أفريقيا برس – تونس. دفعت مشاركة أكثر من ألف شخص الجمعة، في تونس في مظاهرة “لن نسكت”، التي دعت إليها مجموعة من منظمات المجتمع المدني، إلى التساؤل عن مدى قدرة الشارع على قلب المعادلة السياسية في البلاد عشية انطلاق الحملات الانتخابية للسباق الرئاسي المرتقب في السادس من أكتوبر القادم.
وحسب ما نقلته وسائل إعلامية فقد ردد المتظاهرون شعارات من قبيل “حريّات حريّات دولة البوليس انتهت” و”ارحل ارحل سعيّد”، كما تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع صور المظاهرة التي طافت شوارع العاصمة وأعادت إلى ذاكرة التونسيين زخم الاحتجاجات الشعبية التي نجحت في فرض تغييرات تاريخية في البلاد.
وبينما ترى أوساط سياسية أن المعارضة نجحت هذه المرة في حشد الشارع حولها خاصة بعد الاستياء العارم من قرار هيئة الانتخابات القاضي برفض ملفات مترشحين للرئاسيات في خطوة زادت الشكوك بشأن مصداقيتها وحيادها، وبالتالي باتت الفرصة سانحة أمامها لتقليص حظوظ الرئيس قيس سعيد في الفوز بولاية ثانية، تعتقد آراء أخرى أنه رغم نجاح المظاهرة سياسيا وإعلاميا إلا أن المعارضة التونسية مازالت ذو وزن سياسي ضعيف في المشهد، وبذلك يصعب عليها قلب المعادلة لصالحها.
منعرج سياسي
تعد تظاهرة “لن نسكت” أول حراك مدني وشعبي للشبكة التونسية للدفاع عن الحقوق والحريات والتي وقع تأسيسها حديثها، ردا على ممارسات السلطة ومساعيها في الانفراد بالحكم من خلال التضييق على منافسي الرئيس قيس سعيد، كما تنادي بضرورة إسقاط المرسوم 54 المثير للجدل واحترام مكاسب ثورة جانفي/يناير.
ويقول حسام الحامي منسق ائتلاف صمود، وهو تكتل مدني مشارك بالتظاهرة وبالشبكة لـ”أفريقيا برس”؛ “تونس عاشت بعد 25 جويلية نوعا من الخمول في التحركات سواء كانت تحركات احتجاجية اجتماعية أو تحركات ذات شعارات حقوقية أو سياسية، لكن الوضع قد ساء أكثر على جميع النواحي مما دفع القوى المدنية والسياسية للالتقاء في هذه المرحلة حول هذه شبكة”.
ويتابع بالقول “وهو ما دفع كذلك المواطنين المهتمين بالشأن العام والذين لديهم وعي بخطورة المرحلة وبتراجع الحريات وافتقادنا رويدا رويدا لمكتسبات الثورة، للنزول إلى الشارع في مرحلة ثانية، وهو أهم تحرك احتجاجي تشهده البلاد منذ سنوات والذي تركز حول مطالب سياسية وحول مسالة الحريات بالخصوص”.
ويعتبر الحامي هذا التحرك بمثابة “لبنة أولى في بناء الثقة بين الشبكة وبين المواطنين المهتمين بالشأن العام كما أنه بمثابة محطة أولى سينتج عنها محطات أخرى أهم، وبالتالي لم يبقى إلا الشارع للتظاهر المدني والسلمي والمطالبة بحقوقنا السياسية والمدنية واحترامنا كمواطنين ولدفع السلطة القائمة على التراجع عن هذا المنحى الخطير الذي اختارته للبلاد خاصة بعد إعدامها لمسارات سياسية وقضائية”.
ويعلق “هذه التحركات الاحتجاجية من أهم واجهات التحرك المدني لاسترداد الحقوق والحريات”.
ويرى محللون أن مظاهرة الجمعة تعكس استفاقة للشارع التونسي والقوى المدنية بالبلاد، وقد تهدد مكاسب السلطة الحالية في حال أصرت على انتهاجها حكما فرديا تقصي فيه شركائها من الأحزاب والمجتمع المدني وبقية الأجسام الوسيطة.
وتواجه السلطة في تونس انتقادات واسعة بسبب إقصائها لمرشحين جديين عبر إثارتها ملفات قضائية ضدهم، كما تتهم المعارضة هيئة الانتخابات بخدمتها لأجندة السلطة التي لا تريد منح قوى ما قبل 25 جويلية أي فرصة أخرى للعودة إلى المشهد وتسعى لاستكمال مشروعها السياسي.
ويشير وسام حمدي الصحفي والمحلل السياسي التونسي في حديثه لـ”أفريقيا برس” إلى أن “مسيرة 13 سبتمبر بشارع الحبيب بورقيبة، هي أهم منعرج سياسي تقوده المعارضة منذ 25 جويلية 2021، بحيث أعلنت القوى الحية أنها على قيد الحياة وأنها مازالت تتنفس حرية وذلك على عكس ما تظن السلطة التي دفعت طيلة ثلاث سنوات لتصحير المشهد ولجم أفواه كل المنتقدين لخياراتها خاصة في ما يتعلق بمكسبي الديمقراطية والحرية”.
وفي اعتقاده “سيكون المشهد في تونس مغايرا لما قبل مسيرة 13 سبتمبر، إذ إن من شاركوا في المظاهرات كسروا حاجز الخوف والصمت وعطّلوا كل محركات صناعة الخوف التي دأبت سلطة قيس سعيد على ترويجها وإشاعتها بين الناس طيلة ثلاث سنوات حكم فيها الرئيس بصلاحيات واسعة. ولا يمكن أيضا نكران أن هذا التحرك نجح في إعادة العديد من الحسابات ليس فقط في ما يتعلق بالمعارضين للسلطة، بل أيضا حسابات بعض الذين كانوا يساندونها والذين اعترفوا بعد المسيرة أن الوضع يستحق فعلا وقفة تأمل ومراجعة لخيارات قيس سعيد التي اختارت نهج القمع والاستبداد والتفرد بالسلطة”.
ووفق حمدي فإن مسيرة الجمعة “أكدت أن تونس وعلى عكس العديد من البلدان الأخرى لا تحتكم حين يُخنق شعبها ويتضاءل منسوب الحريات إلى الانقلابات العسكرية أو ما شابه ذلك، بل تحتكم إلى مكسب هام تجذر منذ عقود، ويتمثل في إعادة تشكل المجتمع المدني، كي يكون هو المدافع الشرس على الديمقراطية والحرية برفع شعارات ترفض تغول أي طرف يحكم البلاد”.
ويلفت إلى أنه “علاوة على كل هذا، فإن المسيرة التي دفع الإعلام المحسوب على قيس سعيد وخاصة الإعلام العمومي للتعتيم عليها، تعد بمثابة جرس إنذار لإعلان بداية الحرب في السنوات الخمس القادمة، بعدما عبّد قيس سعيد الطريق لنفسه لولاية ثانية عبر انتخابات شكلية تم فيها التضييق والتنكيل بالخصوم، وجعلها على المقاس واختار فيها حتى من سينافسه على كرسي قرطاج. ثم إن تحرّك 13 سبتمبر، يترجم بالنهاية عادة مترسخة في تونس مفادها؛ أن الصمت في غالب الأحيان لا يعني الرضا بسياسة الأمر الواقع بل إنه وفي كثير من المحطات مثّل ذلك الصمت الذي يسبق العاصفة أو الانفجار الثوري”.
ويستنتج حمدي “لذلك من الواضح أن السلطة ورغم عدم تعليقها على ما حصل إلى الآن قد تفهّمت أن مزاج الشارع ليس في صالحها وأن مسيرة 13 سبتمبر قد تكون بمثابة شرارة أولى ستليها سلسلة أخرى من الاحتجاجات الرافضة لكل مظاهر القمع والاستبداد”.
ويعتبر ملف الحريات وسيلة ضغط بيد المعارضة في مواجهة خصمها الرئيس سعيد في ظل تواصل الإيقافات السياسية وخنق مساحة التعبير من خلال المرسوم 54، وقد نجح هذا الملف في لم شتات المعارضة في مسيرة الجمعة حيث كانت مختلف أطيافها ومكوناتها السياسية حاضرة في الشارع.
نجاح غير كاف
مع ذلك يرى متابعون أن حظوظ المعارضة في قلب المعادلة السياسية مازالت ضعيفة حيث أن انتقاد السلطة لا يكفي لاستمالة الشارع واسترجاع الثقة فيها كبديل سياسي قادر على صناعة التغيير وذلك في ظل افتقادها لبرنامج قادر على تحسين الأوضاع، كما أن الشارع مازال يحملها مسؤولية الفشل الاقتصادي والاجتماعي خلال العشرية الأخيرة.
وحسب هؤلاء فإن “قبضة السلطة قوية على الحكم كما أن الرئيس سعيد مازال يحظى بشعبية واسعة، وكانت مساعيه ملفتة في إقناع الشارع بمشروعه وأداءه في الآونة الأخيرة من خلال اهتمامه بشكل مباشر بقضايا الناس وتنقله إلى ولايات ومناطق سكانية والإصغاء إلى المطالب الاجتماعية للمواطنين، إضافة إلى إقدامه على تعديل الفريق الحكومي والولاة في خطوة تعكس مساعيه طمأنة الشارع بأن الأوضاع تسير نحو الأفضل”.
وتستبعد أوساط سياسية قدرة المعارضة على تحقيق مكاسب سياسية وذلك لضعف الدعم الشعبي والحزام السياسي.
ويلفت صهيب المزريقي القيادي بحركة بعث في حديثه لـ”أفريقيا برس” بالقول “لنتفق من ناحية المبدأ أن التظاهر وحرية التعبير والصحافة والنقد والمعارضة والتنظم هي حقوق إنسانية وكونية مقدسة لا يجوز المساس بها ولا التضييق عليها، وهو ما نص عليه دستور 25 جويلية 2022، ونظمه القانون التونسي، وخروج بعض المنظمات والجمعيات وبقية مكونات المجتمع المدني البارحة يندرج في هذا السياق”.
ويضيف “حتى الشعارات المرفوعة المناهضة لسياسة رئيس الجمهورية قيس سعيد تم صياغتها بحرية ورفعها دون أي تتبعات علاوة على الهتافات التي نادى بها البعض من جملتها إسقاط النظام، لكن أعتقد أن المشهد السياسي التونسي وعلاقته بالعمل الجماهيري والشعبي بينهما بون شاسع انطلاقا من عدم فهم طبيعة المجتمع، واستيعاب متطلباته، وهو ما يفسر قلة العدد المشارك في المسيرة في مقابل أكثر من 10 أطراف بين أحزاب ومنظمات دعت للمسيرة”.
وفي تقديره “نشهد إفلاسا شعبيا وقلة مخزون جماهيري لهذه المنظمات وعليه لا يمكن قلب المعادلة السياسية بهكذا أحزاب ومنظمات أعتقد في جملتها قد تآكلت، إما ببيروقراطية المنظمات وسكرتارية الأحزاب التي تمارس الديكتاتورية داخلها وإما بالتشبث بالأمانة العامة أو تعسفها على شبابها وطاقاتها المبدعة عبر التصفية الحزبية والتجميد وهو ما جعل الشعب يفقد ثقته في مثل هكذا منظمات وأحزاب سيكوزيفرينية تنادي بالحرية ظاهرا و تمارس الديكتاتورية داخلا”.
وتقدم مظاهرة جمعة صورة ايجابية عن المسار الديمقراطي لتونس حيث أن الشارع مازال بوسعه الانتفاضة على الأوضاع والتعبير عن آرائه، وأن صمته لا يمكن أن يكون مستمرا، كما أن قلب الموازين السياسية مازال بيده رغم ابتعاده عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية في مرحلة ما بعد 25 جويلية.
ويعتقد المحلل السياسي منذر ثابت في حديثه لـ”أفريقيا برس” أن “التكتل المعارض نجح الجمعة في إثبات أنه قادر على النزول إلى الشارع، وأن هذا النزول يمكن أن يكون مقنعا في مستوى التسويق الإعلامي وأيضا على مستوى سياسي بما أن نخبة من الشباب والكوادر العاملين في مجال المجتمع المدني وفي المجال السياسي نجحوا في مسيرة سلمية رفعت فيها شعارات معادية للنظام والسلطة القائمة”.
ويبين أنه “في المقابل نجحت السلطة أيضا في أن تقدم نفسها على أنها قادرة على التعايش مع معارضة نشطة وأنها تقبل بمثل هذا الحراك، لكن الإحراج الحقيقي ليس لوجود تحركات ميدانية ما دامت هذه التحركات محدودة، وما دامت لا تكشف ولا تقدم بدائل سياسية واضحة… تكتل من أجل معارضة قيس سعيد هذا يمكن أن يمر، لكن ما لا يمكن أن يمر هو؛ هل يمكن أن يعيد هذا التكتل الإسلام السياسي إلى الواجهة أم أنه مجرد تحالف تكتيكي لانجاز مهمة لا يمكن الاتفاق حولها بسبب جملة من الإشكاليات الحقيقية التي تعاني منها المعارضة”.
وخلص ثابت بالقول “نجاح التحرك الميداني غير كاف حيث أن قلب موازين القوى يحتاج في تقديري إلى تأزم أقصى وإلى تصاعد مستوى الاحتقان الاجتماعي، وهو ليس حال الوضع الراهن، الوضع الراهن مازال بعيدا عن هذه الصورة، وفيما يخص السلطة فهي بالطبع تحت الضغط بسبب جملة الاستحقاقات التي وضعتها أمامها وخاصة فيما يتعلق بالجوانب القانونية”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس