إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. تراوحت تعليقات التونسيين حول خبر “تبرّع العراق بـ تونس بـ50 ألف طن من القمح” بين السخرية والغضب، وسط جدل ربطه المعلّقون بالقمة العربية التي ستحتضنها بغداد يوم 17 ماي، ومسعى الحكومة العراقية إلى “استقطاب” الرئيس قيس سعيّد وإقناعه بالمشاركة بعد تردد أصداء عن غياب محتمل، ليتطور هذا الجدل إلى انتقادات طالت السيادة الفلاحية في تونس والفشل الذي تعاني منه المنظومة الزراعية في بلد كان يلقّب بـ”مطمورة روما” كناية عن ثرائه الفلاحي وأراضيه الخصبة.
بدأ الجدل بسخرية من العناوين، فبينما جاء بيان الحكومة العراقية بعنوان “العراق يتبرّع بـ50 ألف طن من الحنطة إلى تونس” كانت الصيغة التونسية المتداولة كالتالي: “العراق يهدي تونس 50 ألف طن من القمح”. ولم يفت ذلك التونسيين الذين تحسّسوا من فعل “تبرّع”، كما أن لكلمة “الحنطة” في تونس دلالة سلبية ترتبط أكثر بالأكل الذي يقدم للمواشي.
ولخّصت الصحافية منية العرفاوي ذلك في تدوينة ساخرة جاء فيها: “المواقع العراقية: العراق #يتبرّع للجمهورية التونسية بـ 50 ألف طنّ من الحنطة. مواقع تونسية: العراق #يهدي تونس 50 ألف طنّ من القمح…. ما فهمتش (لم أفهم) حاشمين (خجلون) بالتبرّع أو بالحنطة”!!.
وكان مجلس الوزراء العراقي قال في بيان له: “في إطار دعم العراق للدول العربية، قرر المجلس التبرع للجمهورية التونسية بكمية 50 ألف طن من الحنطة، هدية من الشعب العراقي إلى الشعب التونسي الشقيق”.
غاب التعليق الرسمي على هذا البيان، فيما شكر بعض التونسيين في تدوينات لهم العراق على هذه اللفتة، أما الجانب الأكبر منهم فانتقدها، واعتبروا أنها “مغازلة بلا قيمة تذكر لحثّ تونس على المشاركة في القمة العربية في بغداد، التي تتطلع لتأمين أعلى حضور دبلوماسي ممكن وإنجاح القمة”، فتونس تستهلك سنويا حوالي 3 مليون طن بمعدل 250 ألف طن في الشهر، أي أن ما تبرع به العراق لا يكفي التونسيين استهلاك أسبوع واحد.
وقال الحقوقي التونسي محمد الرشيد، الذي قضى سنوات طويلة في العراق حيث درس في جامعة بغداد لـ”أفريقيا برس”: “العراق كان يقدّم الثقافة والعلم… لا الحنطة… خاصة لتونس. جيل كامل يدين للعراق بتعليمه”. ويشاطره الرأي المحامي والناشط السياسي نجيب الحمامي، الذي قال إن “التحول من الدعم الفكري إلى الدعم المادي هو بمثابة شهادة على إخفاق الدولة في بناء دولة مؤسسات قوية قادرة على تلبية احتياجات مواطنيها”.
وأضاف الحمامي في تدوينة له: “… العراق، الذي كان يمدّ تونس بالأدوات الفكرية والعلمية، أصبح يرسل لها الحنطة، في تحوّل رمزي يعكس التدهور الخطير الذي تعيشه تونس على جميع الأصعدة”.
واعتبر أن “هذا التحول لا يمثل مجرد تغيير في نوعية الدعم، بل هو نتيجة مباشرة للفشل المستمر في السياسات الاقتصادية والتعليمية للحكومات التونسية المتعاقبة. السلطة في تونس، بدلا من أن تركز على تطوير قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية، انشغلت بالصراعات السياسية والمصالح الضيقة، مما أدى إلى تفشي الفقر، وارتفاع معدلات البطالة، وتدهور الخدمات العامة. هذا الفشل الحكومي ترك الشعب التونسي يواجه الواقع القاسي، حيث أصبح الحصول على مواد غذائية أساسية مثل الحنطة أولوية، بعد أن كانت البلاد تطمح إلى بناء مجتمع قائم على المعرفة والتقدم”.
تعطي تدوينة نجيب الحمامي الموضوع أبعادا أعمق من جدل استعمال مصطلحات وغاية بغداد السياسية. وتحول هذا الجدل إلى انتقاد لسياسات الدولة التونسية في مجال قطاع حيوي هو قطاع الفلاحية، حيث يقول القيادي في حركة البعث صهيب المزريقي لـ”أفريقيا برس”: “الهبة التي تلقتها تونس من العراق هي عادية وطبيعية وتندرج ضمن العلاقات العربية المتينة. وهنا أنوه بأن العراق كان سندا تاريخيا لتونس على مستوى المساعدة في تشييد الجامعات وطباعة الكتب التي درست بها أجيال متعاقبة وهذا لا حرج فيه. ولكن الإحراج يتمثل في ضرورة الوعي بأن تونس تاريخيا أرض الريادة الفلاحية واقتصادها مرتكز بالأساس على الفلاحة وهو ما يتطلب اليوم سياسة فلاحية عبر رسم خارطة إصلاحية علمية مبنية على رؤى خبراتية أكاديمية مع الاعتناء بالفلاحين بذور وأسمدة وأدوية وغيرها من أجل استرداد تونس مكانتها على المستوى الفلاحي وهذا ما نشهد غيابه منذ أعوام”.
ويذهب النائب في مجلس نواب الشعب ظافر الصغيري إلى أبعد من ذلك حين وصف الهبة العراقية لتونس بأنها “فضيحة وطنية”. لكنه استطرد موضحا في تصريح لـ”أفريقيا برس”: “رغم الإيجابيات المرتبطة بالمساعدة العراقية، إلا أن ذلك يثير العديد من التساؤلات حول واقع الزراعة في تونس… اللوم يجب أن يُوجه للحكومات التي أهملت القطاع الزراعي… لدينا 3 ملايين هكتار صالحة للزراعة، مما يستدعي تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، رغم التحديات وسنوات الجفاف”. واعتبر أن العراق تمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي بفضل سياسات تشجيع الفلاحين.
وفي ذات السياق تذهب المستشارة السياسية سماح الكافي، لافتة إلى أنه “بعد شكر العراق على هذه المبادرة الأخوية، علينا أن نصمت لحظة، ونسأل أنفسنا بصدق: كيف وصلنا إلى هنا؟ تونس، بلد الفلاحة والسياسات الزراعية الناجعة، والأرض الطيبة، أصبحت اليوم بحاجة إلى مساعدات غذائية لتطعم شعبها… هذا ليس إنجازا للحكومة بل فضيحة وطنية تكشف فشل السياسات الزراعية، وغياب التخطيط، وترك الفلاح التونسي وحيدا يواجه الجفاف وضعف الدعم”.
وتشدد الكافي: “قبولنا بهذه المساعدة لا يقلل من سيادتنا ولا من كرامتنا كشعب، لكنّه يعري تقصير حكومات متعاقبة عجزت عن تأمين أبسط حقوق المواطن”. ويتفق معها النائب بوبكر يحيى الذي قال لـ”أفريقيا برس”: “تونس في أشد الحاجة لتغطية النقص الحاصل في مادة القمح اللين من أجل المحافظة على دعم السوق بالمواد الاستهلاكية الضرورية، وسبق أن أطلق ديوان الحبوب طلب عروضا لشراء 75 ألف طن من القمح اللين وفي إطار السياسة العامة للحكومة العراقية الرامية لدعم الدول العربية وإنتاجها الوفير من هذه المادة قررت التبرع لتونس بـ 50 ألف طن من القمح وهو إجراء يرمي إلى مساعدة الشعب التونسي لتخطي الصعاب التي يمر بها خاصة بعد فترة من الجفاف”.
ويضيف يحيى: “يمكن أن نعتبر هذا تمشّ جديد يهدف إلى تعزيز العلاقات بين البلدين في المجال الاقتصادي وبين بقية الأقطار العربية ومبدأ تعزيز للثقة بينها كما أنه يمكن أن يكون أساسا لمزيد التواصل والتعاون من أجل حلحلة عديد القضايا الأخرى المطروحة عربيا ودوليا وهو شكل من أشكال التضامن العربي”.
“وأعتقد أنه لابد من مزيد دعم العلاقات الثنائية بين البلدين على جميع الأصعدة ونحن نثمّن كل هذه الإجراءات، أما الردود التي سجلت على الساحة فتدخل في باب الإساءة للشعب التونسي ومحاولة لزعزعة الاستقرار من أجل غايات سياساوية ضيقة حيث لم نلحظ أي ردود فعل بهذا المعنى عندما يتعلق الأمر بتبرعات من دول أخرى غير عربية”.
وبعيدا عن هذا السجال والمواقف المتباينة فقد كان يُطلق على تونس سابقًا “مطمورة روما” نظرًا لموقعها الاستراتيجي في المنطقة وخصوبتها الزراعية، حيث كانت تعتبر المصدر الرئيسي للإمدادات الغذائية لمدينة روما القديمة. هذا اللقب يعود إلى فترة السيطرة الرومانية على شمال إفريقيا، وخاصة بعد أن أصبحت تونس جزءًا من الإمبراطورية الرومانية بعد الحروب البونيقية. تتميز تونس بتربة خصبة ومناخ معتدل جعلها منطقة زراعية غنية، خاصة في إنتاج الحبوب والزيتون، الأمر الذي جعلها مصدرًا رئيسيًا للموارد الغذائية لروما، التي كانت تعاني من نقص في المواد الغذائية في فترات معينة.
إلا أن الوضع الزراعي في تونس اليوم يواجه تحديات كبيرة، حيث تعاني البلاد من صعوبات في توفير الحبوب، وعلى وجه الخصوص القمح، الذي يعد من أبرز احتياجاتها الغذائية. في ظل هذه الظروف، جاء تبرع العراق الأخير بتقديم 50 ألف طن من القمح لتونس، كخطوة وان عكست التضامن العربي في مواجهة الأزمات الزراعية، لكن مع ذلك، ولدت هذه الخطوة استياء لدى الشعب التونسي، الذي كان يصدّر في الماضي محصولاته الغذائية إلى الخارج، ليجد نفسه اليوم في وضع يحتاج فيه إلى دعم الآخرين. هذا التغيير يعكس حجم التحديات التي يواجهها القطاع الزراعي في تونس اليوم، ويزيد من الشعور بالإحباط لدى المواطنين الذين كانوا في يوم من الأيام مصدرًا رئيسيًا للموارد الزراعية.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس