إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. سيطر الهجوم على مقرّ الاتحاد العام التونسي للشغل في بطحاء محمد علي بالعاصمة على اهتمام الشارع التونسي بمختلف أطيافه، وفجّر الجدل الذي صاحبه على مدى الأيام الماضية سؤالا جوهريا تردّد في كل الأصداء: هل يستعد الرئيس قيس سعيّد لتكرار سيناريو “25 جويلية” مع الاتحاد هذه المرة؟
في يوم الخميس 7 أغسطس 2025، تجمع عدد من المحتجين أمام مقر الاتحاد العام التونسي للشغل، قادمين من شارع الحبيب بورقيبة، في تحرك احتجاجي رفعوا خلاله شعارات ضد قيادات المنظمة النقابية، مطالبين الرئيس قيس سعيّد بتجميد عمل الاتحاد الذي اعتبروه “المسؤول الرئيسي عن تأجيج الأوضاع الاجتماعية وضرب الاقتصاد الوطني عبر الإضرابات المتكررة”.
رغم أن عدد المحتجين لم يكن كبيرا، إلا أن أعمال العنف والاعتداءات التي رافقت هذا التحرك حّولت الاحتجاج السلمي إلى مؤشر يعكس تصاعد التوتر بين رئاسة الجمهورية والاتحاد العام التونسي للشغل، وينذر بتصاعد الأزمة نحو مواجهة مفتوحة تحمل في طياتها مخاطر تهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد.
ردّ النقابيون على هجوم 7 أغسطس بتحركات احتجاجية مضادة، كما ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بالانتقادات والتنديد بما حصل. ووصف سامي الطاهري، الأمين العام المساعد المكلّف بالإعلام والناطق الرسمي باسم الاتحاد العام التونسي للشغل، في تصريح لـ”أفريقيا برس”: الاعتداء على مقر الاتحاد بـ”الهمجي”، لافتا إلى أنه “جاء نتيجة تحريض وتجييش كان مخططا له مسبقا وتم تنفيذه بدقة من قبل أنصار الرئيس قيس سعيّد أو كما يسمون أنفسهم “أنصار المسار””.
وقال الطاهري: “الصور والفيديوهات التي تم توثيقها ونشرها تثبت ذلك والوجوه معروفة، وقد انتشرت قبل الهجوم دعوات على منصات التواصل الاجتماعي تحرّض على الهجوم وتصف المضربين بالخونة”، في إشارة إلى اضرب النقل الذي شهدته تونس في بداية شهر أغسطس ودام ثلاثة أيام شهدت خلالها حركة التنقل بين المدن اضطرابا كبيرا وتعطّلت مصالح الكثير من التونسيين.
وعبر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عن “إدانته الشديدة للاعتداء الذي استهدف مقرّ الاتحاد العام التونسي للشغل من قبل عناصر غريبة تم الدفع بها في سياق محتقن يتغذى من خطابات تحريضية ممنهجة تستهدف العمل النقابي وشرعية المطالب الاجتماعية وتتهمها بالتآمر وتأجيج الأوضاع”.
وقال عبدالرحمان الهذيلي، رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في بيان تلقى “أفريقيا برس”، نسخة منه: “إن هذا الهجوم ليس مجرد فعل معزول، بل هو نتيجة مباشرة لتصاعد خطاب الكراهية والتجييش السياسي وعلى الفضاء الافتراضي ضد الاتحاد العام التونسي للشغل وضد النقابيين، وضد كل أشكال التعبير المدني والتنظيم الاحتجاج الاجتماعي، في محاولة لتقويض الدور التاريخي والوطني للاتحاد العام التونسي للشغل، ولضرب ما تبقى فضاءات النضال الاجتماعي والمدني”.
تبدّل التحالف
الخلافات بين الطرفين ليست وليدة اليوم. دعم الاتحاد الرئيس قيس سعيد في بداية تسلمه للسلطة، ثم مرّ من موقف التأييد أو التحفّظ في 2021 إلى موقف نقدي متزايد بعد ممارسات ترسيخ السلطة والقرارات التي رآها الاتحاد تقويضا للمكتسبات الديمقراطية.
ومنذ أشهر، عبّر الاتحاد عن رفضه لسياسات الحكومة، خصوصا في ما يتعلق بإصلاح المؤسسات العمومية والزيادة في الأجور، معتبرا أن السلطة الحالية تتجاهل الحوار الاجتماعي. في المقابل، صعّد قيس سعيد من لهجته، متهما بعض الأطراف النقابية بمحاولة “ابتزاز الدولة” وإعاقة الإصلاحات.
وكان إضراب النقل الأخير القطرة التي أفاضت الكأس للطرفين، فمن جهة كان مناسبة للاتحاد لاختبار قوته في الشارع ومن جهة أخرى كان حجة للنظام ليؤجج غضب الشارع من الاتحاد.
وفي هذا السياق، يلفت المحلل السياسي التونسي الدالي البراهمي، في تصريحات لـ”أفريقيا برس”، إلى أنه وفي وقت شرعت فيه الدولة بخطوات إصلاحية لتجديد الأسطول وإنقاذ المؤسسات العمومية، جاء إضراب صيفي تحت لافتة “النضال النقابي”، لكنه في جوهره ضغط ممنهج وابتزاز سياسي لا يراعي الظروف الوطنية ولا معاناة الناس. والخطابات المتعجرفة من بعض النقابيين، كقولهم: “المفاوضات ستستأنف أحب من أحب وكره من كره وبأي طريقة كانت”، أقرب إلى تهديد العصابات منها إلى لغة منظمة نقابية وطنية.
واعتبر البراهمي أن “ما جرى ليس تحركا نقابيا عاديا، بل محاولة لإظهار الاتحاد كسلطة موازية. والإصلاح هنا ليس طعنا في تاريخه، بل وفاء لروحه الأصيلة ودوره الحقيقي في الدفاع عن العمال لا عن أجندات خفية. فكما قال حشاد: “أحبك يا شعب”، لا تعني خنق الشعب بالإضرابات ولا المتاجرة بمطالبه”.
ويضيف لـ”أفريقيا برس” أن “ما يُروَّج عن “اقتحام” الاتحاد، فليُعرض على الرأي العام بالأدلة لا بالصور المضلّلة، إذ يبدو مشهد “أربعة أطفال” أقرب إلى تمثيلية رديئة الإخراج منه إلى دليل على اعتداء. والسؤال: هل أصبح التعبير السلمي عن الرأي جريمة؟ وإن كان كذلك، فكيف يُصنَّف إضراب يعطّل البلاد ويضرّ بمصالح الملايين؟”.
يجد موقف البراهمي من الإضراب مؤيدين كثر، لكن في نفس الوقت هؤلاء أنفسهم يدينون الهجوم على مقر الاتحاد العام التونسي للشغل، معتبرين أن المساس بهذه المؤسسة يتجاوز الخلافات الظرفية. فالاتحاد، على ما يعتريه من أزمات داخلية وانتقادات بشأن أدائه، يبقى في ذاكرة التونسيين قلعة نضالية واجهت تغوّل السلطة عبر عقود، وسدّا منيعا في وجه الانزلاق نحو حكم الفرد المطلق.
وفي غياب محكمة دستورية قادرة على ضبط توازن السلط، يرى هؤلاء أن الاتحاد يظلّ، بوزنه التاريخي والاجتماعي، أحد آخر الضمانات المتبقية لحماية التونسيين من اختلال ميزان القوة في البلاد، والمطلوب هو معالجة داخلية تمنع انهياره وتفكّكه.
هل يأتي الدور على الاتحاد؟
في خضم فورة الغضب، ألقى الرئيس قيس سعيّد خطابا زاد من تأجيج الغضب حيث قال “لم تكن في نيّة المحتجين لا الاعتداء، ولا الاقتحام كما تروج لذلك ألسنة السوء”، الأمر الذي اعتبره أنصار الاتحاد ومنظوريه “تبرير من الرئيس لهجوم أنصاره على الاتحاد وهرسلة النقابيين”، خاصة بعد أن توعّد في ذات الخطاب: “كلّ من يتطاول على الشعب التونسي”.
واعتُبر حديث الرئيس “تحريضيا” خاصة حين استحضر بعض قادة الاتحاد التاريخيين ووصفهم بـ”المتعففين” على غرار محمد علي الحامي، الذي “كان يعقد اجتماعاته بنهج الجزيرة ونهج الكومسيون (أحياء في قلب العاصمة)،… ولم تكن الاجتماعات تعقد في النزل…”، والفاضل ساسي الذي كان “متعففا، قلبه ينبض على اليسار، ولم تكن لديه حافظة نقود عكس من يظهرون أن قلوبهم تنبض على اليسار، ولكن حافظات نقودهم على اليمين”.
ومثلما استحضر الرئيس التاريخ، سلك النقابيون بدورهم نفس المسلك، حيث ذكّروا بالصدامات التاريخية بين الأنظمة والاتحاد. وقال حفيظ حفيظ، الأمين العام المساعد المسؤول عن قسم الشؤون القانونية، “الهجوم الذي تم على دار الاتحاد لم يختلف عن هجوم ميليشيات الصياح سنة 1978 وعن هجوم ميليشيات مزالي سنة 1985 وهجوم ميليشيات النهضة باسم روابط حماية الثورة يوم 4 ديسمبر 2012… هجمتم واهجموا: لكن لن تمروا”.
كما انتقد متابعون خطاب الرئيس معتبرين أن سعيّد قد يستفيد تكتيكيا من تعبئة قاعدته خصوصا إذا نجح في تصوير الاتحاد كعقبة أمام أي استقرار أو إصلاحات. لكن يجب أن يكون واعيا أيضا بأن أي خطوة نحو “قتل” الاتحاد ستكون لها تداعيات كبيرة، داخليا عبر الاحتجاجات والإضرابات، وخارجيا عبر ردود فعل الشركاء الدوليين الذين يعتبرون المنظمة النقابية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، شريكا في استقرار البلاد، وأن استهدافها قد يؤدي إلى استقطاب اجتماعي واسع، فغضب التونسيين ليس من المنظمة أو المؤسسة التاريخية بل من قياداتها والمطلوب ليس حلها أو تجميدها مثلما حدث مع البرلمان والحكومة بل استعادة دورها التاريخي.
ويقول أستاذ التعليم الثانوي، والناشط النقابي، فوزي السعيدي لـ”أفريقيا برس”: “إن الاتحادات العمالية في كل العالم في حالة استهداف من طرف رأس المال السياسي المتحكم بالثروة والعامل التونسي ليس بمعزل عن هذا التهديد الممنهج والسلطة الحالية والتي ليس لديها ما تجيب به مواطنيها غير التعلل بالفساد وتعويم القضايا وباعتبارها في حالة اقتراض دائم من البنوك الداخلية ليس لها من حل غير مهاجمة من يقف أمامها ويهدد مشروعها”.
ويضيف السعيدي “وبما أن الاتحاد سيدخل في مفاوضات الوظيفة العمومية وباعتبار ارتفاع الأسعار وتهلهل المقدرة الشرائية للمواطن التونسي، وغياب حل للنظام في مواجهة ذلك، فإن الهجوم عليه بات أمرا حتميا ولكن كيف؟ على السياسي أن يدس الخصومة بين أعضاء المكتب التنفيذي لعزل الطبوبي والمسارعة بالإجهاز على الاتحاد من خلال التحشيد الشعبي ورفع شعارات من قبيل أن الاتحاد هو من يعطّل التنمية والمسار وهو من يحمي الفساد وتكون هذه الشعارات حجة للرئيس باستصدار مراسيم اعتقال القيادات بدعوى الفساد المالي والإداري وحل الاتحاد باعتباره منظمة سياسية تتآمر على الدولة وتهدد السلم الاجتماعية وهو ما سيتم في لاحق الأيام ويتم الإجهاز نهائيا على الطبقة المتوسطة وتلحق بالطبقة الفقيرة”.
ويحذّر السعيدي من أن “هذا المستقبل الذي بات وشيكا سيؤدي بالبلاد إلى فوضى وشيكة قد تؤدي إلى أحد أمرين: إما حرب أهلية وهذا مستبعد وإن كان ممن التوقع أن نرى اعتداء المواطنين على بعضهم وإما ثورة ستطيح بالنظام من جديد وستؤدي بالبلاد إلى عدم الاستقرار والمزيد من التدهور وفي جميع الحالات يبقى المكتب التنفيذي للاتحاد مسؤولا بدرجة كبيرة على هذا الانهيار الذي شهده العمل النقابي منذ تحول إلى معاون سياسي وكف عن الدفاع عن الشغالين”.
في خضم هذه المواجهة التي تتصاعد يوما بعد يوم بين رئاسة الجمهورية والاتحاد العام التونسي للشغل، تبدو تونس على مفترق طرق حاسم. التاريخ يُذكّرنا بأن القوى الاجتماعية، وعلى رأسها الاتحاد، كانت دوما ركيزة أساسية في حماية مكتسبات الشعب ودرء تغوّل السلطة. وفي المقابل، يحاول قيس سعيّد إعادة صياغة المشهد السياسي بما يراه ضرورة لإصلاحات عميقة.
مهما كانت نتائج هذا الصراع، يظلّ الحوار والتوافق الوطني هو الخيار الأمثل لتفادي انزلاقات قد تؤدي إلى مزيد من الانقسام والتوتر. وتجربة تونس في عام 2014، التي قادت البلاد إلى نيل جائزة نوبل للسلام، تشكّل خير مثال على قوة الحوار والتوافق الوطني في تجاوز الأزمات السياسية والاجتماعية. فالبلاد تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى بناء جسور تفاهم تفتح الباب أمام مستقبل أكثر استقرارا.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس