إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. شهدت مدينة قابس خلال الأيام الأخيرة موجة غضب شعبي غير مسبوقة، بسبب تفاقم التلوث الصناعي الذي يهدّد صحة السكان وبيئة المنطقة منذ عقود. تحوّلت الاحتجاجات إلى أزمة متصاعدة تكاد تخرج عن السيطرة. وبين تعقيدات الوضع البيئي ومخاوف الاستغلال السياسي، تبدو أزمة قابس مرآة لأزمة أعمق تعيشها البلاد في إدارة ملفّ التنمية والبيئة.
ويقول سفيان المسيليني، من أهالي قابس وشاهد عيان على الأحداث الأخيرة لـ”أفريقيا برس”: “مطلبنا واضح، والمشكل في قابس واضح، ومعالجته واضحة.. الأزمة البيئية في قابس إرهاب بيئي يمارس في حقّ الجهة والأهالي. انقطعت سبل العيش الكريم. فلا صحة ولا فلاحة ولا صيد بحري، الأمراض انتشرت في كل العائلات: هشاشة العظام والعقم والأمراض الجلدية والصدرية والسرطانية. التلوث الهوائي والغازات السامة تصل إلى أبعد من 40 كلم، والطبقة المائية استنزفها المجمع الذي انتهت صلاحيته منذ سنوات فقد اتخذت الحكومة في شأنه قرارا بتفكيكه منذ جوان 2017 لكن هذا القرار لم يفعلّ”.
ويضيف المسيليني: “سعى الأهالي منذ سنوات عبر احتجاجات سلمية متواصلة لغلق هذه الوحدات ولكن هيهات، فالحكومة لا يعنيها موت العباد بقدر ما يعنيها ما تناله من مداخيل حتى ولو كانت على حساب حياتنا. هذا المجمع يعرف القاصي والداني أنه يحتوي على مئات الآلاف من الأطنان من السّموم والمواد الخطرة، أي أنّ أكثر من نصف مليون ساكن في قابس يعيشون تحت قنبلة موقوتة قد تنفجر ذات يوم لا قدّر الله مثلما حدث في لبنان”.
ودعت التنسيقية الجهوية للدفاع عن استحقاقات ولاية قابس إلى اضراب عام يوم 21 أكتوبر، معتبرة أن “قابس اليوم لا تنتظر خطابات استهلاكية، بل قرارات جذرية تحمي البيئة والإنسان معا. فالمشكلة ليست في الوعي الشعبي بل في غياب الإرادة السياسية الكاملة لتفكيك منظومة التلوّث التي نخرت المدينة منذ عقود… قابس ليست ملفّا إداريّا يُدار من العاصمة، بل قضية وطنية تمسّ كرامة التونسيين جميعا”.
يعتبر اغلاق المجمع الكيميائي مطلب أهالي قابس منذ عقود، لكن لم تتخذ أي من الحكومات السابقة قرارات حاسمة بشأن إيجاد حلّ لهذه السموم القاتلة. ويشير تقرير الاحتجاجات الصادر عن المرصد التونسي الاجتماعي إلى أن مدينة قابس شهدت خلال الربع الثالث من سنة 2025 ما يبلغ 138 تحركا احتجاجيا على خلفية الأزمة البيئية.
ووصلت هذه الاحتجاجات ذروتها خلال الأيام الماضية حين تناقل رواد مواقع التواصل الاجتماعي من أهالي المدينة فيديو لعشرات تلاميذ تعرّضوا لاختناق وهم داخل مدرستهم بسبب انبعاثات غازية سامة من المجمع الكيميائي.
عادت المطالب وتعالت الأصوات عالية وسط إصرار على إيجاد حل نهائي لما وصفه الرئيس قيس سعيد نفسه بـ”اغتيال بيئي” لأهالي قابس. وكادت الأوضاع تخرج عن السيطرة بعد تدخّل الأمن ومحاولة تفريق المحتجين بالقنابل المسيلة للدموع.
يضع الوضع في قابس، النظام، أمام معادلات صعبة، وفق المحلل السياسي التونسي منذ ثابت، فمن جهة “الإبقاء على المجمع الكيمائي يعني تلوث وأمراض واختناق… ومن جهة أخرى فإن اغلاق مصانع التحويل في انتظار استبدال التكنولوجيا الملوثة بأخرى ملائمة يعني بطالة يصعب تغطيتها، وكلفة الاستبدال التكنولوجي خيالية تحتاج مخطط”.
المعارضة على الخط
في هذا المناخ المتوتر، سعت بعض أطراف المعارضة إلى الإدلاء بدلوها، محاولة استثمار الاحتجاجات لإيجاد منفذ سياسي يحقق أهدافها، مستفيدة من حالة الانزعاج العام.
وكان الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي طالب بإغلاق المجمع الكيميائي، لكنه وجّه، في سياق تعليقه على الأحداث في قابس: “دعوة إلى الشباب، وخاصة “جيل زد”، للتحرك والمساهمة في تغيير الأوضاع في تونس”.
وكتب في تدوينته: “على جيل زد أن يتحرك واتباع نموذج نيبال لوضع حد للحكومة.. كفى ترددا.. لا حل غير استنفار الشباب في كل قرية ومدينة لإسقاط نظام غير شرعي وغير كفؤ، يقود البلاد كل يوم إلى المزيد من الغرق في مستنقع بلا قاع”.
وفي ردّ ضمني على مثل هذه التدخلات أكد الرئيس قيس سعي على أنّه “لا مجال لأن تكون هذه الأوضاع محلّ مزايدات أو توظيف من الداخل أو الخارج على السواء”.
في ذات السياق، شدّد الناشط السياسي الدالي البراهمي في تصريح لـ”أفريقيا برس”، على أن “قابس أرض الأصالة والعطاء لن تكون ساحة لأطماع الانتهازيين ولا مرتعا للمرتزقة المتربّصين بوحدة الوطن… لقد ولّى زمن المتاجرة بالمعاناة والمزايدات الرخيصة. وفي القريب العاجل سيتمّ غلق ملفّ التلوث في قابس علميًّا كما فعلت مدن كبرى في العالم واجهت تحدّيات مماثلة مع المصانع الكيميائية لتستعيد قابس رونقها الأخضر وجمالها الطبيعي بواحاتها وشواطئها البهيّة كما كانت سابقا رمزا للنقاء والحياة”.
باستثناء، تصريحات الرئيس المنصف المرزوقي، وبعض التدوينات التي نسبت لمعارضين من حركة النهضة التي لم تصدر بيانا رسميا حول الأحداث، عبّرت أغلب “الأحزاب” والمنظمات الحقوقية، عن رفضها للمقاربة الأمنية في التعامل مع احتجاجات قابس، إلا أنها تجنّبت توجيه انتقادات مباشرة للنظام السياسي، مفضّلة التركيز على المطالب البيئية والاجتماعية المشروعة.
يعكس هذا الحذر في الخطاب رغبة في الحفاظ على الطابع المدني والإنساني للتحركات، دون الانزلاق نحو صدام سياسي قد يُفقد القضية زخمها الشعبي، خاصة وأن هناك حلولا تبدو مطروحة بعد تدخل الصين على خط الأزمة عبر مباحثات مع الحكومة التونسية لتأهيل المجمع الكيميائي ومعالجة التلوث.
لم تُعلن بعد خطوات تنفيذية واضحة، لكن وزارة التجهيز والإسكان التونسية أعلنت عن بدء مباحثات رسمية مع السفير الصيني وان لي، بهدف تأهيل وحدات إنتاج المجمع الكيميائي ومعالجة الانبعاثات الغازية والتسربات السامة، والقضاء على أسباب التلوث البيئي الذي يعاني منه السكان منذ عقود في شط السلام بقابس، وهو أكثر المناطق تضررا.
في ذات السياق، لا يرى الخبير الاقتصادي العربي بن بوهالي أن إيجاد حل لأزمة المجمع الكيميائي في قابس “أمرا مستحيلا”، فقد “انتهت صلاحية مصنع قابس الكيميائي، إذ تجاوز عمره 50 عاما ويجب إغلاقه، وللمصانع عمر افتراضي نظري مثل البشر، والمعدات قديمة وتحتاج إلى استبدال، ويجب استخدام تقنيات جديدة واستبدال التقنيات القديمة”.
ويضيف بن بوهالي: ” يمكن للرئيس قيس سعيد العمل مع البنك المركزي التونسي واستخدام المادة 11 من ميزانية 2025 واستخدام مبلغ 8,000 مليون دينار (3 مليارات دولار أميركي) لإغلاق المصنع ودفع تعويضات للعائلات المتضررة وبناء مصنع كيميائي جديد في منطقة أخرى بعيدة عن المناطق السكنية. كما يمكن لتونس الاستعانة بالتكنولوجيات الفرنسية أو الألمانية والتعاقد مع شركة صينية لتخفيض تكلفة الإنشاءات لبناء مصنع كيميائي جديد خلال 36 شهرا”.
وبين هذا وذاك تبرز خطة التعاون الصيني كحبل نجاة للطرفين، النظام وأهالي قابس، في مسعى لحل الأزمة دون أضرار تمس بأمن البلاد واستقرارها.
جنة تحولت إلى جحيم
كتب المسرحي والكاتب التونسي لسعد بن حسين عن “قابس الجنة التي تحولت إلى جحيم”، قائلا: “تعيش قابس هذه الأيام لحظات فارقة في تاريخها.. فإما أن تكون أو.. تكون.. لن أعود للتاريخ القديم وما كتبه هوميروس عن الواحة البحرية لقابس ولا التاريخ الوسيط وما كتبه رحالة العرب عن قابس/ الجنة، ولا التاريخ الحديث وتلاعب سلطات دولة الاستقلال بأجدادنا واستغلال محافظتهم (رفضهم للسياحة) ووعدهم بميناء تجاري على غرار ميناءي رادس وصفاقس ليتفاجؤوا بمنطقة كيميائية سرعان ما قضت على البر (الفلاحة) وعلى أحد أفضل البحار في العالم… ماتت الفلاحة والواحة. لا هواء في قابس بل جملة من الأمراض المتفشية بين الصغار والكبار.. أنا مع أهلي في قابس وحقهم في بيئة سليمة، مع حق الأجيال القادمة ومنهم أبنائي في الحياة والنمو بشكل طبيعي دون أمراض وتشوهات”.
وفي عريضة أخرى عبّر “فنّانون وفنّانات وعاملات وعاملو القطاع الثّقافي بتونس، عن الدعم الكامل للاحتجاجات السلمية لأهالي قابس ووحدتهم في النضال من أجل مطلبهم المشروع بتفكيك الوحدات الملوثة وإنهاء 53 عاما من التلوث البيئي الذي عانوا منه.”
وجاء في العريضة: “إننا نساند الحق الدستوري لمواطنات ومواطني قابس في الصحة وفي بيئة سليمة، وحقهم المشروع في المطالبة بالقطع النهائي مع تدمير محيطهم الطبيعي. ما تشهده قابس اليوم ليس مجرد أزمة بيئية عابرة، بل هو إجرام بيئي تُقدَّم فيه مصالح اقتصادية ضيّقة ومرتبطة بتبعية أجنبية على حساب الحقّ في الحياة والكرامة والعدالة البيئية. وفي هذا الإطار نتوجّه بتحية فخر إلى أهالي قابس لصمودهم في وجه منظومة التلوّث والتهميش الممنهج طيلة عقود، ونجدد مساندتنا اللامشروطة لأهالينا في نضالهم بكل الأشكال المشروعة، متمسكين بالمطالب التي التفوا حولها، ألا وهي:
– الايقاف الفوري لنشاط الوحدات المسؤولة عن التسربات الأخيرة وحالات الاختناق الجماعي.
-التفعيل الفوري لقرار تفكيك الوحدات الملوثة.
– محاسبة كل المسؤولين والوزاريين وكل من تورط في تعريض صحة مئات الآلاف من أرواح أهالي ڨابس للخطر و المرض والمعاناة.
– إلغاء قرارات 5 مارس الحكومية لتركيز الهيدروجين الأخضر ووحدة جديدة للامونيا.”
الأزمة البيئية في قابس تمتد لتشمل مناطق الحوض المنجمي ومدنا أخرى، حيث يعاني السكان من مخلفات المواد الكيميائية سواء المنبعثة من المجمعات أو المدفونة في الصحاري، ما يهدد بانفجار اجتماعي أكبر إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة ومستدامة.
مع ذلك، يظهر من تضافر الجهود أن الحلول ممكنة، حيث تعكس التحركات البيئية في قابس والبيانات والتصريحات الداعمة لها وعيا مجتمعيا متجددا.
هذه التحركات لم تعد مجرد احتجاجات تقليدية، بل أصبحت حركة مجتمعية متكاملة تجمع بين أهالي المدينة والنشطاء والحقوقيين والفنانين، وهو ما يُعدّ تطورا نادرا في المشهد السياسي التونسي. ويضفي هذا الانخراط الشامل على القضية بعدا إنسانيا وحضاريا، ويؤكد أن العدالة البيئية ليست رفاهية، بل حق أساسي للأجيال الحالية والمقبلة وإهمالها يهدد بانفجار مجتمعي في المستقبل إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة ومستدامة.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس