أفريقيا برس – تونس. أثارت مبادرة تشريعية عرضها نواب على البرلمان التونسي والتي تهدف إلى تقييد صلاحيات البنك المركزي، جدلا واسعا في البلاد، وسط تساؤلات عما إذا كان التوجه نحو تغيير القانون المتعلق بالبنك المركزي والتفريط في استقلاليته حلا لأزمات البلد ويساعد على تنفيس الاقتصاد المتردي.
وأظهر مشروع القانون مقترحا يجرد البنك المركزي من السلطة الحصرية لتعديل أسعار الفائدة وسياسة الصرف، حسبما ما ذكرته وكالة رويترز. ويقضي المقترح القانوني، بأنه يتعين أن يتخذ مثل هذا القرار فقط بالتوافق مع الحكومة، ولكنه سيكون مطالبا بشراء سندات حكومية أو بتمويل مباشر لخزينة الدولة.
وحذر 27 نائبا في مشروع القانون الذي اطلعت عليه رويترز، من أن البلاد ستفلس حتما إذا لم يتم تغيير القانون الحالي للبنك المركزي، كما أظهر مشروع القانون أنه لن يُسمح للبنك المركزي بتوقيع اتفاقيات مع سلطات رقابة أجنبية، دون موافقة رئيس البلاد.
وتباينت أراء الخبراء بين من يؤيد تجريد صلاحيات البنك المركزي حيث حان وقت لانسجام البنك مع السياسة النقدية للدولة، فيما حذر آخرون من أن هذه الخطوة قد تفتح الباب أمام مزيد من المخاطر الاقتصادية من خلال زيادة التضخم وتعويم العملة.
سيادة نقدية
تلفت أوساط اقتصادية إلى أن تقييد عمل البنك المركزي ليس دائما شيئا سلبيا، لأن استقلالية البنوك المركزية عن الدولة جعلتها مرتبطة بأجندات وتوصيات البنوك الدولية، وهو ما جعل بنوك غالبية دول العالم الثالث تحت وطأة السياسات الخارجية خوفا من العقوبات.
ويؤكد خبراء أن استقلالية البنوك المركزية، رغم أهميتها الاقتصادية، فإنها أداة ضغط لدى مؤسسات الإقراض الدولية على غرار صندوق النقد الدولي، حيث يعمل صندوق النقد على تمكين البنوك المركزية من اكتساب المزيد من النفوذ مقابل إضعاف الحكومات لتحقيق مكاسب أحيانا تكون سياسية خاصة في بلدان العالم الثالث.
وأعرب عبد الرزاق حواص الناطق باسم الجمعية الوطنية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة في حديثه لـ “أفريقيا برس” عن”تأييده لمقترح القانون وهو من ضمن مطالبه على مدى سنوات”، مؤكدا “ضرورة عودة البنك المركزي لإقراض الدولة بشكل مباشر”.
وكشف أن “الإشكال الموجود في القانون الحالي هو الذي يخص الفصل 25 وتحديدا البند الرابع منه، حيث بمقتضاه لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح الفائدة للخزينة العامة للدولة أو أن يقدم كشوفات أو قروض أو سندات مالية”.
ولفت إلى أن”هذا الفصل فرضته البنوك الدولية على تونس منذ سنة 2014، وقد أغرق الدولة في سياسة التداين”.
وتشير أوساط اقتصادية إلى استقلالية البنك المركزي التونسي عن الدولة، في حين لا يعني ذلك استقلاليتها عن البنوك الدولية التي تحاول فرض املاءاتها وإصلاحاتها القاسية على اقتصادات الدول النامية والضعيفة عن طريق هذه البنوك المركزية.
وحسب ما نشره البنك المركزي التونسي سابقا فإنه هناك ممثلين عن فرنسا والاتحاد الأوروبي أعضاء في مجلس الإدارة التابع للبنك المركزي لمراقبة عمل البنك بذريعة أن تونس شريك أوروبي مميز ويجب أن يخضع لمراقبة الاتحاد، وهو ما اعتبره البعض فقدان للسيادة والاستقلال المالي وكشف جميع المعاملات المالية للدولة التونسية أمام جهات أجنبية.
وحذر حواص إلى أن “البنك المركزي مستقل في السياسات المالية منذ عهد بورقيبة، غير أنه وجب تغيير هذا الفصل الذي فرض علينا من الخارج ويؤدي إلى مزيد من التبعية”.
واستحضر تجارب الدول الأوروبية التي فشلت اقتصاديا بسبب اعتمادها لفصل محاكي للفصل 25 منذ سنة 2008، والذي يمنع إقراض الدولة بشكل مباشر، حيث تفطنت دول مثل فرنسا وبلجيكا إلى أن هذا الفصل يزيد الأعباء المالية وقد اتخذوا قرارا بضرورة تعديل القانون الخاص بالبنك المركزي.
وعلى غرار تجارب بعض الدول الأوروبية فقد واجهت دول عربية مثل لبنان صعوبات مالية بسبب إستقلالية البنك المركزي حيث أن جميع رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات الذين تعاقبوا على الحكم خلال العقود الثلاث الأخيرة لم يتمكنوا من إزاحة رياض سلامة الذي بقي حاكما لمصرف لبنان لمدة ثلاثين عاما أي منذ سنة 1993.
ويعد مصرف لبنان المركزي ركيزة أساسية في الاقتصاد اللبناني غير استقلاليته وخضوعه للتجاذبات الحكومية زاد من المتاعب المالية والنقدية للبلد.
ورأى صهيب المزريقي القيادي بحركة البعث في حديثه لـ”أفريقيا برس” أن “السياق الذي طرحت فيه مسألة استقلالية البنك المركزي في سنة 2016 معلوم وهو شرط صندوق النقد الدولي الذي اشترط تنفيذ تصوّرا لخطّة ما أسماه بإصلاح الاقتصاد التونسي”.
وأردف “من ضمن هذه الإصلاحات هو القطاع المصرفي، وذلك من خلال التصديق على 3 قوانين ترتبط باستقلالية البنك المركزي وإصلاح البنوك والمؤسسات المالية ورَسملة البنوك العمومية، إضافة إلى حزمة إجراءات تتنزل في إطار سياسة التقشّف مقابل إبرام قرض بين الجانبين بقيمة 2.8 مليار دولار لم تتحصل منه تونس في الأخير سوى على قرابة 1.9 مليار دولار، وهو جرم على الدولة التونسية الإقتراض من البنك المركزي مباشرة، وأيضا باعتماد حجج من الأدب الاقتصادي النيوليبرالي المبنية على التوقّعات المستقبلية والقائمة على التخويف بانهيار إقتصادي محتمل في صورة عدم الاستقلالية”.
وأضاف المزريقي “بالرغم من أن تونس لم تشهدْ في تاريخها سابقا موجات من التضخّم الجامح في ظلّ بنك مركزي غير مستقل، زد على ذلك أن الدولة أصبحت مطالبة من الإقتراض مباشرة من البنوك التي بدورها تقترض من البنك المركزي ثم تقرض الدولة بفوائد رهيبة تصل حد 100 بالمئة وعليه إرجاع البنك المركزي للدولة وإخضاعه لرقابتها خاصة في ما يتعلق بلجنة تحاليل المالية هو ضرورة سيادية نقدية للدولة”.
ومنذ 2016، اكتسب البنك المركزي سلطة مطلقة في إدارة السياسة النقدية من بينها نسبة الفائدة وسياسة الصرف والتصرف في الاحتياطيات من العملة والذهب. ولكن مشروع القانون المقترح ينص على أن البنك المركزي يمكنه تعديل أسعار الفائدة والقيام بكل العمليات المتعلقة بالذهب والصرف في حدود صلاحياته وبالتوافق مع الحكومة.
توجه خاطئ
وبالرغم من التداعيات الإيجابية في حال وقع الحد من صلاحيات البنك المركزي في مسعى لتخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية، إلا أن خبراء يحذرون في المقابل من أن شراء سندات الخزانة ينطوي على مخاطر، بما في ذلك الضغوط التصاعدية على التضخم، وانخفاض قيمة الدينار التونسي.
ويقول أرام بالحاج الخبير الاقتصادي لـ “أفريقيا برس” أنه “بعد قيامه بقراءة أولية لمشروع القانون، فإنه في الواقع سيفتح الباب أمام الكثير من المخاطر، وهي مخاطر تضخمية بسبب سيطرة السلطة المركزية على البنك المركزي، حيث أن استقلالية البنوك المركزية معمول بها في كل العالم وهدفها الأساسي الابتعاد عن سيطرة السلطة التنفيذية.”
واستدرك “لكن إذا تقوم الحكومة بالسيطرة عليه يعني لجوءها إلى الحلول السهلة لخلاص الأجور والديون”.
وعلق بالقول “كان من الممكن تغيير بعض الفصول خاصة الفصل 25 من القانون الخاص بالبنك في إطار السياسة الاقتصادية للبلاد التي ينخرط فيها، لكن تغييره بالكامل خطير وبالنسبة لي فإن هذا التوجه خاطئ”.
وفي اعتقاده فإن “تغيير القانون سيذهب بنا في اتجاه خاطئ، والاتجاه الصحيح هو تعديل الفصل 25 وربما الفصول التي تخص المسائلة والتواصل مع السلطة التنفيذية، لكن فيما يخص إقراض الدولة بشكل مباشر واستخلاص الديون فهي فصول لا تخدم مصلحة الاقتصاد التونسي، كما لا تخدم صورة تونس في الخارج”.
ويتسق رأي بالحاج مع رأي مصطفى عبد الكبير رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان.
واعتبر عبد الكبير في حديثه لـ”أفريقيا برس” أن “المبادرة التشريعية الجديدة التي تخص البنك المركزي والتي تجعله يعمل تحت إمرة السلطة التنفيذية بمعنى تجريده من إستقلاليته خطوة خطيرة”.
وشرح بالقول “يستوجب على الدول ذات النظام الجمهوري والتي تعتبر نفسها ديمقراطية والتي تريد الحفاظ على التوازنات الاقتصادية والاجتماعية أن تحافظ على استقلالية البنك المركزي بدل التفريط فيها فما يراد به الآن خطير جدا”.
وبرأيه فإن “أصحاب المبادرة لا يفقهون في النظام التسييري المالي وغير مطلعين بشكل كاف على تجارب الدول المقارنة السابقة كما لم يطلعوا على تقرير البنك الدولي لشهر أوت/أغسطس لسنة 2024 الذي أنذر الدول مثل تونس ومصر من إفراغ الدولة للميزانية المقدرة، والتي يجب الحفاظ عليها لتسيير شؤون البلاد مهما كانت الظروف”.
وفي تقديره، فإن “السياسة النقدية المتبعة للبنك المركزي تحافظ قدر الإمكان على صحة الدينار التونسي وعلى ادخارات البلاد من العملة الصعبة، وفي حال تمرير مشروع القانون سيفقد البنك استقلاليته ولن تكون له سياسة نقدية”.
واستنتج إلى أن “تونس إلى حد الآن تعتمد على السياسة النقدية لكن بعد هذا القانون ستعتمد على السياسة المالية وهذا خطير جدا، حيث ستكون هناك صعوبات كبيرة يصعب الخروج منها”. داعيا” إلى عدم التفريط في استقلالية البنك المركزي.”
وخلص بالقول “لقد نجح البنك المركزي طيلة السنوات الأخيرة في كبح جماح السياسيين في التصرف في المالية العمومية ورفضه عديد الطلبات للحكومات المتعاقبة حتى يستطيع أن يحافظ على قيمة التضخم..في الحفاظ على استقلالية البنك المركزي حفاظ على السياسة النقدية وهي منهاج اقتصادي كامل من الضروري أن تحافظ عليه تونس”.
وتعتقد أوساط اقتصادية عالمية أن استقلالية البنوك المركزية مهمة في كسب المعركة ضد التضخم وتحقيق استقرار للنمو طويل المدى، وهي مهمة كذلك لتحقيق استقرار الأسعار، لذلك على الحكومات احترام استقلالية هذه البنوك.
ويتبين حسب دراسة أجراها صندوق النقد الدولي مؤخرا والتي تناولت عشرات البنوك المركزية خلال الفترة من 2007 حتى 2021، أن ” البنوك التي حصلت على درجات عالية في الاستقلالية كانت أنجح من غيرها في إبقاء توقعات الناس بشأن التضخم تحت السيطرة، مما ساعد على بقاء التضخم في مستويات منخفضة”.
وتؤكّد كريستالينا غورغييفا، المدير العام لصندوق النقد الدولي، بخصوص أهمية استقلالية البنوك المركزية بالقول أن “الاستقلال أمر بالغ الأهمية للفوز في المعركة ضد التضخم وتحقيق نمو اقتصادي مستقر طويل الأجل، لكن صناع السياسات يواجهون عديد الضغوط في هذا الشأن”.
وكتبت في مقال نشر على موقع صندوق النقد الدولي “اليوم يواجه محافظو البنوك المركزية العديد من التحديات التي تهدد استقلاليتهم. وتتزايد الدعوات إلى خفض أسعار الفائدة، حتى وإن كانت سابقة لأوانها، وتتزايد مخاطر التدخل السياسي في عملية صنع القرار في البنوك وتعيين الموظفين، ويتعين على الحكومات ومحافظي البنوك المركزية مقاومة هذه الضغوط”.
يمكنكم متابعة المزيد من أخبار و تحليلات عن تونس عبر موقع أفريقيا برس