إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. يعيش الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر منظمة نقابية في تونس، أزمة داخلية غير مسبوقة تهدد وحدته وتلقي بظلالها على دوره التاريخي في المشهدين الاجتماعي والسياسي والأخطر أنها تفقد الطبقة العاملة صوتها وممثّلها التاريخي، وتضعف الضغط النقابي، ومنه ضغط الشارع، المطلوب لفرض الإصلاحات وتربك ميزان القوى في مواجهة التوجهات التي قد تهدد العامل أو السياسات الانفرادية التي تنتهجها السلطة.
ويقول النائب في مجلس نواب الشعب، محمد علي، لـ”أفريقيا برس”: “لا يختلف اثنان في كون الاتحاد العام التونسي للشغل عماد تاريخي وطني واجتماعي دافع عن تونس في معركة التحرير والاستقلال ودافع عن الشغالين بالفكر والساعد وعن حق العمل لحفظ كرامة الإنسان. وكان في العديد من المحطات ملجأ التونسيين في مواجهة الاستبداد والتفقير والاستغلال”.
ويضيف محمد علي “لكن الاتحاد يعيش أزمة مركبة وحادة منذ حكم النهضة إلى اليوم وسعت الحكومات المتعاقبة إلى إضعاف دوره وحشره في الزاوية لتقوية حكمها وإطالة أمده وتضاعفت أزمته بأوضاعه الداخلية وحدة الشرخ الذي في تقديري عمقها إقرار الفصل 20 الذي كان له أثر كبير في ضرب مبدأ التضامن وأوقد الصراع بين قياداته”.
وفي تعليقه على تصاعد الخلافات والانقسامات في صفوف المنظمة النقابية، يقول الكاتب والباحث والسياسي خالد كرونة لـ”أفريقيا برس”: “باتت الأزمة التي تعصف بالاتحاد منذرة بتفككه بعدما فقد قدرته على أخذ أي مبادرة وبعدما تضاءل دوره على رقعة شطرنج السياسة”.
ويضيف كرونة: “ما لم يتم عقد مؤتمر “إنقاذ” يعيد الاعتبار للنقابيين، الذين تم تجريدهم أو استبعادهم، في اتجاه مصالحة نقابية، وما لم يتم طي صفحة القيادة الحالية المسؤولة عن شروخ العلاقة بين الهياكل، فإن أي حل آخر ليس غير هروب إلى الأمام ولن يكون أي اعتذار مجديا لأن نورالدين الطبوبي قد انتهى ومن معه في التنفيذي”.
وفي تأكيد على حديث كرونة، كان لافتا غياب المنظمة العمالية عن المفاوضات الرسمية حول تنقيح مجلة الشغل وقانون المناولة، لكن ولئن كان سبب غياب الاتحاد “سياسي” وتعمّد إقصاءه من طرف السلطة، إلا أن المتابعون يؤكّدون أن الاتحاد العام التونسي كان في السابق يملك من وحدة الصف وقوّة التأييد ما يجعله يقف بصلابة أمام السلطة وأي تغيير قد يمسّ بمصلحة منخرطيه.
ويرفض الاتحاد مشروع التنقيح، وكان أدان ما وصفه بـ”سياسة الإقصاء المتعمدة” التي انتهجتها الحكومة في مناقشة مشروع تنقيح مجلة الشغل، معتبرا أن اقصاءه يمثل خرقا للقانون عدد 54 لسنة 2017، الذي ينص على الاستشارة الوجوبية للمجلس الوطني للحوار الاجتماعي في كل مشاريع القوانين المتعلقة بالشغل والعلاقات المهنية.
وبعد الإعلان على تمرير قانون تجريم المناولة، طالب الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل نورالدين الطبوبي “الحكومة بسحب مشروع تنظيم عقود الشغل ومنع المناولة ظرفيا”، لكن يرى متابعون أن الطبوبي يغرّد خارج السرب، فأغلب الشارع التونسي يؤيّد هذا القانون، وكان أولى بالاتحاد العمل على حل أزماته الداخلية حتى يكون صوته مسموعا ويروّج للبدائل التي يقدّمها لمعالجة نقائص قانون المناولة.
أضعفت الانقسامات الاتحاد العام التونسي للشغل وأضعفت دوره النقابي، ويحذّر مراقبون من أن استمرارها قد ينتهي بـ”انتحار” المنظمة الشغّيلة، التي تأسست سنة 1946. ويرى محللون تونسيون أن مواقف الاتحاد، بعد سنوات قليلة من ثورة 14 يناير وتعدد الإضرابات، خاصة في التعليم والصحة، شوهت صورة النقابيين وغيّرت العلاقة بين الشارع والاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يفتقد اليوم أكثر من أي وقت مضى لدعم الشارع واستعادته لصورة الاتحاد القديمة باعبتاره قلعة من قلاع المعارضة والدفاع عن حقوق العمّال.
وفي مسعى لحلحلة الأزمة وبحث سبل إعادة ترتيب البيت الداخلي، اجتمعت الهيئة الإدارية الوطنية على امتداد 3 أيام (21-22-23 أفريل 2025)، لكن يبدو أن النقاط الخلافية كانت أكبر من تحسم في تلك الاجتماعات ويتم ترحيلها إلى عقد هيئة إدارية وطنية جديدة يوم الخميس 29 ماي 2025.
وفي مسعى لإنجاح هذا الاجتماع الحاسم والمفصلي، عقد المكتب التنفيذي الوطني يوم الاثنين 26 ماي اجتماعا في محاولة لإيجاد مخارج وحلول لإذابة جليد الخلافات وإنقاذ المنظمة.
وكان محمد عباس الكاتب العام المساعد للاتّحاد الجهوي للشغل بصفاقس، دعا في تصريحات إذاعية: “إلى عقد مؤتمر استثنائي في أسرع الأوقات قبل نهاية السنة الجارية”، لافتا إلى أن “الوضع غير العادي داخل الاتحاد العام التونسي للشغل دفعهم إلى دعوة أعضاء الهيئة الإدارية الوطنية إلى تحمل مسؤولياتهم لإعادة ترتيب البيت الداخلي وإنقاذ المنظمة”.
ويأتي حديث عباس على خلفية أزمة بين الفرع الجهوي والأمين العام نورالدين الطبوبي، حيث تم تسريب مكالمة هاتفية نسبت للطبوبي في يناير الماضي وصف فيها الاتحاد الجهوي للشغل في صفاقس بـ”المافيا”. وفي ردّه على ما جاء في التسريب قال الأمين العام المساعد للاتحاد التونسي للشغل صلاح الدين السالمي إنه “فضيحة تاريخية غير مسبوقة”.
وقدّم الطبوبي اعتذاره للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس، إلا أن الأمر وفق مراقبين يتجاوز الاعتذار، فكثيرون يحمّلون الطبوبي وسياساته ما يعيشه الاتحاد اليوم من أزمات، والدعوات إلى عقد مؤتمر استثنائي تتجاوز جهة صفاقس.
ووفق الصحفي والمحلل السياسي سفيان الأسود، “باعتذار الطبوبي يمكن أن ينجح الاتحاد في نزع فتيل التوتر مع جهة صفاقس فقط، لكن إذا فشلت الهيئة الإدارية في تحديد موعد المؤتمر فإن الصدع داخل المنظمة سيزداد”. ويقول الأسود لـ”أفريقيا برس”: “سينجح الاتحاد في تجاوز الأزمة إذا نجحت الهيئة الإدارية في تحديد موعد المؤتمر القادم”.
في ذات السياق يذهب المحلل السياسي صبري الزغيدي، لافتا في تصريحات لـ”أفريقيا برس” إلى أن “الأزمة في الاتحاد العام التونسي للشغل ليست مرتبطة بمجرد تقديم اعتذار، بل هي أزمة أعمق من ذلك وتعود لسنوات في علاقة بإدارة مشاكل وأزمة المنظمة الشغيلة، كان هناك فشل في إدارة هذه الأزمة التي عمقها الفصل 20 ثم مؤتمر صفاقس”.
وفي تقدير الزغيدي: “تجاوز الخلافات داخل المنظمة مرتبط أكثر باحترام القانون الأساسي والنظام الداخلي، وحصر الخلافات داخل هياكل المنظمة ثم يكون الفيصل بين الفرق المختلفة فيما بينها، أعتقد أنه على الهيئة المديرة لملة تلك الخلافات وحصرها داخل الهياكل، وهي خطوة مهمة في اتجاه تقريب وجهات النظر حول ما عرف بمخرجات المجلس الوطني الأخير”.
يقول صبري الزغيدي لـ”أفريقيا برس”: “المنظمة الشغيلة اليوم في حاجة إلى أن تكون أكثر صلابة وأكثر احتراما للقانون الأساسي، وهناك فرصة استعادة الصورة القديمة في ظل وضع اقتصادي رديء زادته الأرقام المرتفعة في نسبة البطالة والفقر، وفي حين لم ينجح الخطاب الرسمي إلى الآن في تقديم رسائل طمأنة”.
تعتبر الأزمة التي يعيشها الاتحاد العام التونسي للشغل اليوم أكثر من مجرد خلاف داخلي أو صراع على القيادة؛ بل هي أزمة تمسّ ركائز العمل النقابي والاجتماعي في البلاد.
ويلخّص هذه الأزمة النائب محمد علي بقوله في تصريحاته لـ”أفريقيا برس”: “أزمة الاتحاد سبب رئيسي في أزمة المجتمع التونسي في كل جوانبها الاقتصادية والاجتماعية تتقاطع مع عجز السلطة عن الإيفاء بتطلعات الشعب التونسي ومطالبه في الحرية والشغل والكرامة التي رفعت في 14 جانفي 2011. والانقسام الأخير في صف الاتحاد لن ينتهي باعتذار الأمين العام خاصة وأن الفرقاء سلكوا طريق اللاعودة وستظل العاهات حتى بعد المؤتمر القادم تشلّ دوره وتمنع معافاته”. وبالتالي، فإن إصلاح الاتحاد لم يعد ضرورة يطالبها بها النقابيون فقط، بل هو شرط جوهري لإنقاذ المسار الوطني وحماية مستقبل العامل التونسي.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس