إلهام اليمامة
أفريقيا برس – تونس. بين قراءات الخارج القلقة وسردية الداخل المنقسمة، تقف تونس على مفترق طرق حاسم. فبين من يرى في مسار ما بعد 25 جويلية انزلاقا نحو “الاستبداد”، ومن يعتبره تصحيحا لمسار ديمقراطي مشوّه، يتواصل الجدل حول مستقبل البلاد.
في هذا السياق، تواصل “أفريقيا برس” مع خبيرين دوليين بارزين لرصد كيف يُنظر إلى تونس من الخارج، في ضوء التحوّلات السياسية والقضائية التي تشهدها البلاد. تحدثنا إلى كلّ من سارة يركس، الزميلة الأقدم في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، وريكاردو فابياني، مدير مشروع شمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، لتقديم قراءة أعمق للواقع التونسي من منظور دولي، واستشراف ما قد تحمله المرحلة المقبلة.
يقدم كلّ من سارة يركس وريكاردو فابياني في تصريحات لـ”أفريقيا برس” قراءتين متقاطعتين لما آل إليه الوضع السياسي في تونس. تتقاطع رؤيتهما حول تحوّل الدولة إلى نظام مغلق، تُقمع فيه المعارضة وتُهمّش فيه المؤسسات، في ظل صمت دولي تُبرره حسابات جيوسياسية تتعلق بالهجرة والاستقرار الإقليمي.
فبحسب الباحثين “لم تعد الديمقراطية خيارا واقعيا في تونس، بعدما فكّك الرئيس قيس سعيّد كلّ ما تبقى من مؤسسات النظام السابق، من البرلمان إلى القضاء، واحتكر السلطة التنفيذية والتشريعية، وقوّض حرية التعبير والعمل الحزبي”.
في الداخل، تبدو المعارضة منقسمة وفاقدة للمصداقية، غير قادرة على بلورة مشروع بديل، ولا على استقطاب الشارع. تعبئة الجماهير تراجعت، والنقابات والمنظمات لم تعد تملك القوة التي كانت لها بعد الثورة، وسط قمع متزايد وخوف واسع.
أما في الخارج، فقد اختار الشركاء الأوروبيون والولايات المتحدة تجاهل هذا التراجع الديمقراطي، بدافع المصلحة: أوروبا تركز على ملف الهجرة، والولايات المتحدة على “الاستقرار” والأمن. ويبدو أن قيس سعيّد يستفيد من هذا “التواطؤ الضمني”، ويواصل تعميق سلطته.
المعارضة خسرت أوراقها
ترى سارة يركس، وهي متابعة عن كثب للشأن التونسي منذ سنوات، أن المعارضة السياسية والمجتمع المدني فقدا ثقة جزء كبير من التونسيين وردّ فعلهم كان بطيئا ومنقسما، مما قلّص من قدرتهم على تقديم مشروع بديل. وهذا الوضع فتح المجال أمام النظام السياسي ليبسط يديه. وتقول في هذا السياق: “لم يتبقَّ سوى القليل من آثار النظام الديمقراطي السابق، بعد أن فكك سعيد المؤسسات الديمقراطية، بما في ذلك الدستور، واستبدلها بنظام يضع كل السلطة تقريبا في يديه”.
وفي تقييمها لدور أحزاب المعارضة والمجتمع المدني منذ عام 2021 وهل فشلت في بناء مشروع سياسي بديل، ترى الخبيرة الدولية أن “أحزاب المعارضة السياسية وقطاعات من المجتمع المدني فقدت مصداقيتها إلى حد كبير لدى الرأي العام التونسي. في أعقاب الإجراءات المناهضة للديمقراطية في عام 2021، لم يقاوم سوى عدد قليل من الجهات الفاعلة أو الأحزاب في المجتمع المدني تفكيك سعيّد للدولة. بمجرد أن أدركوا ما كان يفعله سعيّد، كان الأوان قد فات. اليوم، يفتقرون إلى القيادة وينقسمون، على الرغم من معاناة الجماعات والأفراد من مختلف الأطياف السياسية”.
على غرار سارة يركيس يرى ريكاردو فابياني أن “تونس دخلت بالفعل مرحلة “سلطوية واضحة”، حيث أصبحت مؤسسات الدولة، وعلى رأسها القضاء، خاضعة لهيمنة الرئيس قيس سعيّد، ولم تعد المعارضة قادرة على العمل بحرية أو التأثير في المشهد السياسي”. في تقديره، “لم يعد هناك مجال واقعي لاستعادة المسار في ظل هذا النظام المغلق، إلا إذا حصلت صدمة خارجية كبيرة أو تصدع داخلي”.
تواطؤ الغرب
رغم تصاعد الانتقادات الدولية لما آلت إليه الحريات في تونس، تُوجّه اتهامات متزايدة للاتحاد الأوروبي بالتغاضي عن هذا التدهور، مقابل ضمان تعاونه مع السلطات التونسية في ملف الهجرة. ويُنظر إلى الاتفاقيات الأخيرة بين بروكسل وتونس، خاصة في ما يتعلّق بالتصدّي للهجرة غير النظامية، كدليل على أن أوروبا مستعدة لغضّ الطرف، ما دامت تونس تؤدي دورها في صدّ المهاجرين من الوصول إلى الضفة الشمالية للمتوسط.
وفي هذا السياق، يعتبر الخبيران أن الغرب طبّع مع الوضع الراهن الجديد في تونس، حيث تقول سارة يركيس لـ”أفريقيا برس”: “لم تبذل الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي جهودا حثيثة لمواجهة ما يحدث في تونس في الأشهر والسنوات التي تلت عام 2021”.
وتضيف: “اليوم، يتعاملون مع تونس كما كان الحال في الماضي – مع التركيز على الهجرة، في حالة أوروبا، والتنمية الاقتصادية، في حالة الولايات المتحدة. لم تعد الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي يُعطيان الأولوية للديمقراطية أو الحوكمة أو حقوق الإنسان في تعاملهما مع تونس.
ومن وجهة نظرها “تواجه البلاد مخاطر سياسية واقتصادية واجتماعية قد تُسبب عدم استقرار أو غموضا. لقد زادت حملة القمع من غضب المجتمع، كما أن فشل النظام في معالجة ضعف الأداء الاقتصادي بشكل كاف يُسهم في الاضطرابات الاجتماعية وانعدام ثقة المانحين، كما أن الإخفاقات العديدة في الحوكمة تُفاقم هذه المشكلات وغيرها”.
في المقابل يرى ريكاردو فابياني أن “شركاء تونس الأوروبيون يدركون جيدا مسار البلاد، لكنهم ما زالوا بحاجة إليها لإدارة الهجرة. استقرار هذا البلد يفوق كل الاعتبارات الأخرى، فهو ركيزة أساسية في ملف الهجرة وأمن البحر المتوسط. من غير المرجح أن يتفاعلوا مع هذه التطورات. ما يسمح للرئيس سعيّد بالمضي في مساره دون ضغوط”.
تقييم خارجي مبالغ فيه
رغم أهمية ما قاله الخبيران إلا أن هذه القراءة لا تلقى إجماعا في الداخل التونسي. وترفض شريحة هامة من التونسيين، ممن يؤيدون الرئيس قيس سعيّد، هذه الاتهامات وتعتبرها مبالغا فيها أو مسيسة، بل وترى في التحليلات الغربية نوعا من التدخّل في شؤون البلاد.
وعكس ما يراه الخبراء يرى هؤلاء أن ما يحدث هو تصحيح لمسار ثورة اختطفتها الأحزاب واللوبيات، ويرفضون ما يعتبرونه تدخلا خارجيا في الشأن الوطني. بالنسبة لهم، فإن الإجراءات المتخذة ضرورية لاستعادة سيادة الدولة، وتطهير المؤسسات من الفساد، واستعادة الثقة الشعبية في الحكم، رغم التحديات الاقتصادية والضغوط الدولية.
المشهد التونسي اليوم لا يُختزل في سردية واحدة. فبينما يزداد القلق من مظاهر الانغلاق والتسلّط، فإن جزءا من الشارع لا يزال يرى في الرئيس رمزا لحلم الدولة النظيفة والقوية. وبين ضغط الأزمة الاقتصادية، وحذر الحلفاء الغربيين، واستقطاب داخلي حاد، تبقى تونس معلّقة بين مسارين: إما الانزلاق أكثر نحو نظام مغلق، أو ولادة محتملة لمسار ثالث، لا تُمليه العواصم، بل ينبع من الداخل التونسي ذاته.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس