25 جويلية: حين يُختبر الجميع في تونس

2
25 جويلية: حين يُختبر الجميع في تونس
25 جويلية: حين يُختبر الجميع في تونس

إلهام اليمامة

أفريقيا برس – تونس. تحمل ذكرى 25 جويلية في تونس طابعا مزدوجا، فهي من جهة تمثل عيد الجمهورية الذي يخلّد إعلان النظام الجمهوري سنة 1957، ومن جهة أخرى أصبحت، منذ سنة 2021، مرتبطة باسم الرئيس قيس سعيّد الذي حوّل هذا التاريخ إلى محطة سياسية مفصلية حين أعلن تجميد البرلمان وتوليه السلطة التنفيذية، في خطوة وصفت آنذاك بـ”التصحيح الثوري” لكنها اليوم “تتخذ منحى سلطويا” وفق البعض. اليوم، وبعد أربع سنوات من هذه اللحظة، تُطرح تساؤلات عديدة حول دلالات هذا التاريخ، وتطوّر موقعه في الذاكرة السياسية الوطنية.

يتحدّث الناشط السياسي عدنان البراهمي عن دلالات هذه التاريخ قائلا في تصريحات لـ”أفريقيا برس”: “في تونس يمثل تاريخ 25 جويلية تاريخ إعلان الجمهورية والتضحية لأجلها ورد الاعتبار لها عبر محطات طويلة من 1957 مرورا إلى 2013 و2021. هذه المحطات لا تزال راسخة في الوعي الجمعي للشعب التونسي كما لا تزال معيارا محددا في فرز القوى والتيارات السياسية المستفيدة من منظومة الانتقال الديمقراطي على وجه الخصوص”.

ويحيي البراهمي، وعموما التونسيين، يوم 25 جويلية أيضا ذكرى اغتيال والده الشهيد محمد البراهمي، في عملية صارت تعتبر واحدة من أكثر المحطات دلالة في التاريخ السياسي الحديث لتونس، لما حملته من صدمة عنيفة للرأي العام وتحول مفصلي في مسار الانتقال الديمقراطي، خاصة وأنها تزامنت مع ذكرى عيد الجمهورية، وجاءت فيما صدمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد مازلت تخيّم على الشارع التونسي.

اليوم، يستحضر التونسيون تلك الذكرى وكل ما شهدته تونس منذ 14 جانفي إلى اليوم، رحلة طويلة كان فيها الشارع شاهدا على عدة أحداث ومواقف وصعوبات لم يعشها الكثير من التونسيين، خاصة من الأجيال التي عاصرت بورقيبة في آخر أعوامه ثم طيلة فترة حكم زين العابدين بن علي.

اليوم، لا شكّ في الرئيس قيس سعيّد يمتلك رصيدا سياسيا وشعبيا معتبرا يُمكّنه من إحياء ذكرى 25 جويلية بأريحية وثقة، خاصة بعد أن جعل من هذا التاريخ لحظة مفصلية في إعادة تشكيل النظام السياسي. غير أن هذه الأريحية تبقى مهدّدة بواقع اقتصادي خانق وتململ اجتماعي متصاعد، وانسداد في الأفق السياسي، ما يجعل من هذا اليوم أيضا لحظة اختبار حقيقية لقدرة السلطة على تحويل الرمزية إلى منجز فعلي.

أريحية ولكن…

إلى وقت قريبا قسّمت أغلب القراءات المشهد السياسي في تونس، عشية 25 يوليو، إلى ثلاث محاور رئيسية:

– السلطة ورهانها على الحسم الأمني والرصيد الشعبي الذي سجل نقاطا إضافيا بعد الموقف الأخير مع مستشار ترامب وطرح قيس سعيد للقضية الفلسطينية وقوله في رسالة موجهة للعالم ولأنصار التطبيع: “من أرض قرطاج، لا نساوم على المبادئ، ولا نتنازل عن فلسطين”.

– المعارضة ورهانها على انفجار شعبي تكون فيه موجات الغض، رأس الحربة في استعادة زمام المبادرة السياسية

– الشارع الذي يبقى متموضعا بين الرؤيتين، منشغلا بيومياته المعيشية وضيقه من الحرارة القياسية.

لكن هذه المحاور شهدت تغييرات، عشية 25 جويلية، بعد أن تسرّبت إلى العلن خلافات حادة داخل مكوّنات “جبهة الخلاص الوطني”، ما يجعل السلطة اليوم تستقبل 25 جويلية وهي مرتاحة – نسبيا – وهي تقف أمام مشهد معارض مشتّت.

ويقول عدنان البراهمي: “بالنسبة للشعب التونسي، العلاقة مع السلطة لم تشهد انعطافا رغم الصعوبات اليومية التي تسجل على المستوى الاجتماعي والاقتصادي بسبب أن مسار 25 جويلية عمل على إنهاء تسيب وعربدة الطبقة السياسية الحاكمة خلال عشرية الانتقال الديمقراطي وأعاد دواليب الدولة ولو جزئيا إلى سيرها الطبيعي وانطلق في ترسيخ مبدأ السيادة وبالتالي لا يزال التونسيون يراهنون على نجاح السلطة في هذه الفترة ولو بالحد الأدنى”.

ويضيف: “السلطة اليوم مطالبة بمزيد العمل على حل الملفات العالقة اليوم خاصة المتعلقة بالقدرة الشرائية والفساد والتشغيل حتى لا يفرغ مسار 25 جويلية من مضامينه الاجتماعية والسياسية”.

ويعتقد البراهمي أن “فكرة تصحيح المسار في علاقة بأي سلطة في العالم يجب أن تكون ذات أولوية خاصة في الدول التي شهدت اضطرابات على المستوى السياسي والأمني والاقتصادي. أي أن كل سلطة مطالبة على الدوام بتقييم أدائها بشكل موضوعي بعيدا عن منطق التجاذب والاصطفاف السياسي”.

ويؤكّد خبراء أن الوضع في تونس يحتاج فعلا إلى تقييم، ومهما تمتّع النظام بدعم شعبي، فيبقى محدودا ومهدّدا بردّة فعل يمكن أن تحدث في أي وقت.

يراهن النظام في تونس اليوم على “عقدة” الشارع التونسي من “العشرية السوداء” ونفوره من كل المنظومة التي حكمت البلاد منذ 14 يناير إلى غاية 25 جويلية 2021. وما يعزّز من موقع السلطة في هذه اللحظة، ليس فقط تفكك المعارضة، بل أيضا فتور الشارع الذي أضحى منشغلا بهمومه اليومية، من غلاء الأسعار إلى الانقطاعات المتكررة للمياه والكهرباء، ناهيك عن موجات الحر الخانقة التي دفعت الكثيرين إلى العزوف عن السياسة وقلّصت الحركة في الشوارع.

لكن هذا الرصيد بدأ ينفد على وقع أزمات اجتماعية، ومشاكل مرتبطة أساسا بقطاعين رئيسيين في تونس القضاء والصحة. مثلا، ارتفعت مؤخرا الاحتجاجات على الأوضاع الرديئة في السجون خاصة بعد تسجيل حالات وفاة وصفت بـ'”المسترابة” لثلاث شبان تونسيين. لا رابط يجمع بين الحالات الثلاث إلا أن الشباب الثلاثة كانوا يعانون من مشاكل صحية ولم يتمّ توفير أدنى الخدمات الصحية اللازمة. ما زاد من حدّة الغضب هو تواتر شهادات أهالي الضحايا والمنظمات الحقوقية، والتي تشير إلى تعمّد التعتيم وغياب التحقيقات الجدية.

وفي القطاع الصحي، جاءت وفاة شابة في العشرينات من عمرها من مدية قفصة بالجنوب، نتيجة رفض الطبيب علاجها لأن دفتر العلاج غير صالح ولم يكن يتوفر لدى والدها المال الكافي (مبلغ بسيط 65 دينار/ 22 دولار) لعلاجها ما اضطره إلى العودة بابنته التي فارقت الحياة في الطريق. مأساة جسدت – بمرارة – كيف يمكن لعوائق بيروقراطية وفقر مدقع أن يتحولا إلى سبب مباشر في إزهاق روح بشرية.

حالات مثل هذه هي التي تحرّك الشارع التونسي، وهي التي تشكّل شرارة الانفجار الذي تراهن عليه المعارضة بعد أن فشلت في تجييش الشارع ضد الأحكام الصادرة في قضية التآمر 1 و2، وغيرها من أحكام الصدارة ضدّ شخصيات من المعارضة ومن وجوه منظومة الحكم السابقة التي ثار عليها الشعب.

مرآة تعكس فشل الجميع

تتراكم مظالم اجتماعية ملموسة، وتخلق ببطء وقودا حقيقيا للانفجار، لا تملكه المعارضة، لكنها تراهن عليه. هذه القضايا تمسّ الناس في عمق معيشتهم، وتعيد رسم خطّ الصدع بين دولة ترفع شعار “الكرامة”، وواقع يومي يُفرّغ هذا الشعار من معناه.

ويلخّص هذا المشهد الكاتب وأستاذ التعليم الثانوي عبدو بلحاج، الذي يقول في تصريحات لـ”أفريقيا برس”: “من منظور تحرري لا سلطوي وبعد مرور أربع سنوات على تاريخ 25 جويلية نحن اليوم لسنا إزاء صراع بين سلطة ومعارضة بل أمام مرآة تعكس فشل الجميع: سلطة وعدت بالقطيعة ولم تنجزها، رئاسوية تحكم بمنطق التفويض الشعبي واستنادا إلى دستور الرئيس ومراسيمه لكن بلا مشروع تحرري فعلي وبلا منجز اقتصادي واجتماعي يذكر ومعارضة سلطوية فاسدة في مخيالها تعمل على إعادة إنتاج منظومة العشرية الفاشلة واحتكارها بكل “منافعها” القديمة، تخشى الثورة الاجتماعية وتعاديها أكثر من خشيتها للسلطة نفسها.

من هنا، “تحولت لحظة 25 إلى لحظة فراغ رمزي مرعب تطالب في ظله الجماهير بالتغيير الجذري نحو المساواة والعدالة الاجتماعية لكن تعوزها الأدوات الحقيقية لإنجازه والخشية أن تنزاح هذه اللحظة نحو الانهيار السياسي الكامل”.

كانت المعارضة تراهن على انفجار شعبي يعيد خلط الأوراق، لكن ذلك لم يحدث. وظلّ الشارع متأرجحًا بين لامبالاة تغذّيها الخيبات المتراكمة، وانتظارية مشوبة بالغضب، دون أن يترجم ذلك إلى حراك واسع أو منظم. بدا أن الجميع في حالة انتظار: السلطة تنتظر الاستسلام، والمعارضة تنتظر الغضب، والشعب ينتظر الفرج.

من هذا المنظور، يرى بلحاج أن “25 جويلية قد يتحول من لحظة فرز بين السلطة والمعارضة إلى لحظة نفي لهما معا. ساعتها سيكون المشهد مفتوحا على احتمالين: إما ثورة جذرية لا تقودها القوى السياسية والاجتماعية التقليدية أو ارتداد تسلطي قمعي يعيد إنتاج نفس الدائرة القديمة المغلقة عندما تفشل المنظومات التقليدية في الإجابة عن أسئلة الناس وتطلعاتهم الجذرية ينتقل الحدث السياسي من داخل المؤسسات إلى “الهامش”: إلى الشوارع، الأحياء الشعبية، المعاهد والجامعات والمصانع وحتى الفضاء الرقمي وهناك قد تنضج هذه الأسئلة”.

ويضيف أن “اللاسلطوية عند توطينها في السياق التونسي، لا كترجمة حرفية ومسقطة بل كموقف جذري من الواقع السياسي والاجتماعي الراهن، ليست مجرد رفض للدولة أو الحكومة بل هي موقف تحرّري من كلّ أشكال السلطة والهيمنة المفروضة سواء أتت من النظام الحاكم أو من المعارضة الرسمية أو من البيروقراطيات النقابية أو حتى من الأيديولوجيات الكبرى المتنافية التي تدّعي تمثيل الشعب… إنها دعوة إلى تفكيك منظومة الهيمنة بكل وجوهها: السياسية، الطبقية، البوليسية، الرمزية… وبناء تصوّرات بديلة تنطلق من التنظيم الذاتي والعدالة الاجتماعية الأفقية والكرامة الوجودية للإنسان دون وسطاء ولا أوصياء”.

وفي خضم هذا التباين بين السلطة التي تحتفل بـ”مسارها التصحيحي” والمعارضة التي تراهن على تعبئة جماهيرية دون أرضية واضحة، يبرز الشارع التونسي كفاعل لا يمكن اختزاله في الاستجابة لهذه الأجندة أو تلك. فبعيدًا عن منطق التجييش الحزبي أو الاصطفاف السياسي، بدأت تتبلور ملامح وعي احتجاجي مختلف، يقوده فاعل اجتماعي لا سلطوي – لا بمعنى الفوضوية – بل بمعنى التحرر من منطق التبعية لزعامات مهزومة أو مراكز قرار متصارعة.

في تونس اليوم، لا تبدو الشرارة القادمة ذات طابع سياسي مباشر بل هي أقرب إلى صرخة اجتماعية قادمة من قاع الألم والمعاناة. لا تُطلقها زعامات، بل تحرّكها حكايات موت صامت على أبواب المستشفيات ووراء قضبان السجون وفي الشوارع حيث استشرى العنف. وبينما تواصل السلطة تعويلها على خطاب “الحزم” “والتآمر” وتراهن المعارضة على تعبئة متقطعة، يبقى المواطن التونسي محور الأزمة، وهو من قد يغير قواعد المشهد الراهن.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here