هالة بن يوسف: تونس لن تتقدم بإقصاء نصف طاقتها البشرية

3
هالة بن يوسف: تونس لن تتقدم بإقصاء نصف طاقتها البشرية
هالة بن يوسف: تونس لن تتقدم بإقصاء نصف طاقتها البشرية

هالة بن يوسف، نائبة رئيسة الاشتراكية الدولية للنساء وعضوة المكتب السياسي لحزب التكتل

أفريقيا برس – تونس. إن التعداد العام للسكان والمساكن لسنة 2024، الذي نُشرت نتائجه في شهر ماي المنقضي، ليس مجرّد جردٍ باردٍ للأرقام، بل هو مرآة قاسية نُصبت في وجه تونس. مرآة تكشف وطناً ينكمش، ويجف، ويشيخ. وطناً ما زال يقاوم، لكن بدافع الإنهاك لا بدافع الرؤية.

وطناً ما زال واقفاً… لكن بفضل من؟ إنه قائم بفضل عموده الفقري: النساء. ودون أي ادعاء، أيها السادة الذين أنتم أيضاً ركيزة أساسية، لنتذكر أن هذا الوطن إنما نبنيه معاً، مواطنين ومواطنات، نعيش فيه ونسهم في دفعه إلى الأمام.

ومع ذلك، يبقى من الضروري إعادة تسليط الضوء على بعض الأرقام… وعلى بعض الحقائق التي ما زال البعض يجد صعوبة في قبولها أو استيعابها. فالقضية الحقيقية ليست في المنافسة، بل في الكيفية التي نعيش بها معاً بعقل راجح، لنصنع مزيداً من الثروة الاقتصادية والثقافية وريادة الأعمال، وقبل كل شيء لنحافظ على السلم الأسري. نعم، فذلك السلم تحديداً قد يكون السبب الاجتماعي الأكثر فعالية لزيادة الناتج الداخلي الخام.

في تونس، النساء في كل مكان: في الحقول، في الإدارات، في المستشفيات، في المدارس، في المختبرات، وحتى في البيوت كعاملات منازل أو مربيات أو ممرضات. يشكّلن أكثر من 33% من رواد الأعمال، ويساهمن بما يقارب 11% من الصادرات الوطنية إلى الخارج. هذا دون احتساب آلاف النساء اللواتي ينتجن يومياً أساسيات الحياة في الزراعة والصناعة والصحة والتعليم والخدمات.

من دونهن، يترنّح التوازن الاقتصادي الوطني. ومعهن، يمكن له أن ينهض شريطة أن يُمنحن الوسائل والاعتراف المستحق.

هنّ يشكّلن 50,7% من السكان، بل وأكثر في المناطق الداخلية حيث غادر الرجال إلى المنفى أو الهجرة السرية أو انغمسوا في انتظار عقيم يلتهم الأيام. أما هنّ، فبقين. يفلحن الأرض، يعالجن المرضى، يعلّمن الأطفال، ينتجن، ويحافظن على البيت والأرض والمدرسة والمجتمع… لكن في الظل، كعمود فقري لدولة غائبة. وكما يقول المثل المعدّل: “العيش معاً بعقل راجح هو نسج اختلافاتنا كما يُنسج السجاد: كل خيط له قيمة، والجمال والصلابة في اكتمال النسيج.”

وإذا ما أخذنا في الاعتبار كذلك الجالية بالخارج، ولا سيما نساءها، وأقررنا بدورها كاملاً، فإن ذلك يعني إدراك أن الذكاء الجماعي الحق لا يُبنى بالإقصاء، بل بنسج روابط متينة بين الداخل والخارج. ليست المسألة حنيناً إلى الماضي، بل هي إستراتيجية: وصل طاقات الوطن بأبنائه في المهجر لبناء اقتصاد أقوى، وثقافة أزهى، وريادة أعمال أكثر جرأة.

إن تونس التي تريد التقدّم لا يمكنها الاستغناء عن من يعرفن الأسواق الدولية، ويتقنّ رموز ثقافات متعددة، ويمتلكن خبرات تقنية، ويستعددن لاستثمار تجاربهن هنا. هذا الذكاء الجماعي المغذّى من واقع الوطن والمفتوح على العالم قد يكون أحد أقوى محرّكات ازدهارنا.

وإذا ما امتلكنا يوماً الحكمة لنجمع هذه القوى، فإننا سنخلق مزيداً من الثروات الاقتصادية والثقافية، وسنعزّز السلم الاجتماعي. فالوطن الذي يعرف كيف يوحّد قواه، أينما وُجدت، هو وطن يمنح نفسه أسباب البقاء، ومقاومة الأزمات، والتكيّف مع التحوّلات التي يفرضها عالم اليوم.

غير أن هذه التحوّلات قد حلّت بالفعل. والأزمة المناخية هي من أشدّها وطأة. ففي المناطق المهمّشة أصلاً، تقع الكارثة أولاً على أكتاف النساء: ماء أقل، أراضٍ خصبة أقل، عمل أكثر، موارد أقل. وتشير البيانات الحديثة إلى أن مئات الآلاف من التونسيين والتونسيات يعيشون بلا وصول منتظم إلى الماء الصالح للشرب. العطش ينهك الأجساد، ويستنزف الطاقات، ويقيّد الحريات. إنه يفرض على النساء رحلات أطول بحثاً عن الماء، ويزيد من أعبائهن البدنية والنفسية، ويضعف الأمن الغذائي للأسر. ومع ذلك، فإن “الذكاء البيئي” لدى النساء، وقدرتهن على إدارة الموارد، وحماية التربة، وابتكار الحلول المحلية، ما زال غائباً عن السياسات المناخية. وهذا الرصيد المعرفي العملي والقديم، المعزّز بخبرة الأجيال الجديدة، يمكن أن يكون ورقة إستراتيجية لتعزيز الصمود المحلي.

وعلى تونس أيضاً أن تتعامل مع معطى آخر لا مفرّ منه: الشيخوخة المتسارعة لسكانها. ليست هذه مسألة مستقبلية بعيدة، بل واقع قائم. ففي عام 2024، كان 16,9% من التونسيين فوق سن الستين، وبلغت نسبة الإعالة 28%، بل قاربت 50% في بعض المناطق الريفية. ومع ذلك، لم يُنفَّذ أي مخطط وطني للتكيّف مع هذا التحوّل الديمغرافي الكبير، ولم تُضمن أي تغطية شاملة.

ومرة أخرى، تتحمّل النساء – بنات، كنّات، جارات، أو مغتربات يرسلن المال – عبء رعاية كبار السن، معوّضات غياب الخدمات العمومية، وغالباً على حساب صحتهن وآفاقهن المهنية. الدولة تنسحب، والمجتمع المدني المنهك بأزمات أخرى يحاول سدّ الفجوات.

هنا يتجلى المعنى الحقيقي للذكاء الجماعي: جمع قوى الداخل والخارج، ودمج المعارف المحلية بخبرة المهجر، وتعبئة المواهب النسائية في جميع القطاعات من الزراعة إلى الصحة، ومن ريادة الأعمال إلى الدبلوماسية، لمواجهة هذين التحديين التوأمين: التغير المناخي والشيخوخة الديمغرافية. فتونس التي تعرف كيف تربط طاقاتها هي تونس قادرة على البقاء، وإعادة ابتكار ذاتها… والازدهار.

أمام هذه الحقائق، لا يكفي تعداد الأزمات، بل يجب تفعيل الرافعات الموجودة وتعزيز ما هو هش منها. فبلدنا يمتلك قاعدة قانونية فريدة في المنطقة، هي ثمرة عقود من النضال والإصلاحات. فمجلة الأحوال الشخصية، الصادرة سنة 1956، ما زالت مرجعاً تاريخياً ورمزاً قوياً لتحرير المرأة في تونس. وقد ألهمت نصوصاً أحدث، مثل القانون الأساسي عدد 2017-58 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، وهو إنجاز كبير يشمل جميع أشكال العنف: الجسدي والنفسي والجنسي والاقتصادي، ويعترف حتى بالعنف البنيوي والمؤسسي.

ومكسب آخر أساسي: القانون عدد 2018-50 المؤرخ في 23 أكتوبر 2018 المتعلق بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، وهو نص رائد في العالم العربي والإفريقي، يقرّ أخيراً أن العنصرية جريمة. غير أن هذه المكاسب، على أهميتها، لا تكفي، إذ تكشف الوقائع الاقتصادية والاجتماعية عن فجوات عميقة: 60% من النساء الريفيات الناشطات يعملن في القطاع غير المنظم، بلا عقود أو حماية اجتماعية، وحوالي 30% لا يمتلكن بطاقة تعريف وطنية، مما يحدّ من وصولهن إلى الحقوق الأساسية، ورغم أنهن يمثلن 65% من خريجي الجامعات، فإن نسبة بطالتهن تبلغ 22%، أي ضعف نسبة الرجال. هذه الأرقام تقول بوضوح: المساواة القانونية لا تعني المساواة الفعلية.

إن مستقبل تونس لن يُبنى على إقصاء نصف طاقتها البشرية، بل على إطلاق العنان لكل كفاءاتها أينما وُجدت، في الداخل أو في المهجر، وفي الحقول أو المختبرات، في المقاولات أو المدارس، وفي مراكز القرار كما في ميادين الفعل اليومي الصامت. إن الاستثمار في قوة النساء ليس ترفاً، بل هو شرط لبقاء الدولة وازدهارها، وضمانة لعدالتها واستقرارها.

ولعل أبلغ ما نختم به هو ما قاله الحكيم العربي القديم: “الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيّب الأعراق”، فإذا كانت الأم مدرسة، فالمرأة بأدوارها جميعاً هي الجامعة التي تُخرّج الأجيال وتبني الأوطان.

فلنجعل من يوم 13 أوت ليس مناسبةً للاحتفال الشكلي، بل محطةً للتعهد الجماعي: أن يكون السؤال من الآن فصاعداً ليس “ماذا تفعل المرأة لبلدها؟” بل “ماذا يفعل هذا البلد لنسائه؟” وحينها فقط سنضع الأساس لتونس أقوى، أعدل، وأقدر على مواجهة الزمن بثقة وأمل.

يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here