الشعب التونسي… فاعل سياسي

80
الشعب التونسي… فاعل سياسي
الشعب التونسي… فاعل سياسي

نور الدين ثنيو

أفريقيا برس – تونس. عندما نريد أن نعرف ما فعل ويفعله الشعب التونسي، علينا أن لا نكتفي بالمتداول في تقييم الوضع السياسي، خاصة لحظة تنظيم الاستحقاقات الانتخابية ومواعيدها ونتائجها.. لأن الحالة التي يفرضها الشعب التونسي خاصة، مع إضرامه لشرارة ما عرف بالثورات العربية في بداية العقد الثاني من هذا القرن.

فالحديث بعد الاستفتاء الأخير عن دستور جديد، عبّر عنه الشعب التونسي بالامتناع عن التصويت، وهو أعلى أشكال الوعي السياسي، بعد أن صار النظام له القدرة على التحكم في دواليب السلطة وآلياتها بالفعل والفعل المضاد، أي قدرة على جمع المفارقات والمتناقضات. فقد جاء الرئيس التونسي الحالي إثر ترتيبات دستور الشعب التونسي لعام 2014، ووقف أمام الشعب كله ليقول له إنه سوف يحترم الدستور ويمجده.. لكن سرعان ما ارتكس عليه وكشف عوراته، على حد زعمه.

الوجه الثاني لفساد تصرف الرئيس قيس سعيّد هو انقلابه على الوضع السياسي والقضائي والتشريعي برمته، وكأن تونس كانت حالة غريبة واستثنائية وليست من هذا العالم. الوجه الثالث الغريب في تصرف الرئيس قيس سعيد، أنه أتى إلى الحكم بناء على هذه الأوضاع الذي كان ينظمها دستور 2014. الوجه الرابع لهذه المفارقات، إن الرئيس الحالي أغلق المجال ليس على المعارضة فحسب، بل على من كانوا رؤساء للبلد وكبار المسؤولين الذي صنعوا مع غيرهم الحدث التونسي العظيم، نذكر علي سبيل المثال الرئيس منصف المرزوقي، الذي تذكرنا حالته بعهد الاستعمار وما بعده عندما كان الوطنيون والمناضلون يتخذون من العواصم الأوروبية فضاءات للمقاومة ولحركات التحرر، وأخيرا وليس آخرا، أن المس بدستور البلد على النحو الذي أقدم عليه، هو اعتراف صريح وواضح بعجزه عن إدارة وتسيير البلد… الأمر الذي دفعه إلى ما هو أسهل وأرخص.. النيل من الدستور والتمسح والتدثر بالشعب. بعد الاستفتاء الأخير على الدستور الجديد، يمكن الحديث عن الشعب التونسي بمفهومه الجديد، أي كفاعل سياسي لا يجاري النظام ويرفض ما يراه منافيا لإرادته بالامتناع، لأن النظام السياسي مع رئيسه يتحكمان ليس في دواليب السلطة فحسب، بل في نتائج الاقتراعات والانتخابات والاستفتاءات مهما كانت النسبة.. إلى حد الاعتراف بالأقلية في الحكم وليس الأغلبية. وعليه، فالشعب التونسي يفصح عن طريق الامتناع عن إرادته السياسية ليس إلى الداخل، بل خاصة إلى الخارج في كشف حالة تعبير جديدة للشعب حيال نظامه بعدم مجاراته ورفضه غلق دواليب السلطة والمعارضة في آن واحد، وتأجيل من ثم إنجاز الدولة المكتفية بذاتها التي تأبى الامتلاك والاستحواذ والاستغلال.

الشعب التونسي الذي امتنع عن التصويت على دستور الرئيس قيس سعيّد، هو تعبير صريح وصادق عن موقف رافض للسلطة، على خلاف النظام القائم الذي يتمسح بالشعب، من أجل أن يضفي على نفسه شرعية لا توفرها له نتائج الاستفتاء، لأن أكثر من ثلاثة أرباع الكتلة الانتخابية لم توافق على الدستور الجديد.. ومن ثم يجب أن نسارع، على مستوى التحليل والتفكير، إلى فك الارتباط بين النظام القائم ورئيسه، والشعب التونسي بسبب فساد المعادلة التي تلح على وجود أطراف العقد الاجتماعي والسياسي المؤمن والمصادق على نظرية الدولة المدنية الحديثة والمعاصرة. الحقيقة التي تمخضت عن الاستفتاء الأخير، خاصة أنه تناول التصويت على القانون الأساسي للدولة التونسية ووثيقتها الجوهرية التي تعد بمثابة التشريع الهيكلي والإطار القانوني الذي يحكم تونس، ويتحكم في مصيرها. استفتاء الشعب التونسي بالغياب جواب قاس وفاعل في حياة العرب والعالم وضرورة الانتقال من توكيد الغياب والامتناع والرفض كأساليب للقول (لا).. وكأنجع طريقة لتحرير الدولة من جوائح وأمراض وتقاليد فاسدة، إلى محطات سياسية وقضائية وتشريعية وإدارية واقتصادية ينتظرها المجتمع والشعب والأمة والدولة، كلحمة واحدة تؤكد الوجود، وتحرص على التفكير في الموعود وتحقيقه. وعليه، أو هكذا يجب التصرف، علينا أن ننفرد بالشعب كمفهوم من مفاهيم نظرية الدولة، التي يعرف دلالاتها قيس سعيد، باعتباره أستاذ القانون الدستوري، والابتعاد به عن السلطة والنظام القائم، تلافيا لاستغلاله الاستغلال البشع، واحتكاره من أجل تمرير الأخطاء والترهات والهنات، فضلا عن التجاوزات والأغراض الطائشة، على ما فعل الرئيس نفسه عندما عطّل الحياة كلها لأكثر من سنة، وينتظر أكثر من سنة من أجل ترتيب الوضع.. وقد لا يحدث، أي أنه أقدم على مغامرة سياسية لا تمت إلى النزاهة والاستقامة والمعقولية والرشاد في الحكم والحكامة. نعم، ففي عصر الحكم الراشد، بإمكان الشعب أن يعبر عن نفسه بعيدا عن دواليب السلطة وإكراهات النظام، على ما فعل الشعب التونسي بامتناعه عن التصويت، ومن ثم إحباط محاولة التآمر على دستور البلاد ليس بالثورة والحرب، بل بالإسعافات الخارجية والأممية والإنسانية.. لأن منطق الأقلية الساحقة يجب أن لا يسود. واجب الإسعاف والتدخل والتعاون الدولي متأت في حقيقة الأمر من غياب عنصر الشعب، الذي رفض أن يكون كتلة بشرية يجري عليها الحكم ويرفض أن يسوغ الحكم بها ويُضفي عليه الشرعية.. كل ذلك انتهى في حالة الشعب التونسي، الذي صنع الحدث عبر آلية الامتناع وعدم الامتثال لصناديق الاقتراع الفارغة من أي مضمون، ولا تعبر عن أي محتوى ولا تقرر مصيرا، بل لا تمنح حكما، بل دائما القدرة على التحكم في الشعب ككتلة تصلح لأن تقاد ويفعل بها وتساق إلى غير ما تريد. فقد بادر الشعب التونسي إلى استحقاق نفسه، وتوكيدها كفاعل في المجال السياسي بالمعنى النبيل والشريف للكلمة، مستغنيا عن اعتبار الدولة ومؤسساتها التي أصرت وعاندت على المس بالدستور وتغييره. فالشعب هو هذا المعنى المنافي للدهماء والسواد الأعظم، وكتلة الأهالي والقطيع، وكلها مفردات لمعنى واحد عند النظام القائم. تصرف كهذا، يعادل في حقيقة الأمر تصرفا أو فعلا عموميا مؤسساتيا تاريخيا يصلح ما أفسدت أو تحاول أن تفسده السلطة الحاكمة.

الصورة المناقضة لنفسها هي أن الشعب قوة عمومية، والنظام حكم فردي، أي بتعبير آخر، شخصية اعتبارية ممثلة في الشعب ضد شخصية طبيعية ممثلة في السلطة الحاكمة. مفارقة غريبة صنعها الشعب التونسي الذي ينتظر الحل ليس بالعنف والقوة والثورة، بل بالتعاون الدولي والأممي والإنساني.. لأن الرئيس قيس سعيد مثله مثل سائر الرؤساء الذين انقلبوا على أنظمتهم ودساتيرهم، ليس بوسعهم أن يقدّموا إصلاحات من الداخل، وأن الخطاب الداخلي للسلطة لا يتسع للإصلاح المضاد، كما هي الثورة المضادة في عهودها الثورية والعسكرية.. أما في عصر الجماهير والشعوب الواعية والحراك السلمي المسالم، فليس إلا التفكير في حركة تسيير نحو فكرة استعادة الدولة الكاملة والتامة، عمادها هذه المرة الشعب التونسي العظيم.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس اليوم عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here