أفريقيا برس – تونس. بعد سنوات من الجفاف الحاد، بدأت تونس صيف العام الحالي تلتقط أنفاسها مع تحسّن ملحوظ في نسب امتلاء السدود، وغياب شبه تام لأزمة التزود بالمياه أو الانقطاعات المبرمجة.
وبحسب أرقام الإدارة العامة للسدود والمنشآت المائية الكبرى (حكومية)، بلغ مخزون السدود في تونس بتاريخ 8 أغسطس/آب 2025 نحو 777 مليون متر مكعب، بنسبة امتلاء بلغت 32 بالمئة، مقارنة بـ599 مليون متر مكعب في نفس التاريخ من العام الماضي، حين لم تتجاوز النسبة 25 بالمئة.
ورغم هذا التحسن، يبدي خبراء مخاوف من استمرار أزمة المياه، خاصة إذا تأخرت أمطار الخريف وغابت الإجراءات الاستراتيجية طويلة الأمد.
يرى المسؤول السابق في قطاع المياه بوزارة الفلاحة محمد صالح قلايد، أن “الوضع ليس مريحا رغم التحسن، هذا الصيف سيمر بسلام نسبي، لكن لا ضمانات على نزول أمطار خريفية مبكرة”.
وأضاف: “وقع استعمال المياه الجوفية بشكل مفرط خلال الفترة الماضية، مما تسبب في استنزاف كبير للموارد، ما يزيد من احتمالية وقوع أزمة كبيرة في حال تأخر أمطار الخريف”.
ووفق إحصائيات رسمية، بلغت الكميات المستغلة من المياه الجوفية خلال عام 2023 نحو 3.2 مليارات متر مكعب، بزيادة تقدر بـ 140 مليون متر مكعب مقارنة بسنة 2022.
غياب الإجراءات
وأشار قلايد إلى أن “إجراءات التقنين التي أقرتها الحكومة في مارس/آذار 2023، لا تزال قائمة لكنها غير مطبقة فعليا، ما يعكس استسهالا في التعامل مع الأزمة”، مشددا على أن هذا لا يلائم الظروف الحالية لأن الأزمة لا تزال متواصلة.
وفي مارس 2023، وخلال سنة جافة صعبة جدا، أقرت الحكومة التونسية قانونا يقضي بتقسيط توزيع الماء الصالح للشراب ومنع عدة استعمالات للماء.
وأوضح قلايد أن “العالم كله يعيش أزمة ماء والمشاكل بين الدول حول المياه متواصلة ونحن لسنا بعيدين عن هذا”، مؤكدا أن “المنسوب الحالي والموارد التي لدينا لن تكفي للسنوات القادمة ونحن نعيش اليوم ليومه بالنسبة للمياه”.
وتابع: “نعيش يوما بيوم في إدارة ملف المياه، والمنسوب الحالي لن يكفي السنوات القادمة ما لم نغير طريقة استهلاكنا وتوزيعنا للمورد”.
شبكات متهالكة
ونوه قلايد إلى أن “وجود العديد من الإجراءات التي لم تُفعّل منذ سنوات، منها تحديث مجلة المياه، وتحسين مردودية شبكات التوزيع، في ظل ضياع كبير للمياه مقابل ارتفاع في الطلب”.
وحذر من أن “المنشآت الحالية من خزانات وشبكات غير قادرة على تلبية الطلب، حتى وإن امتلأت السدود بالكامل، إذ لا بد من مشاريع جديدة وتزويد الشبكات بآلات إحصاء ترصد المناطق الأعلى استهلاكا للتحكم بشكل أفضل في الموارد”.
وتعد مجلة المياه التي صدرت عام 1975، هي القانون الذي ينظم استغلال وتوزيع الموارد المائية في تونس، إذ تشكل المرجعية الأساسية في إدارة المياه وتحديد حقوق وواجبات المستخدمين.
التحكم في الاستهلاك
وأوضح قلايد أن القطاع الفلاحي يستهلك نحو 78 بالمئة من الموارد المائية في البلاد، داعيا إلى تقليص هذه النسبة لتصل إلى 70 بالمئة على أقصى تقدير.
وأضاف: “لا جدوى من مواصلة زراعة الطماطم للتصدير التي تستهلك كميات ضخمة من المياه ولا يستفيد منها سوى عدد محدود من المصدرين”.
وتابع: “نحن في وضعية شح مائي منذ سنوات، وانقطاعات مياه الشرب أصبحت أمرا اعتياديا، خاصة في المناطق الساحلية”.
استنزاف السدود
من جانبه، قال الأكاديمي والباحث في التنمية والتصرف بالموارد، حسين الرحيلي، إن “نسبة امتلاء السدود البالغة 32.5 بالمئة تعد جيدة مقارنة بالعام الماضي، لكنها لا تخفي هشاشة الوضع، خصوصا أن نحو 2 مليون متر مكعب يتم ضخها يوميا من السدود”.
وأضاف: “في ولاية باجة (شمال/ أهم المناطق الفلاحية)، تم منع الزراعات المروية في 3 أو 4 مناطق، كما أن نظام القطع الدوري للمياه ما زال معمولا به”.
وأشار إلى أن “المرصد التونسي للمياه (غير حكومي) سجل خلال يوليو/تموز الماضي 604 حالات انقطاع لمياه الشرب، بمتوسط 20 بلاغا يوميا، شملت ولايات جندوبة (شمال) والقيروان (وسط) والمنستير (شرق) وصفاقس (شرق)”.
وحذر الرحيلي من أن “الوضع هيكلي ولا يتعلق فقط بكميات الأمطار، ففي صيف 2019 كانت نسبة امتلاء السدود 62 بالمئة، مقارنة بـ32 بالمئة هذا العام”.
ولفت إلى أن “طاقة استيعاب السدود في تونس تبلغ 2.3 مليار متر مكعب، فيما لا يتجاوز المخزون الحالي 700 مليون متر مكعب، وهو ما لا يفي بالحاجيات”.
وأضاف: “سد سيدي سالم (ولاية باجة) الأكبر في البلاد، لا تتجاوز نسبة امتلائه 19 بالمئة، وسد الهوارب (في القيروان) جف تماما، أما سد نبهانة (القيروان/ وسط) فقد تراجعت نسبة امتلائه إلى 5 بالمئة، ما أدى إلى توقف استعماله”.
وأشار إلى أن “استغلال الموائد السطحية بات مجحفا، والمياه التي تضخ منها لا تتجدد بسهولة في ظل ضعف التساقطات”.
حلول ملحة
ودعا الرحيلي إلى فتح “حوار مجتمعي واسع لتحديد السياسات العمومية الفعالة في إدارة المياه، لأن المشكل لم يعد تقنيا فقط، بل يرتبط بتصورات واستراتيجيات”.
وأشار إلى أن “توزيع ملف المياه بين أكثر من 20 وزارة وهيئة مختلفة يعرقل التنسيق، ويحول دون بلورة سياسة مائية منسجمة وفعالة”.
وشدد على ضرورة “تحديث مجلة المياه التي لم تعد تعبر عن الواقع الجديد أو تعكس التغيرات المناخية والسياسية والاقتصادية”.
وقال الرحيلي: “ينبغي أن نعيد تحديد توجهاتنا الزراعية، هل سنواصل تصدير البرتقال والفراولة وزيت الزيتون، أم نوجه المياه نحو إنتاج الحبوب، الأعلاف، اللحوم الحمراء، ومنتجات الألبان”.
وأضاف: “تحقيق السيادة الغذائية يمر عبر السيادة المائية، ولا يمكن الاستمرار في الاعتماد على الأسواق العالمية، كما حدث في أزمة صيف 2023 حين عانت تونس من نقص حاد في القمح بسبب الحرب الروسية الأوكرانية”.
وخلال صيف 2023، تعرضت تونس لأزمة حادة في التزود بالحبوب وشهدت طوابير طويلة أمام المخابز نتيجة انعدام التزود بالقمح الأوكراني نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية.
وختم الرحيلي بالقول إن “ارتفاع درجات الحرارة وزيادة التبخر، والتغيرات المناخية، لا تزال بلا انعكاس فعلي في السياسات العمومية”، مضيفا أن “إنتاج الفراولة في الوطن القبلي يستهلك كميات ضخمة من المياه ولا يحقق مردودية إنتاجية أو تصديرية مجزية”.
واستدرك: “لا يمكننا الاستمرار في نفس السياسات القديمة في ظل أزمة حقيقية، فالمياه ليست مجرد مورد تقني، بل قضية استراتيجية تمسّ السيادة والتنمية والحياة”.
وفي 6 أغسطس الجاري، شدد كاتب الدولة لدى وزير الفلاحة المكلف بالموارد المائية، حمادي الحبيب، على ضرورة تضافر جهود كافة الجهات المعنية لتجاوز الصعوبات، وضمان تلبية حاجيات المواطنين والمزارعين.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس