حمادي معمري
أفريقيا برس – تونس. بعد أن كان عددها يتجاوز الـ 200 حزب، تخلو الساحة السياسية في تونس اليوم أو تكاد من النشاط الحزبي، وتكتفي أغلبها بنشر بعض البيانات في المناسبات من دون القدرة على التأثير في الرأي العام أو تحريك الشارع، فهل دخلت تونس واقعاً جديداً ينبئ بنهاية الأحزاب؟
عرفت تونس العمل السياسي، منذ عشرينيات القرن الماضي، أي قبل الاستقلال في عام 1956، مع تأسيس أول حزب سياسي تونسي، هو “الحزب الحر الدستوري” في 1920، وهو نتاج حراك فكري وسياسي للنخب التونسية نشأ خلال فترة الاستعمار الفرنسي.
وعندما نالت تونس الاستقلال، لم تسمح السلطة بالنشاط السياسي إلا للحزب الحاكم، وهي مقاربة، رأى من خلالها الحبيب بورقيبة، أول رئيس للجمهورية التونسية، ضرورة توحيد الجهود السياسية والمدنية تحت راية الدولة الوطنية، لبناء المؤسسات، وتعميم المرافق الصحية، ونشر التعليم، بعيداً من الانقسامات والصراعات السياسية التي لا تحتاجها البلاد برأيه، “في مجتمع شبه قَبَلي يعاني الجهل والتخلف، بعد أكثر من سبعين سنة من الاستعمار”.
واستمر التضييق على الأحزاب السياسية وصولاً إلى فترة حكم الرئيس السابق، زين العابدين بن علي الذي سمح فقط بنشاط بعض الأحزاب “الكرتونية” لتلميع صورة نظامه، بينما التجأت أحزاب أخرى كـ”حركة النهضة”، و”حزب العمال”، إلى العمل السرّي فيما لوحق عدد من منتسبيها وقياداتها.
في المقابل، احتكر “التجمع الدستوري الديمقراطي” المشهد السياسي، لأكثر من 23 سنة، إلى أن أطاحت انتفاضة 2011، بالحزب والنظام معاً.
بعد ذلك، عرفت البلاد طفرة حزبية غير مسبوقة، إذ تجاوز عدد الأحزاب الـ 220 حزباً، في بلد عاش لأكثر من نصف قرن تحت مظلة الحزب الواحد، وفسّر المتابعون تلك الظاهرة بتعطش التونسيين والنخب إلى ممارسة السياسة من خلال الأحزاب التي تمثل وجاهةً سياسية ومصعداً لتقلّد المناصب.
جدل عقائدي ومعارك وهمية
بعد عقد من الزمن، أفل نجم الأحزاب، وانفضّ أغلب التونسيين من حولها، بعدما كشفت ممارستها للحكم تخبطاً في إدارة الشأن العام، وفشلاً في تحقيق مطالب التونسيين التي رفعوها خلال الانتفاضة الشعبية، على غرار توفير فرص العمل والكرامة. وأوغلت تلك الأحزاب في صراعاتها الأيديولوجية، وأعادت إلى السطح سؤال الهوية، وغرقت في المعارك الوهمية، والجدل العقائدي، والدفاع عن مصالحها الضيقة، بينما كانت تخسر من سنة إلى أخرى قواعدها ووجاهتها.
كذلك فشلت تلك الأحزاب طوال عشرية ما بعد عام 2011، في وضع برنامج واضح المعالم، يعالج ملفات العمل، وإصلاح التعليم، والنهوض بالصحة، واستأثر صراع الهويات على الحيّز الأكبر من النقاش العام، بخاصة تحت قبة البرلمان، على حساب استنباط الحلول للأزمات المتعددة التي تعيشها البلاد، وتعاملت أحزاب الحكم مع السلطة كغنيمة تتقاسمها مع الموالين، على حساب الشروط الموضوعية كالكفاءة والخبرة في إدارة الشأن العام.
سمح هذا الوضع السياسي المتعفن، وسط استمرار إنكار الأحزاب لممارساتها وعدم تفطنها إلى المأزق الذي تردّت فيه، ومن دون قيامها بالمراجعات الضرورية في الوقت المناسب، ببروز مطالب صريحة من بعض التونسيين تدعو إلى حلّ البرلمان بعدما سئموا مشاهد الصراعات اليومية والعنف السياسي.
ومثلت لحظة 25 يوليو (تموز) 2021 التي أعلنها الرئيس التونسي قيس سعيد، تتويجاً لتلك المطالب التي رأى فيها عدد كبير من التونسيين الخلاص من الوحل السياسي الذي غرقت فيه الأحزاب، سلطةً ومعارضة.
وقبل ذلك المنعطف التاريخي، وفي سنة انتخابية (2019)، وفي غفلة من الأحزاب الغارقة في مناكفاتها السياسية، وصراعاتها حول مرشحيها للانتخابات الرئاسية، ترشح سعيّد للرئاسة متجرداً من أي “شبهة” حزبية أو سياسية، لينال ثقة أغلب الناخبين، بينما عجّت الساحة بعشرات الأحزاب والشخصيات النافذة.
وكانت تلك رسالة واضحة من التونسيين إلى الأحزاب، بأن “أوان زوالها قد حان”، إلا أنها لم تتعظ، وواصلت في نهج المكابرة والنكران إلى أن اصطدمت بلحظة 25 يوليو (تموز) 2021، وما تلاها، وباتت اليوم أثراً بعد عين، واضمحلت من المشهد، أو كادت.
اليوم، وبعد نحو خمس سنوات على لحظة 25 يوليو 2021، غابت الأحزاب عن الساحة السياسية، وتقلّص أداء المنظمات المدنية، وسط واقع جديد لا يعترف بالأجسام الوسيطة، فهل دخلت تونس فعلاً عصر ما بعد الأحزاب؟ وهل تنجح السلطة الحالية في إدارة الشأن العام من دون أحزاب سياسية؟
أزمة الأحزاب واقع عالمي جديد
يرى متابعون أن الأحزاب في تونس بقيت حبيسة الأيديولوجيا الكلاسيكية التي تجاوزها الزمن، ولم تجدد نفسها ولم تُصعّد إلى الصفوف الأولى قيادات شابة قادرة على التفاعل مع الواقع الجديد المتغير في تونس وفي العالم.
من جهته، يستبعد أستاذ القانون الدستوري في الجامعة التونسية، الصغير الزكراوي، وجود ديمقراطية من دون أحزاب، إلا أنه يقر بأن “أزمة الأحزاب باتت واقعاً ملموساً في مختلف دول العالم تقريباً، ومن مظاهرها تراجع المشاركة السياسية، ونفور الشباب من الانخراط فيها، بسبب انجذابهم للوسائط التكنولوجية الحديثة ومنصات السوشيال ميديا التي قلّصت دور الأحزاب”.
ويستحضر الزكراوي “موجة الوعود الكاذبة التي أطلقتها الأحزاب بعد عام 2011، بينما كشفت ممارسة الحكم حقيقة تلك الوعود، ما دفع بالشباب إلى التوجه للعمل المدني في منظمات وجمعيات والتنظّم الذاتي عبر منصات السوشيال ميديا التي باتت قادرة على تحريك الشارع”، لافتاً إلى أن “ما يحدث اليوم في المغرب هي احتجاجات من خارج الأحزاب، التي باتت عاجزة عن التعبئة والتأطير وفقدت منخرطيها الذين يئسوا من قدرتها على تحقيق أحلامهم، بعد أن كانت توزّع ‘الريع السياسي’ على منخرطيها ومنتسبيها”.
عجز وتضييق وتجفيف لمنابع التمويل
ويرى أستاذ القانون أن “الأحزاب في تونس اليوم في أزمة هيكلية مستفحلة، وهي أحزاب ضعيفة عاجزة عن التحرك، بعدما جُففت مصادر تمويلها، والتضييق عليها، فغاب النقاش العام في الفضاء العمومي، بينما يعوّل الرئيس سعيد، على الاتصال المباشر بالشعب ونجح في القفز على الأحزاب”.
وبخصوص إمكانية استمرار الحال من دون أحزاب يؤكد الزكراوي أنه “لا توجد مخارج في تونس اليوم في ظل ضعف الأحزاب”، داعياً إلى “فتح حوار من أجل بلورة عَرْض سياسي جديد، ينشر الأمل ويوضح الرؤية، بخاصة بالنسبة إلى الشباب المنفتح على العالم والذي يتابع المتغيرات من حوله”، داعياً الأحزاب إلى “التفاعل بإيجابية مع التكنولوجيات الحديثة وبخاصة ثورة الاتصالات المعقدة، وأن تتخلى عن أيديولوجياتها التي أساءت بها لنفسها وأيضاً أضرت بتونس وبالتونسيين”.
تشكيل أحزاب حديثة متشبّعة بالديمقراطية
ويتقاسم أستاذ علم الاجتماع السياسي، بالعيد أولاد عبدالله، مع الزكراوي الموقف نفسه، إلا أنه يستبعد أن تتخلى البلاد عن الأحزاب التي تبقى أساس العمل السياسي، داعياً إلى “إعادة تشكيل أحزاب حديثة تعارض، وتمارس السلطة بوعي سياسي شفاف”. ويرفض أستاذ علم الاجتماع السياسي، فكرة الاستعاضة عن الأحزاب القادرة على التأطير، وصناعة رأي عام يؤمن بالاختلاف وبالنقاش، بمنصات السوشيال ميديا، معتبراً أن “فشل الأحزاب في تونس ناتج من فشل قياداته ولا يمكن تحميل الحزب كمؤسسة أخطاء قادته ونخبه”.
ويعتقد أستاذ علم الاجتماع السياسي أنه “لا يمكن للسوشيال ميديا أن تعوّض الأحزاب على رغم قدرتها على التعبئة، إلا أنها عاجزة عن التأطير والتحكم، بينما يمكن للأحزاب أن تقوم بذلك، شرط قيامها بالمراجعات المطلوبة، وإعادة إنتاج ذاتها، بناءً على الشفافية والحوكمة والإدارة السليمة، حتى تكون قادرة على امتصاص أي تحرك اجتماعي وتأطيره”. ويضيف أولاد عبدالله أن “تونس لا يمكنها أن تستغني عن الأحزاب وعن النقابات إلا أنها في حاجة إلى أحزاب مؤسسة على رؤية جديدة في إطار شروط قانونية واضحة لحمايتها من كل المنزلقات”.
تكتلات عائلية همها مصالحها الضيقة
وراجع أولاد عبدالله أداء الأحزاب في فترة ما بعد 2011، قائلاً إن “التونسيين شعروا بأن تلك الأحزاب ليست إلا تكتلات عائلية همها الوحيد مصالحها الضيقة، على حساب المصلحة الوطنية، بينما لا تؤمن بعض الأحزاب اليمينية واليسارية، بالديمقراطية ولا تمارسها في إدارة شؤونها الداخلية، من خلال التداول على المواقع القيادية في الحزب، وهو ما سمح بتسلل المال الفاسد، وبنفوذ رجال الأعمال من أجل التأثير في القرار السياسي الوطني. بعدما كان عددها يتجاوز الـ 200 خلت الساحة السياسية اليوم من الأحزاب ليس بسبب شيطنتها فحسب، بل أيضاً بسبب إساءتها لنفسها وإيغالها في الصراعات الوهمية، والتهافت على التموقع السياسي، وفشلها في إدارة الشأن العام في غياب مشروع مجتمعي جامع”.
ورأى أن “اليوم، تدير تونس الشأن العام، في سابقة سياسية، من دون أحزاب وكأنها تؤسس فعلاً لعصر ما بعد الأحزاب والتنظيمات السياسية، بالتعويل على التنظيم الذاتي، والاتصال المباشر عبر الوسائط الجديدة للاتصال، وبينما هناك من يستبعد أن تستمر الحال على ما هي عليه في غياب الأحزاب التي يعتبرونها ملح إدارة الشأن العام، فيما يدعو آخرون الأحزاب إلى تعديل بوصلتها، واستخدام آليات حديثة في العمل السياسي، قادرة على مخاطبة الشباب والأجيال الجديدة التي لم تعد تجد ضالتها في هذه المعلبات الأيديولوجية الكلاسيكية”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس