السويلمي : عسكر يكره الدم ومدنية تراود العسكر على اقتراف المجازر

75

بقلم : نصرالدين السويلمي

رغم استفحال الانقلابات العسكرية في المنطقة، ظلت تونس البلد العربي الوحيد “من غير المماليك” التي لم يستولي فيها الجيش على السلطة ولم يقم بانقلاب ولم ينفذ أي محاولة جدية ترتقي الى مواصفات الانقلاب، ضل عسكر تونس الاستثناء العربي الوحيد من موريتانيا الى اليمن، لم يحدث ذلك قبل الثورة ولا بعد الثورة، وإن كان غياب الجيش عن الواجهة السياسية ساعد في تثبيت حكم بورقيبة وخلفه بن علي، إلا أنه وحين تحرك في الدول العربية الاخرى لم يأتي بثمار افضل من ثمرة الدكتاتورية المدنية المستقرة لدينا، ولعل من نعم الله على ثورة الحرية والكرامة ان وجدت نفسها في حضرة جيش مشدود الى المقرات العسكرية لا يسيل لعابه على المقرات المدنية السيادية.

ولأن الاستثناء التونسي اصبح ظاهرة، فقد عاشت بلادنا أنماط أخرى من الانقلاب ومن محاولات الانقلاب، من رحم حكومة بورقيبة و بواسطة شخصية وافدة من الجهاز الأمني وليس العسكري وقع الانقلاب الأول في البلاد، ثم استتب الأمر.. في عهد بن علي كانت قرقعة التسريبات والاشاعات اقوى بكثير من قرقعة المحاولات الانقلابية الافتراضية التي لم تثبت يقينا. ثم ما لبثت أن خدمت اخبار الانقلابات تحت الدكتاتور العاتية. إلى ان جاءت الثورة، ورأينا بعدها العجب العجاب! كان الجيش يمارس مهامه في أحلك الفترات بانضباط كبير، وكانت لديه قدرة ملفتة على احترام خط التماس مع المدني، لكن ومرة أخرى يطل المدني ليغازل العسكري على الانقلاب، شخصيات مدنية حزبية أو نافذة أطلقت اشارات محتشمة نحو الجيش سرعان ما تحولت سنة 2013 الى دعوات سافرة، قوى مدنية تراود الجيش على نفسه، تدعوه ليدخل بها وببقية القوى المدنية وبالتجربة ككل.

خلال مرحلة دقيقة من تاريخ تونس وحين تعلقت قلوب الطبقة الحداثاوية بالمشير عبد الفتاح السيسي، شاعت في تونس مطالب البيان الأول، جاهرت به الكثير من الشخصيات وبعض القيادات المحسوبة على المنظمات الاجتماعية، ثم ها نحن اليوم نعيش على وقع لغة انقلابية فجة صادرة عن مدني! عن طبيب!

عن مترشح للمنصب الأول في البلاد، يسوّق لحملته الانتخابية بالدبابات ويغذي شعبيته على وقع اخبار الانقلابات، حوّل الجيش الى مادة دعائية! الشيء الذي لم يحدث حتى في عصور الدكتاتوريات الغابرة، ثم أطل علينا رجل الأعمال الملياردير بأخبار الانقلابات، وقدم سيناريوهات هتشكوكية لمحاولة انقلاب لم تسمع بها تونس ولم يسمع بها الجيش ولم تسمع بها المؤسسة الامينة ولا حتى المخابرات، بل ولا حتى الحرس الرئاسي، وحده الملياردير المدني تعرّف الى فصوليها بالتفصيل الممل!!

تلك هي تونس بلاد العجائب! عسكر يكره الدم ككرهه للخيانة العظمى ويفعّل كل خبرته الاحترافية لتجنبه، ومدنية مشينة تعشق الدم، تراود عسكرها على اقتراف المجازر! هنا في تونس وعلى خلاف دول المعمورة، كل الاماني الانقلابية صادرة عن مدنيين، كل الدعوات الانقلابية صادرة عن مدنيين، كل البيانات الأولى الافتراضية صادرة عن مدنيين.. هنا في هذه الدولة، عسكر يحرس البيانات الانتخابية المدنية، ومدنيون يدعونه إلى إصدار بياناته العسكرية! وحدهم أصحاب العاهات الوطنية المستديمة يرغبون في إغراء الثكنات لتخادن القصور السيادية في الحرام.

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي موقع إفريقيا برس وإنما تعبر عن رأي أصحابها

Please enter your comment!
Please enter your name here