر الانحراف السياسي. لذلك لم يكن يرى أن دور النقابة ينتهي بقيام الدولة الوطنية، بل يتحول.

ففي زمن الاستعمار والنظام غير الوطني كان النضال تحرريًا موجهًا ضد قوة تسعى في التحكم في وسائل الإنتاج وسلطة تمارس نفوذها بالمال وهيمنة رجال الأعمال لتفرض هيمنتها. أما في عهد الحكم الوطني، فإن النضال يصبح إصلاحياً، موجهًا نحو تصحيح السياسات الاقتصادية والاجتماعية، والدفاع عن استقلالية الحركة العمالية، ومنع تغول السلطة.

كان حشاد يدرك أن الدولة الوطنية قد ترتكب الأخطاء، وقد تتراجع عن مبادئها، وقد تقع تحت ضغط المصالح والضغوط الداخلية والخارجية. لذلك كان يعتبر أن النقابة هي حارس المجتمع، وضميره المستقل، والجهة الوحيدة القادرة على الحد من انحرافات السلطة. الاستقلالية بالنسبة إليه لم تكن ترفًا ولا مجرد تموضع سياسي، بل ضرورة لضمان استمرار المشروع الوطني في كنف احترام النظام الداخلي وعلوية قانونه المنظم وحرية استقلال قواعده كونهم القوة الحقيقية للاتحاد بعيدًا عن السكرتارية النقابية أو ما يسميه لينين بالبيروقراطية النقابية التي تتحول زمامها بيد رأس المال وتتحكم في العمال والسلطة معًا. فالدولة التي لا تواجه بقوة اجتماعية مستقلة قد تغريها قدرتها على السيطرة، وقد تخطئ ولا تنتصر للعمال أو تكون مبتزة من قوى خارجية وصناديق دولية لضرب سيادتها.

أما وجود نقابة قوية ومستقلة، فهو عنصر توازن يضمن ألا يتحول الحكم إلى هيمنة، وألا تتحول السلطة إلى غاية بحد ذاتها.

ولذلك كان حشاد يرى أن لحظة التقارب بين الدولة والنقابة هي اللحظة التي يكون فيها الخطر أكبر. لأن النقابة، إذا فقدت استقلاليتها، تفقد قدرتها على مراقبة السلطة، وتصبح جزءًا من جهاز الحكم، وتضيع وظيفتها الأساسية بوصفها ممثلة للمجتمع كما كان ذلك في فترة 1978 وحل المكتب التنفيذي حينها وسجن الهيئة الإدارية بأكملها وتوجه نظام بورقيبة في تكوين هياكل نقابية مؤقتة وموالية له، وهو ما كان يعتقده حشاد عبر أن النقابة عليها أن تحافظ على مسافة ثابتة من السلطة: مسافة تعاون حين تخدم السلطة العامل، ومسافة نقد حين تبتعد عن مصالحه. فلا الذوبان مقبول، ولا العداء الأعمى مطلوب. بل المطلوب علاقة عقلانية، قوامها الاحترام المتبادل والتوازن.

لذلك فإن الدولة الوطنية بالنسبة إلى حشاد إنجاز، لكن النقابة ضمانة لاستمرار هذا الإنجاز.

الوطن يُبنى بمؤسسات مستقلة تراقب وتوازن، لا بمؤسسات تذوب داخل السلطة أو تستقيل من دورها. والنقابة، في هذا الفكر، ليست جهازًا ظرفيًا لحظة الاستعمار، بل ضرورة دائمة في كل مرحلة، لأنها تمثل الصلة المباشرة بين العمل والعدالة، وبين المجتمع والدولة. ولهذا يبدو فكر حشاد اليوم تعليمًا سياسيًا واجتماعيًا لا يفقد قيمته، لأنه يضع الأسس النظرية لعلاقة صحية بين السلطة والمجتمع، ويقدم رؤية تمنع الانحراف، وتضمن أن تبقى الكرامة قاعدة للحكم لا شعارًا للاستهلاك.

إن العودة إلى حشاد هي عودة إلى فكرة جوهرية: الشعب لا يُمثَّل بسلطة واحدة، بل بمؤسسات متعددة، والنقابة واحدة من أقوى هذه المؤسسات. وكلما ازدادت الدولة قوة، ازدادت حاجة المجتمع إلى نقابة مستقلة. وكلما ازداد الخطاب الاجتماعي حضورًا داخل الحكم، ازدادت الحاجة إلى صوت يفرق بين القول والفعل. فالوطن لا يُبنى بالشعارات، بل بحرس اجتماعي دائم، يحفظ التوازن، ويحمي العامل، ويمنع السلطة من تحويل قوة الشعب إلى ملكية خاصة. وهذا بالضبط ما أراد حشاد أن يتركه لتونس: دولة عادلة… ونقابة حرّة.

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here