عمد العساوي أستاذ مختص في التحول الرقمي وناشط سياسي تونسي
أفريقيا برس – تونس. قابس تُحتضر منذ عقود. مدينة كانت يوماً واحة خضراء مطلة على البحر، فصارت جثة صناعية يختنق فيها الهواء وتئنّ فيها الأرض. بين صمت الدولة وتواطؤ الشركات، تسرّب الموت من مداخن المجمع الكيميائي إلى رئات الأطفال، ومن البحر الأسود إلى موائد الناس.
اليوم تُفتح الأبواب للصين، وتُرفع الرايات الحمراء فوق مصانع الكبريت والفسفاط، في محاولة لإحياء ما مات.
لكن السؤال: هل تأتي الصين مخلّصا أم مستثمرا باردا في رماد تونسي؟
الصين لا تأتي بالعواطف، بل بالتكنولوجيا. تمتلك أكبر منظومة كيميائية في العالم، وأكثر من 3000 مصنع للأسمدة والفوسفوجيبسوم، وتجارب ناجحة في إعادة تأهيل مدن كانت أكثر تلوثاً من قابس، مثل لانزو وتيانجين.
ستأتي الصين إلى قابس بخبرائها ومعدّاتهم، وستقترح حلولا جاهزة:
– أنظمة Scrubbers متطورة لامتصاص الغازات السامة.
– وحدات تحلية وتدوير المياه الصناعية لإغلاق منافذ التلوث في البحر.
– تحويل النفايات الكيميائية إلى مواد بناء ومواد عازلة.
– تركيب نظام رقمي لمراقبة الانبعاثات لحظة بلحظة.
من الناحية التقنية، يمكن للصين أن تخفض الانبعاثات بنسبة %80 في ظرف عامين، وأن تحوّل المجمع من مصدر سموم إلى نموذج لصناعة نظيفة، إذا طُبّق المشروع بعقل دولة، لا بعقل شركة عمومية متعبة.
لكن الخطر ليس في التقنية، بل في الصفقة.
الصين لا تمنح شيئاً مجاناً. فهي لا تدخل أرضاً إلا بحساب الفوائد، ولا تعيد تأهيل مصنع إلا لتفتح طريقاً نحو الأسواق والمواد الأولية. تونس، إن لم تضع شروطها، قد تجد نفسها بعد سنوات تدفع ثمن الصيانة، وتشتري التكنولوجيا، وتمنح عقود التوريد حصراً للشركات الصينية.
الذكاء هنا أن نحول هذه الشراكة إلى مدرسة علمية، لا إلى استعمار تقني جديد.
أن يُفرض على الصين نقل المعرفة والتكوين للتونسيين، وأن تُنشأ وحدة مراقبة تونسية صِرفة، وأن يُمنع أي احتكار لقطع الغيار أو الصيانة المستقبلية.
قابس اليوم ليست مجرد ملف بيئي، إنها رمز لفشل المنظومة الصناعية التونسية، ورمز للبيروقراطية التي أكلت نفسها.
إذا نجحت التجربة الصينية هناك، فستكون قابس أول مدينة في شمال إفريقيا تُبعث من رمادها الكيميائي، وتتحول من مصنع موت إلى مختبر للحياة الخضراء. لكن إذا فشلنا مرة أخرى، فستكون قابس آخر شاهد على أن تونس تعرف جيداً كيف تستقبل الحلول، لكنها لا تعرف كيف تُديرها.
الصين قادمة، والمداخن ستنظف، لكن لا أحد سينظف الضمائر إذا لم نُغيّر عقل الدولة.
القرار الرئاسي خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنه يحتاج إلى عقل تونسي يوازي الصيني، وإلا سنستبدل موتاً بموتٍ آخر، أكثر هدوءا… وأكثر تكلفة.
قابس لا تريد المعجزات. تريد فقط أن تتنفس.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس