جيلاني الهمامي، الناطق الرسمي باسم حزب العمال
أفريقيا برس – تونس. يوم 25 جويلية 1957 أعلن عن قيام النظام الجمهوري في تونس وإنهاء النظام البايوي القديم. وقد رسم هذا التاريخ خط الفصل بين عهدين من تاريخ تونس وشكل واحدا من أكبر وأعمق المنعرجات السياسية التي عرفتها بلادنا.
إنهاء عهد البايات
خضعت تونس على مرّ تاريخها القديم وإلى حدود يوم 25جويلية 1957 للنظام الملكي في أشكاله المتعددة تناوبت فيه عهود وسلالات على الحكم منذ “الفتح الإسلامي” مرورا بعصر الولاة ودولة بني الأغلب فدولة بني عبيد العلويين (الدولة الفاطمية) والدولة الصنهاجية ثمّ الدولة الحفصية. آخر هذه السلالات انتصبت في حكم تونس بعد “الفتح العثماني” (خير الدين 1529م) هي الدولة المرادية فالدولة الحسينية التي تأسست سنة 1709على يد الحسين بن علي باي. وقد دالت السلطة طوال 250 سنة إلى 19 باي كان آخرهم محمد لامين باي.
وكما كان الأمر في الفترات التي سبقتها وسلالات الملوك الذين تداولوا على حكم تونس من قبل فإن كل الذين حكموا تونس كانوا غرباء عنها وليسوا من أبنائها. حتى مؤسس الدولة الحفصية وملوكها ينحدرون من قبيلة هنتاتة، فرع من فروع قبيلة مصمودة الأمازيغية بالمغرب الأقصى. أمّا بقية الممالك فهي إمّا عربية مشرقية بعد “الفتح الإسلامي” أو تركية علاوة على فترات أخرى قصيرة من حكم الاسبان (حوالي 40 سنة) الذين استقوى بهم الخليفة أبو عبد الله حسن الحفصي على شقيقه رشيد ابن محمد الحفصي وعقد معهم اتفاقية حماية يقول عنها أحمد ابن أبي الضياف “ذلك أن السبنيول اشترط على هذا السلطان الحسن استباحة البلاد ثلاثة أيام، والتزم له بذلك، ولا علم لأحد من أهلها بذلك. فبينما الناس في سكون عافية واغترار بحُلّب ذلك الأمان، وأسواقهم مفتوحة، إذ هجم عليهم عسكر السبنيول – على حين غفلة – وامتدت أياديهم لاغتيال النفوس ونهب الأموال، وفرّ إلى جبل زغوان من أمكنته الفرصة، بنفسه وأهله. يقال في هذه الواقعة مات الثّلث من أهل تونس، ونجا الثّلث، وأُسِّرَ الثّلث، والمأسور يفتدي إن كان له مال، وبلغت الفدية ألف دينار وتغيّرت البلاد وطُمست أعلامها، وكان ذلك سنة إحدى وأربعين وتسعمائة (914هـ – 1534م)”.
ويدوّن التاريخ على امتداد عشرات القرون الماضية ما لا يحصى ولا يعدّ من الجرائم الشنيعة الشبيهة بهذه الجريمة التي أودت بحياة ثلث أهالي تونس. فما من سلالة وما من دولة وما من ملك أو خليفة أو باي حكموا تونس إلا وجرت في عهودهم أفظع الجرائم، كان الخليفة “مراد بوبالة” مثالا ساطعا منها. ولم يكن الشعب التونسي في كل هذه الحِقَبِ سوى مجرّد رعيّة لا دور لها غير أداء واجب المبايعة ودفع الجباية أو حطبُ معارك بين الملوك في نزاعاتهم وصراعاتهم من أجل الحكم وضحية لأعمالهم الإجرامية بما جرى خلالها من عنف وتخريب وتقتيل وتمثيل بالجثث.
لقد ذاق الشعب التونسي على يد كل الذين حكموه لأكثر من 14 قرن كل صنوف الاستغلال والتنكيل والامتهان والإذلال الوطني والقومي سواء في غزوات القوى “الفاتحة” (الأمويين والعباسيين أوالفتح العثماني) أو القوى الاستعمارية (الاسبان والايطاليين والفرنسيين الخ…).
وقد خاض الشعب التونسي في وجه هذه الجرائم سلسلة طويلة من الثورات والانتفاضات شملت كل الجهات من الحاضرة (العاصمة تونس) إلى الساحل وجبل وسلات وبلاد الجريد وبلاد الأعراض(الجنوب) وفي الجبالية (الشمال الغربي) ولم تستثن أيّا من قبائل البلاد، ماجر بجهة القصرين والهمامة من قفصة ومحيطها وجلاص من القيروان وجبل وسلات ومن قبائل ونيفة بالكاف والجبالية بجهة باجة ودريد بعمل تبرسق وغيرها. ومن أشهر هذه الانتفاضات ثورة قبيلة ماجر بقيادة علي بن غذاهم وانتفاضة أهالي مساكن والقلعة الكبرى التي ذهب ضحيتها أكثر من ألف قتيل (1864). واستمرت هذه النضالات التي اتخذت طابع حركة تحرير وطني ضد المستعمر الفرنسي الذي استقدمه حكم البايات (اتفاقية باردة 1881) جسدت ملاحم كبيرة في المقاومة المدنية والسياسية (الجمعيات والأحزاب السياسية والصحف والنقابات الخ…) والمسلحة (1952) ضدّ المستعمر حتى أجبر على الخروج ومنح البلاد “استقلالها”السياسي في إطار اتفاقية تسوية كيّفتْ المخططات الاستعمارية الجديدة مضامينَهَا وسيّجَتْ “مكاسبَها”، مثلها مثل كل الاستقلالات الوطنية التي أَحْرَزَتْها المستعمرات، بقيود استعمارية جديدة. ذلك ما حصل في تونس ضمن اتفاقية باردو في 20 مارس 1956.
وفي خطوة لا تقلّ عنها أهمية تمّ يومَ 25 جويلية 1957 إلغاء نظام حكم البايات الملكي وإعلان الجمهورية محلّهُ. ورغم ما لحق هذه الخطوة من تشويهات وارتدادات نتيجة استحواذ بورقيبة (ومن بعده بن علي) على الحكم وإعلان نفسه رئيسا مدى الحياة وإخضاع البلاد إلى نظام الحكم الفردي الاستبدادي وبالتالي إفراغ الجمهورية من محتواها، رغم كل ذلك يعتبر تاريخ 25 جويلية 1957 محطة تاريخية مفصلية في علاقة الدولة بالشعب ومسألة الحكم. إذ لا يمكن أن تحجب كل الانحرافات التي عرفها نظام الحكم بعد هذا التاريخ أهمية تخلص الشعب التونسي من نمط حكم العائلات والسلالات والملوك.
25 جويلية: عودة شبيه نظام البايات
إذا كان يوم 25 جويلية 1957 هو تاريخ أوّل جمهورية في تاريخ تونس مع ما يعنيه ذلك – نظريا على الأقل – من حكم الشعب نفسه بنفسه عبر مؤسسات منتخبة وواقعة تحت رقابته وخاضعة للمساءلة والمحاسبة، فإن تاريخ 25 جويلية 2021 هو تاريخ الانقلاب على جمهورية ما بعد الثورة التي حسّن دستور 2014 مقوماتها ونحّى عنها ما علق بها من تشويهات وفساد في عهدي الدكتاتورية البورقيبية واستبداد بن علي. ويجب التذكير بأن هذا الانقلاب جرى باستعمال متعسف للفصل 80 من الدستور إذ استعملت الفقرة الأولى منه وتمّ تجاهل مفعول الفقرة الثانية عن طريق المخاتلة وتحت جناح الصمت. فَحَلُّ البرلمان لم يكن عملية سليمة من الناحية الدستوري كما لم يستهدف من الناحية السياسية، كما تمّ الترويج له، القوى الرجعية المهيمنة على البرلمان والتي حوّلتْ هذه المؤسسة إلى مَرْتعٍ للعبث والفساد بل استهدف وجود المؤسسة في حدّ ذاتها.
لقد استعمل قيس سعيد الصورة الذي بات عليها البرلمان والاستياء الشعبي ممّا يحصل أثناء أشغاله من مهازل لا لتخليص ذات البرلمان من تلك الصورة القبيحة ووضعه من جديد في المكانة اللائقة به بصفته مؤسسة أصلية نابعة من إرادة الشعب وفي خدمته وإنما استغل تلك الظروف لينقض على البرلمان ومن ثمّة المرور رأسا إلى تعليق العمل بالدستور وتعويضه بالمراسيم (المرسوم 117) التي ألغت كل مقومات الجمهورية ومنحته كل السلطات وفوّضت له احتكارها دون أيّ شريك.
يمثل انقلاب قيس سعيد يوم 25 جويلية 2021 إشارة الانطلاق الرسمية في مسار تقويض أسس الجمهورية في تونس. وقد أتى هذا المسار عليها فعلا بعد فترة وجيزة حيث لم يبق من مؤسسات الدولة وسلطاتها غير “الوظائف” العاملة تحت سلطة الرئيس الذي مركز كل شيء بين يديه وحذف كل الهيئات الدستورية والرقابية وخطى خطوات باتجاه إلغاء الأجسام الوسيطة وتحويل المجتمع إلى مجرد كتلة واقعة تحت كلكله. لقد أرسى حكما فرديا دكتاتوريا منغلقا احتلّ فيه مكانة هي أقرب للملك المستبد أو الباي أكثر منه لرئيس الجمهورية.
هكذا شاء التاريخ أن يكون يوم 25 جويلية يوم نكوص نمط الحكم في تونس من جمهورية (بكل ما فيها من عيوب) إلى مملكة في نسخة بايوية تافهة وأن يعود قيس سعيد بايا جديدا لتونس متنكرا في رداء رئيس. وكما يقول ماركس “إن شعبا بأكمله كان يتصوّر أنه، عن طريق الثورة، سيسرّع تطوّره فوجد نفسه فجأة يرجع القهقرى إلى عصر انقرض”.
من عجائب التاريخ أن يكتسي 25 جويلية رمزية مزدوجة توائم بين صورتين على طرفي نقيض: إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية مقابل إلغاء الجمهورية تمهيدا لعودة الملكية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس